عين الشعر الرائية
تتموضع مقاربتنا لإشكالية المرئي ، ضمن منهجية واضحة و محددة ، تتمحور حول الدور المركزي الذي تحتله الرؤية في تحديد مسالك الكتابة الشعرية ، و توجيه حركيتها. و هي منهجية تعتبر الشاعر الذي لا يحظى برؤية كائناته المتفاعلة تحت ناظريه في هيئة حروف وكلمات ، غالبا ما يكون بصدد كتابة لغو آخر غير الشعر . و القصد من الرؤية هنا.
تلك الطاقة الاستثنائية التي توظفها الكتابة الشعرية في مشاهدتها العينية لما يتواجد في مساراتها من أشكال ، و من أجساد، وحالات، و أحوال. و إذا ما نحن اعتبرنا أن عين الشعر، هي امتداد جمالي و معرفي للعين المجردة ، من جهة اشتراكهما معا في خاصية تمييزهما الفيزيائي لهوية الشيء ، إلا أنها/العين لا تلبث – في جانب آخر- أن تؤكد استقلاليتها بوظيفة جد جوهرية ، تتجاوز حدود التمييز البصري للشيء ، إلى مستوى انتقالها به من سياقه الواقعي و الطبيعي ، إلى سياقه الشعري ، المتميز بترميزيته التخييلية .
فالنهر الواقعي- على سبيل المثال لا الحصر- الذي تترقرق مياهه الآن أمامك ، لا يلبث أن يغير منبعه و مصبه و مجراه ، حالما يصبح موضوعا لاشتغال عين الكتابة. أي حالما تكتشف فيه هذه العين ما يجعله جديرا بالتموضع داخل جمالية فضائها ، حيث تلتقطه أصابعها اللآمرئية ، كي تؤثث به ذلك المكان الذي أعدته له بما يكفي من فائق عنايتها. فامتياز الاكتشاف هنا بسماته الانتقائية و التعيينية ،هو القيمة المضافة و الاستثنائية التي تتفرد به عين الكتابة .
إنها تمنح النهر حياتين متوازيتين ،لكل منهما مسارها الخاص بها. يمتد أحدهما هناك على أرضية الواقع ،حيث تقف أنت. بينما يتواجد الآخر هنا ،على بياض صفحة الكتابة الملقاة تحت ناظريك. و لعل هذه الحياة المزدوجة التي أمست الآن في ملكية النهر بفضل انتقاء عين الكتابة له ، هو ما يرتقى به من زمنه الطبيعي ،و حتى الهيرقليطي – إن صح القول- إلى أفق الأبدية ، حيث لم يعد مجرد نهر يكتفي بتوزيع نعمة تدفقه على محيطه ،أو على زواره القادمين إليه- بفعل الصدفة – من أمكنة قريبة أو بعيدة ، بل أمسى فضلا عن ذاك ،أيقونة شعرية يتجدد معينها الدلالي ،بتجدد ما يتردد عليها من اغتسالات.
و نفس الشيء ينطبق على ضفتيه، و كذلك على السماء التي تتأمل وجهها الآن في صفاء مرآته من أعلى أعاليها .كما ينطبق على ما يحيط به من أشجار، قد تكون مثقلة بأعشاش البوم ،أو بأعشاش طيور لا علم لي بتاريخ هجرتها.
فعين الشعر قد تعبر العالم طولا و عرضا ، فقط بغية التقاط صور لنزوات الشرارات الحارقة ، أو رؤية الكائنات التي لا تني قبضة الظلام الحديدية تطمس ما لم يتشكل بعد من ملامحها. رؤية ما يحدث داخل الدائرة ، خارج القوس ،بين زاوية المكعب، وفي غيرها من باقي الزوايا التي تضج بها نوايا المكر الهندسي . رؤية ما يلوح خلسة بين الشمسين .ما يتقلب بين ضوء الفردوس و لهب الجحيم . حيث ما من شيء ثمة أو هنا ،إلا و هو معروض و مرئي ، تحت عين الكتابة ،كما تحت عين القراءة .
و غني عن الذكر، أن عناصر الوجود المرئية بعين الشعر ، لا تندرج جميعها بالضرورة ضمن ثنائية “واقع أصلي” ، ينتهي به المطاف في “متخيل شعري”. بل و عكس ذلك ، يمكن معاينتها مباشرة على مستوى هذا المتخيل، دون أي وسيط مرجعي يتمتع بحضوره القبلي و الموضوعي تحت سماء الواقع .
و في سياق تركيزنا على هذه المعاينة المباشرة لما يحدث على سطح مرايا المتخيل الشعري ، و في قعرها أيضا ، سيكون من الضروري التذكير من جديد ، بوجوب استيفاء تقنية معاينتها هاته، لكافة المقومات التي تتميز بها الرؤية البصرية الفعلية و الواقعية، من حيث قوة الصفاء، و جاذبية السفور. و في ذلك دليل على ديناميتها ، و قابليتها الجمالية لإشاعة ما يكفي من الضوء في فضاء الكتابة ،الذي بقوته تكتسب العناصر شعرية و شرعية وجودها، منزاحة بذلك عن ركاكة التصفيف الكلامي المثقل بحشوده المعجمية ، المفتقرة إلى الحد الأدنى من الحياة .
طبعا نحن لم نستند في عرض الخطوط العريضة لهذه القناعة ،على شهادات شعراء محتملين ،حدسنا بتفاعل نصوصهم مع قوانينها، بل كان منطلقنا نابعا من جدوى الاستئناس بمصاحبات خاصة ، لنصوص أساسية من الديوان الكوني ، و التي تشعر القراءة بأن العوالم المنتظمة طي بنياتها التعبيرية ، هي نتاج امتلاك الكتابة لرؤية شعرية ، معززة بمقوماتها البصرية، التي تواكب بها فتنة انبجاس كائناتها من عمق بؤرة الرؤيا .
و عموما، لا يتعلق الأمر في الكتابة الشعرية بتقصي أثر “اللآمرئي” ، بوصفه إشكالا فلسفيا على درجة كبيرة من الأهمية ،بقدر ما يتعلق بمنظور هذه الكتابة للعالم ،باعتباره مرئيا و متجليا أمام أبصارها، بكل ما يصطخب فيه من علامات و علاقات، خاصة حينما تكون محظوظة بامتلاكها لمجموع تلك العيون الأسطورية ، المتحركة في كافة الاتجاهات، سواء كانت ممكنة أو مستحيلة.
بهذا المعنى يصح القول، إن النظر الحسير، هو وحده الذي يعاني من محنة الاصطدام بحاجز اللآمرئي ،عكس عين الكتابة الشعرية ،الخبيرة بأسرار تفكيكه، و بجمالية الكشف عما يبدو جاهزا للإعلان عن حضوره ،و عن تجليه. طبعا ، ليس من منطلق مغادرته لدائرة اللآمرئي باتجاه مجال المرئي ، بل فقط ،من منطلق استجابته لإشارة الرؤية الشعرية كي يكون في مرمى بصرها.
و التأكيد هنا على سياق الإشارة الذي يحسم في جمالية تجلي المرئي ،مرده إلى أن الرؤية الشعرية لا تكون قابلة للتفاعل في كل وقت وحين، خاصة إذا ما نحن سلمنا سلفا بأنها نهاية مطاف البحث عن التتويج المنتظر و المؤمل لسيرورة طويلة ،مركبة و متداخلة. سيرورة تحول تلك العوامل التي يتعذر على أية مقاربة علمية ، أنتروبولوجية ، أو سيكولوجية، أن تدعي إلمامها بآلية اشتغالها، و بالشروط المؤثرة في نضج واكتمال ما يتخللها من مقومات.
إنها وبفعل هذه العوامل الغامضة ، و غير القابلة لأي تسطيح تنظيري وتفسيري متسرع ، تباغت الذات الشاعرة من حيث لا تحتسب، كي تلتقط -على حين غرة – ذلك الانقلاب اللآمنتظر، الذي يطال جماع حواسها و مشاعرها ، و المجسد في ارتفاع منسوب قابليتها للرؤية و المشاهدة، حيث تتسع دائرة الضوء و الإضاءة ، لتستقطب ما لم يكن من قبل قابلا للظهور ، و للانبلاج ،و التجلي .
كذاك هو “المرئي” المقيم في دفء كمونه، و المتربص باللحظة الملائمة التي يمكن أن تضعه خلسة على خشبة مسرح الرؤية و الرؤيا. و سيكون من الضروري في هذا السياق ،التذكير بأن كائناته هنا ،و انطلاقا من خصوصيتها الشعرية ، ليست معنية بالتماهي مع أشباهها الحاضرة قبليا على مستوى الواقع المعيش. ذلك أنها لا تشبه سوى ذاتها المتروكة لمواجهة مصائر لا قبل للشبيه و للنظير باقتفاء أثرها ، المحفوف بمكائد العصر و أهواله ، سواء في دياجير اليقظة ، أو في كوابيس الحلم .