في معرض كشفه عن أسرار البناء الشعري، كثيرا ما يجد الباحث نفسه، مدعوا لمراجعة غير قليل من الأحكام المبتسرة والتعميمية، التي يتم إسقاطها قسرا، على بعض المتون الشعرية المستقلة بهويتها الجمالية، والمتميزة بوجودها الرؤيوي خارج دائرة الشائع والمألوف.
ومن المؤكد أن هاجس مراجعة الأحكام في السياق الذي نحن بصدده، ظاهرة جد طبيعية، خاصة حينما يتعلق الأمر بالتوقف الاستدراكي عند فتوحات شعرية، غير مبالية بـ»حظوة» موضعتها داخل إطار مفهومي قار، وثابت، بالنظر لكونها مصابة ضمنيا، بعدوى الحركية الدائمة، المتأصلة في صلب العناصر، التي تجد صداها في مفاصل التجارب الإبداعية الكبيرة، المتميزة بحدة انقلابها، على كل ما يعتقد أنه مندرج بالقوة والفعل في دائرة «المشترك».
ولعل أهم سمة ملازمة لهذه التجارب، قابليتها المتجددة للحديث إلينا، من مختلف الزوايا الدلالية، التي ينهض عليها معمارها الشعري، بصرف النظر عن انتماءاتها المكانية والزمانية.
والملاحظ أن المقومات التي تتحقق بها هذه القابلية، تتميز بفرادتها، من منطلق تماهيها مع جوهر القول الذي تتشكل فيه ومنه. ذلك أنها ليست بالضرورة جاهزة، ومسكوكة قبليا، في صيغة مقولات واضحة ومعلومة، حيث لا يمكن الحديث عن مقومات جمالية بعينها، تمارس دورها المحدد في تفعيل قابليتها للحديث إلينا، بما تعنيه كلمة الحديث هنا من تنويه باستمالتها الاستثنائية لفضول التلقي، من خلال وضعه في سياق تواصلي، وتحفيزي، كي يتفاعل بحرية وتلقائية مع تلك النداءات الغامضة والصادرة عن حركية المكونات الكامنة في تضاعيف العمل.
ويمكن القول، إن الطابع العام لهذه المقومات، يتجسد في امتلاكها لشروط جمالية مخصوصة، تتيح لها إمكانية الترحال عبر فضاءات القراءات المنفتحة على مرجعياتها المتعددة والمتنوعة. مع الأخذ بعين الاعتبار، اختلافها من تجربة لأخرى، انسجاما مع طبيعة هويتها الشعرية، أي انطلاقا من رؤيتها الذاتية، لذلك التفاعل الشائك والمعقد القائم بين الأثر الشعري، وما يوجد حوله من عوالم. وهو تفاعل تتداخل فيه الرؤية الفلسفية، بالشعرية بالجمالية.
مع الإشارة إلى أن المقومات التي تسمح – على سبيل المثال لا الحصر – للقصيدة الجاهلية بممارسة ترحالها المنفتح في فضاء القراءات، تختلف عن تلك، المنتمية إلى أزمنة وأمكنة شعرية مغايرة. باعتبار أن المنهجية التي يقارب بها شعر امرئ القيس، تختلف مبدئيا عن تلك الموظفة في مقاربة تجارب تنتمي إلى العصور اللاحقة، من قبيل تجربة المتنبي، أبي تمام، كافافيس، سان جون بيرس، أو إيزرا باوند.
إلى آخر ما تطالعنا به الأعمال الحداثية، من أسئلة منفتحة على الأفق الكوني.
والجدير بالذكر، أن المسارات الشعرية العميقة، غالبا ما تتعرض للتشويه من قبل القراءات التي تكون أسيرة مرجعيات نظرية جاهزة، فتتخذ عن سبق إصرار، من النصوص الشعرية، ذريعة للبرهنة على مصداقيتها، دون إيلاء أي اهتمام لرصد ما تمتلكه هذه النصوص، من مقومات جمالية، هي الأصل في وجودها. ويتمثل ذلك في استنادها/القراءات إلى رؤية تعميمية، تكتفي بإعادة توظيفها للثيمات المتداولة والمهيمنة في الخطابات التنظيرية، قصد إكراه التجربة على الاندراج ضمن خانات هذه الثيمات، بصرف النظر عن قابليتها لذلك أو عدمها.
وكما هو معلوم، فإن هذا النوع من القراءات، هو الأكثر حضورا في الممارسات النقدية، بقديمها وحديثها، التي رغم اعترافنا المسبق بأهميتها، خاصة على المستوى الأكاديمي والديداكتيكي، إلا أنها لن تعفينا من التساؤل عن جدوى الامتثال إلى منطق الإجماع النقدي، الذي من تداعياته، محو الحدود الفاصلة بين التجارب، وطمس ما تتميز به من تباينات جد نوعية.
إلى جانب التساؤل عن جدوى إسقاط مقولات نظرية جاهزة، على مجموع المسارات الشعرية المعنية بالقراءة، بمعزل عن مكوناتها المفارقة، التي تعتبر بحق، جوهر كل قول شعري. وهي على العموم، قراءات تفتقر إلى الحد الأدنى من الحس المعرفي والإبداعي، وتساهم لا محالة في إنتاج مشهد شعري، مصاب بآفة التصنيف، التي تحرمه من تبيان ما هو أساسي وجوهري في التجربة.
على ضوء هذه الإشارات، سنعتبر أن الانزياح الممنهج عن منطق الاشتغال بالبنيات المشتركة في التجارب الشعرية، هو السبيل الأقوم لتمييز طبيعة حركيتها عن غيرها، بوصفها متملكة لإوالياتها الذاتية، التي تحفر بينها وبين غيرها من التجارب حدا فاصلا، يتعذر تجاهله والاستغناء عنه، ذلك أن الخاصية الأكثر أهمية في الكتابة الإبداعية ككل، هي بامتياز خاصية «المختلف» وليس «المشترك» كما تتوهم عموم الخطابات النقدية. علما بأن الانحياز إلى أفق «المختلف»، يسمح بوضع التجارب الإبداعية، في مسارها الجدير بها، بعيدا عن أي نزوع تجميعي، من شأنه حشرها وتكديسها داخل الخانة نفسها، كما لو أن الأمر يتعلق بمنجز أحادي، مذيل بتوقيعات متعددة.
وإذا ما نحن سلمنا سلفا، بأهمية الدور الذي يلعبه المشترك، في تقوية روابط الهويات، كشرط مركزي، لتحقيق حظوة التفاعل والحضور، إلا أن الدور ذاته سيتحول مباشرة إلى عامل تخريبي، فور ترحيله إلى حقل مقاربة التجارب الشعرية، التي تشتغل مبدئيا في الجهة المضادة منه.
والطريف في الأمر، أن هذا النزوع يتقدم إلينا في صيغة ممارسة شبه خيرية، هدفها الأول والأخير، «رد الاعتبار!» إلى الرموز الشعرية، على سبيل «الاعتراف»! والاحتفاء بعطاءاتها، من خلال حفظ «منتوجها « في خانة العناية المشتركة.
علما بأن مقولة المشترك في مجال المقاربات الشعرية، تستمد سلطتها من مرجعيات تقع خارج الحقل الإبداعي، التي يهيمن فيها حضور المقدس، ضمن غيره من الاعتبارات المدنية، التي تراعى فيها أولويات ذرائعية، لها صلة مباشرة ببرمجيات المصالح العامة. وفي السياق ذاته، يمكن الحديث عن «المشترك» الإنساني والحضاري، والمشترك العرقي والديني، فضلا عن المشترك اللغوي، والمشترك المذهبي والسياسي.
وهي مجالات تتميز بحساسيتها المجتمعية والحياتية، الحريصة على تعميق الوعي بأهمية المقوم الشمولي، باعتباره رهانها المركزي، الناظم لمختلف ما يتفاعل فيها من منظومات ومقولات، حيث لن يكون ممكنا، الحديث عن تواصل حضاري وإنساني، دون استحضار وتمثل المؤهلات «المشتركة» التي من شأنها القطع مع القضايا الخلافية كافة، التي يحدث أن تتخلل الحياة العامة.
وهو التوجه ذاته، الذي يتحكم في تماسك وتكامل باقي المجالات المشار إليها. ما يدعونا للقول، إن «المشترك» يصبح ضدا على أي اختلاف نوعي، الحجر الأساس، المؤثر في صياغة مختلف أنماط الهويات الموجودة على المسرح الحياتي، جهويا وكونيا، خاصة إذا ما نحن سلمنا بأن الهوية، وبصرف النظر عن نوعيتها ومرجعيتها، تعتبر رابطة رمزية، تلتزم بقوانينها وقيمها، مختلف الفعاليات المعنية بتحقيق الأهداف مشتركة، التي تستمد منها دلالة وجودها.
حيث يمكن القول، إن المشترك، وعلى خلفية سريان تأثيره الشامل والعام في الحياة اليومية، يحتل مركز الرؤية، التي تغدو تبعا لذلك، عاجزة تماما عن تبين الحقائق الخفية للموجودات والمتميزة جوهريا باختلافاتها. إنه العجز الناتج عن معاناتها مما يمكن توصيفه بـ»الخداع التأويلي»، على غرار مقولة «الخداع البصري»، كي لا ترى أمامها في نهاية المطاف سوى «مشتركها «، بدل انكبابها على تقصي مقومات المختلف الكامن بين تضاعيف ما لا تراه.
وإذا ما نحن سلمنا سلفا، بأهمية الدور الذي يلعبه المشترك، في تقوية روابط الهويات، كشرط مركزي، لتحقيق حظوة التفاعل والحضور، إلا أن الدور ذاته سيتحول مباشرة إلى عامل تخريبي، فور ترحيله إلى حقل مقاربة التجارب الشعرية، التي تشتغل مبدئيا في الجهة المضادة منه، أي جهة منهجية الاختلاف، بوصفها المؤشر الفعلي على عمق الاختلافات الحتمية، الكامنة في تضاعيف كل مشترك، يبدو من حيث الظاهر، معززا بسلطته الحريصة على نفي كل ما يتعارض مع قوانينه السائدة والمهيمنة.
رشيد المومني : شاعر وكاتب من المغرب