شعرنقد

حسب الشيخ جعفر: التجريب بلا هوادة

يعد الشاعر حسب الشيخ جعفر أول شاعر عربي راهن على تجريب السونيت، مجاريا ما كتبه شكسبير من سونيتات وعددها مئة وأربعة وخمسون، فكتب هو مئة وتسعة عشر سونيتا في ديوانه «كران البور».


ولا شك في أن حسب الشيخ جعفر ليس أول شاعر كتب السونيت الشكسبيري، لكنه أول شاعر ـ على حد علمنا ـ وضع ديوانا كاملا بهذا العدد من السونيتات في الشعر العربي، مُنهياً بذلك مشوارا طويلا قطعه في التجريب مستجيبا لتطلع ذاتي، أو لعله كان تحديا راهن على إنجازه وبغض النظر عن جدوى هذا الإنجاز بالنسبة إلى تجربته الشعرية كلها أعني أهمية ما أضافه ديوانه «كران البور» إلى دواوينه السابقة.

علما أن الشاعر لم يسم نصوص هذا الديوان سونيتات، بل هو لم يستعمل كلمة السونيت ولا كلمة القصيدة إطلاقا، تاركا للقارئ استجلاء الأمر بنفسه.

ولعل أهم سمة مأخوذة عن السونيت الشكسبيري هي الاحتفاء بالطبيعة، وهو ما يتضح من كثرة ما وظفه حسب الشيخ جعفر من نباتات البيئة الجنوبية للعراق كالنخل والقصب وحيواناتها وطيورها واتبعّه في «كران البور» الذي ابتدأ باستهلال تراثي من ثلاث مقولات للجنيد وابن مبارك ويزيد الرقاشي كعتبة غايتها لفت نظر القارئ إلى أن السمة التراثية هي الغالبة على قصائد الديوان، أو كتهيئة استباقية للذخيرة المرجعية التي ينبغي أن يتزود بها القارئ وهو يعاين نصوص الديوان كمتون وحواش.

وأول قصيدة في الديوان هي (الحداة) وتبدأ بأربعة أسطر وقافيتين ت/م، ت/م ثم أربعة أسطر وقافيتين ت/ أ، أ/ت ثم أربعة أسطر وقافيتين أ/م، أ/م وتختتم بسطرين وقافية واحدة همزية، وتطغى أجواء الترحال على موضوع القصيدة، بالتخييم وإشعال النار والاجتماع على نية تبادل الحوارات والصلاة.

ويدلل وضع الحوارات بين قوسين كبيرين بعد قول القول على مقصدية استثمار السرد على مستوى الدلالة واستثمار القافية على مستوى الصوت. وقد دفعت هذه المقصدية الشاعر حسب الشيخ جعفر إلى الإكثار من استعمال (قال وقلت) في بعض القصائد.

وإذا كان استعمال الكلمات المعجمية مثل (الكرى، السنا) قد سهَّل على الشاعر مهمة البحث عن القافية، فإنه بالمقابل أوجب عليه وضع هوامش تُعرِّف بمعاني هذه الكلمات المعجمية، كما أوجبت هذه الهوامش على الشاعر وضع ترقيمات صغيرة تُوشحت بها بعض الأسطر، وأثرت أيضا في الصيغة الطباعية لما ينبغي أن يكون عليه نمط السونيت.

ومع انقسام الصفحة طباعيا إلى قسمين علوي وسفلي، انفصل المقطع الأخير فيها عن المقاطع الثلاثة واقتحمت متون بعض القصائد تخطيطات وبياضات.

وقد عزز استعمال مفردات (السفع، البسر، السعف) في القصيدة التي تلتها وعنوانها (الدمية) أجواء الترحال والإبل والصحراء فزادت كلاسيكية الشعر في التعبير عن الواقع واسترجاع الذكريات وكتابة المشاهدات بحيوية تفيض بالذاتية وممتلئة بالمشاعر الجياشة.

وبعض القصائد ذات عنوانات عصرية، أما القصائد التي استعمل فيها الشاعر حكايات شرقية قديمة، فلم تخل أيضا من ألفاظ قاموسية، وكثرة استلهام قصائد الشعراء القدماء كالسري الرفاء وتأبط شرا وماء السماء وابن سلكة، كان قد عمَّق كلاسيكية الديوان.

ولم يقلل الشاعر في قصيدة (كران البور) من المفردات المعجمية، بل أكثر فيها من استعمال اللفظ الغريب والوحشي ـ ولعل هذا هو السبب وراء اختيارها عنوانا للديوان؛ فالكران تعني آلة العود:

(أنا لي كراني والهجيرة التقته
تكبو به الصبوات والهبوات منجردا وحيدا
وأرى الحوافر وهي تعرك دفتيه فالتقيه
آنا.. وآنا تحتهن فلا محيد
***
هو آلتي للهو آكلتي.. وثاكلتي الصروخ
في المحصلات ، وفي ابتلائي واكتلائي
يحنو حنو يدي عليه ، فلي التميمة والفروخ
ويدب كالنمل ، الدؤوب إلى اختلائي
***
ولكم نبا عني وفات، فقلت: عف فلا معاد
وسهوت عنه، ألم في المعزاء والعجز السقاط
تحت الطروح من المتون.. فمد أجنحة وعاد
للآخرين (الهُري) منه ولي اللقاط
***
أنا لي كراني التقية واتقي
أكبو به.. وأقول: أي علو عال ارتقي)

وقد يوظف ذاكرته ومشاهداته الموسكوفية كما في قصيدة (غابة الناصية) وتستهل بـ(في ذكرى غائب) ولعله يقصد الروائي غائب طعمة فرمان. وشرح حسب الشيخ جعفر في هامش قصيدة (الغاربون) كيف أفاد من الأسطورة قائلا: (في هذه القصيدة ثلاثة شخوص الشاعر وحارس المنار وأورفيوس وهم في الحقيقة شخص واحد في خيبته أو غروبه فالقوافي تتعفر جائعة في التراب والمنار مهدم مظلم يغطي ملح البحر حارسه السكران النائم ومعشوقة أورفيوس هذه المرة أسيرة عالم سفلي آخر هو عالم الذهب والثراء، وفوق هذا كله تتكاثف غبرة البنود الصافية وهي تحمل رأس أورفيوس أو حارس الضوء أو الشاعر).

وكان شكسبير قد وظف الأساطير في سونيتاته ومنها توظيفه لأسطورة كيوبيد، من منطلق توكيد الأنا لا غير، وهو ما فعله الشيخ جعفر في تناصه مع أسطورة أورفيوس، ما جعل شعره على اختلاف أنواعه ينبع من الذات وينتهي إليها، مؤكدا ضرورة أن تسفر الرمزية عن خيط يدلل عليها وأن لا تبقى غائمة عائمة بلا ضفاف يمكن للقارئ أن يستقر عندها، وعن ذلك قال: (إن الشاعر الرمزي عبر تجاربه الباطنية يراها ملتفة بغلائل من الضوء الليلكي بلون الوجود الشبحي غير الحي وفي لحظات النشوة الفائقة يخترق السيف الذهبي هذه التلاوين الليلكية المتكاشفة).

وللدرامية حضور واضح في قصائد «كران البور» وهي سمة من سمات السونيت الشكسبيري، التي بها دافع حسب الشيخ جعفر عن نفسه إزاء الاتهام الذي وجهه إليه أحمد كمال زكي، وخلاصة الاتهام أن قصائد الشاعر ليست عربية، فرد بالقول: ( رُحتَ تشير إلى قصيدتي بإصبع الاتهام، لأنني حين أكتبها احترق عربيا وأحلم عربيا وأفكر عربيا..

هناك انقلابات شعرية كثيرة في تراثنا الأصيل في القصيدة الواحدة.. إن قصيدتي كلٌ واحد. ولم يكن التنوع في الصوت والصورة إلا محاولة للخروج بها من الغنائية ذات الصوت الواحد وإعطاء القصيدة شيئا من الدرامية).

وفي آخر قصيدة من «كران البور» وهي (ذقون في الرياح) نجد هذه الدرامية طاغية أولا بحركية الأفعال المضارعة وثانيا بالحوارية المونولوجية وثالثا بالتساؤلات التي صعدت حبكة السرد وجعلت القصيدة تبلغ الذروة في الاحتدام الدرامي. وإذا كان الشاعر حسب الشيخ جعفر قد عاد في ديوانه «الفراشة والعكاز» إلى كتابة قصيدة التفعيلة القصيرة، بعيدا عن مواضعات كتابة نمط السونيت، فإن ذلك لا يدلل على نكوص شعري، وإنما هو الاكتمال الذي به حقق الشاعر رهانه متحرراً من أي شرط أو قيد في كتابة قصيدة التفعيلة..

علما أن افتتاحه باستهلال تراثي هو أمر عام عرفت به دواوينه، ولعل الإضافة المهمة التي حققها ديوان «الفراشة والعكاز» هي أنه طوّر تجربة الشاعر في كتابة قصيدة النثر، حتى أن بعضا من قصائد هذا الديوان تحوي من السرد ما يمكننا معه أن ننثرها في شكل قصة قصيرة.

وبعض القصائد ممسرحة لاقترابها من كتابة السيناريو مثل قصيدة (السنونو البيضاء تخطيط تلفزيوني) وفيها الحوار دائر بين الشاعر والراقصة وتختتم بتذييل نثري في شكل ملاحظة لثلاثة احتمالات يمكن بها أن ينتهي الحوار بينهما.

واتخذت قصيدة (الخيط المقطوع) شكل حوارية ممسرحة بثلاثة مناظر لامرأة شابة ملتفة بالسواد، تحمل دمية تستجدي الآخرين ثم يظهر الفنان وهو خارج من الخمارة، وفيها يوظف الشاعر الأغنية التي تترنم بها المرأة لدميتها.

وباستعمال الحوار والاسترجاع الزماني والوصف المكاني تتعقد الحبكة القصصية، وتتصاعد ثم تنفرج وقد وجد الشاعر حاله والصباح يعلمه أن الحلم قد انتهى! ونخلة الشعر تبكي فتاها القروي القائل:

طيرت أوراقاً، وقلت بها أطير
يا طائراً ملقى كسير.


نادية هناوي: كاتبة عراقية

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى