الدراسات الأدبيةنقد

محمد برادة .. مثاقفة مُنتجة ومسار نقدي مُتجدّد

 

  لا يختلف اثنان في كون محمد برادة، يعد واحدا من أهم الأصوات النقدية في المغرب، وفي العالم العربي بوجهٍ عامٍ، فبفضله عرف الخطاب النقدي بالمغرب قفزة نوعية على مستوى الميتا-لغة والتطبيق، وأكبر مثال على ذلك، أن برادة ومنذ ستينيات القرن الماضي إلى وقتنا الراهن، أخذ على عاتقه مهمة اجتراح معابر جديدة ومغايرة للنقد، ليس على المستوى المغربي فقط، وإنما على المستوى العربي بوجه عامٍ، ممارسة وحفراً، وترجمة وتلقيا وكتابةً، ومما لا شك فيه.

فإن هذا المسار النقدي، بقدر ما هو ضاج بأسئلته وإشكالاته، بقدر ما هو منسجم ومتجدد على مستوى بناء المفاهيم ومراجعتها، أو عن طرق وآليات استزراعها في تربة النقد العربي، فمنذ كتابه عن مندور(۱)، الذي يعد مرحلة تأسيسية مهمة لخطاب نقد النقد في العالم العربي، إلى كتاباته النقدية حول الرواية والسرد بشكل عام، لا ينفك برادة على الانغمار في نهر النظريات النقدية الغربية ومحاولات تنسيبها في الحقل الثقافي العربي، بما ينطوي عليه ذلك، من مآزق ابستيمية ومنهجية وتنظيرية، إلا برادة في مسعاه نحو تجديد الرؤى والتصورات بخصوص الخطاب النقدي العربي، ظل ملتحما بهموم الإنسان وطموحاته نحو التحرر والحداثة والتنوير.

لنقل، إن عبوراته النقدية مثال على المثاقفة بمعناها الإيجابي المثمر، لذا، فإن أكثر شيء يُشدد عليه برادة في كتاباته النقدية هو سؤال المثاقفة، ودورها في إثراء المنجز النقدي العربي وتخصيبه، دون السقوط في وهم التبعية العمياء والانجرار وراء تقليد يهدم، بدل ان يخلخل ويبني ويحفر عميقاً في طبقات النقد في مسعى لتجاوز قُصورات المثاقفة ومآزقها.


  • 1 _ النقد وسؤال المثاقفة

   في كتابه عن مندور، ستبرز الحاجة إلى المثاقفة، كرهانٍ يمزج بين الوافد المستجلب والعربي الأصيل، سعياً نحو تغذية مسارات النقد العربي، ولعل اختيار مندور، يَتَعَيَّنُ بوصفه مرجعاً حيّاً للمثاقفة مع الغرب، رغم أن نظرة نُقادنا وكُتّابنا إلى المثاقفة، لم تخلُ من انتقاص، فهي بحسب الشاعر والناقد محمد بنيس “مثاقفة معطوبة”، وقِسْ على ذلك آراء مجموعة من النقاد العرب الآخرين، لكن، برادة بتكوينه الموسوعي، يأبى التموقع ضمن هذه الخانة.

بل يسعى إلى جعلها مثاقفة منتجة ورافداً للإسهام في طرح الأسئلة العميقة والاستفادة منها في خلخلة الخطاب النقدي العربي والعمل على تطويره، والإشكال ها هنا، يتجلّى في هذا التفاوت الحاصل بين ظهور نظرية نقدية في الغرب وتاريخ وصولها وتلقيها عند العرب، ذلك ان لحظة وصولها وانبثاقها في الفضاء العربي، فهي قد تكون استنفذت كل طاقاتها وحمولاتها. يقول برادة بهذا الخصوص: “من بين الأسباب التي حدت بي إلى اختيار دراسة أعمال الناقد محمد مندور، ما لاحظته من تفاوت مستمرٍ بين النقد العربي المعاصر والنقد الغربي.

ذلك أن ثقافتنا تتأخر دائمًا في التعرف على الاتجاهات والمذاهب الأجنبية، وكثيرًا ما يتم التعرف بعد أن تصبح تلك الكتابات مستنفدة لأغراضها عند من صاغوها”(٢)، بيد أن الحقل الثقافي الذي نسجه برادة طوال عقودٍ طويلةٍ من الممارسة النقدية والإبداعية، قمين بأن يفتح منافذ للنظرية والنقد ونقد النقد والتنظير والترجمة والنقد الثقافي المقارن والتأويليات والرواية والقصة.

انطلاقا من وعيه بقدرة النقد على تجديد آلياته وطرق اشتغاله، بدءا بالتفاعل مع جميع التيارات النقدية المستحلبة من الغرب، شريطة التفاعل معها بإيجابية وفاعلية. معنى هذا أن الثقافة العربية في سيرورتها وزمنيتها متأخرة كثيرًا، مقارنةً بالثقافة في الغرب، مما يجعلها في موقع التابع والمنبهر والمتلقِّف لكل نظرياتها ومناهجها وانعطافاتها. لكن ما ينبغي التأكيد عليه، هو أن هذه المثاقفة قد أدّت دورًا كبيرًا في تكوين البنية النقدية العربية، على نحو مباشرٍ أو غير مباشرٍ. وبرادة واحد من النقاد الذين استفادوا منها نظريًا ومعرفيًا وتطبيقيًا. 


  • 2 _ التّصور الغولدماني وشعريّة باختين

  يَتَأَزَّرُ الخطاب النقدي عند برادة، بعددٍ من الرؤى والتّصورات، فهي مادّة كتابيّة تجوب الآفاق الرحبة وتُحاول أن تضع الإنسان في صلب الاهتمام والانشغال، والناظر في مُجمل أعماله النقدية(٣)، سيكتشف أنها لا تتوقف عن طرح الأسئلة والتجديد والتطوير في الأدوات والمفاهيم، إذ تحفل بمظاهر التّحول والتّحررمن فخاخ ومضايق النقد بشكله التقليدي،

فنقد برادة ظلّ منذ عقودٍ، ملتحما بأسئلة الثقافة والتنوير والحداثة والعدالة الاجتماعية والحريّة، خصوصاً أنّ الحقل الثقافي الذي يؤطر التّجربة الكتابيّة عند برادة، ينطلق من ثقافةٍ موسوعية وترحال مستمر بين التيّارات والمناهج، بالإضافة إلى يَتَمَلَّكُهُ من مسارب وطرائق مُستجدَّة في الاشتغال والمقاربة والتحليل، “ومن ثمة تَمَلَّكَ محمد برادة أدوات نقدية إجرائية جريئة، كان له الفضل في تطويعها وتحريرها.

وبالتالي تعميمها، والأمر يتعلق باجتهاداته في مجال التحليل وأيضا الترجمة التي تخص نظرية الأدب وضمنها نظرية الرواية فضلا عن ترجمات أخرى في حقلي الإبداع والفلسفة”(٤)، من هنا، تتبدّى تلك التّصورات الخاصة التي يُقيمها برادة مع العمل النقدي، بحيث هو سيرورة ومعرفة متوسعّة وممارسة مرنة ممتدة،

فجهوده النقدية لا تخلو من مقولات كبار النقاد العالميين والعرب من أمثال: لوسيان غولدمان، وجورج لوكاتش، طه حسين، ومحمد مندور، وعبد الله العروي، وفرانز فانون ورولان بارت وعبد الكبير الخطيبي وأنطونيو غرامشي وغيرهم، وكل هذا حتى يستطيع استجلاء وتقصي الممارسة النقدية وتجديد جهازها المفاهيمي.

  إن نقد برادة واقع في صميم الممارسة النقدية التي تصل الأدب بالواقع الاجتماعي، فهي لا تنفك تظهر حقيقة الأشياء ومعاني التاريخ الماديّ والجدليّ، من خلال تصورٍ خاص للكتابة، “ولاشك أن برادة في بداية مسيرته النقدية، خاصة خلال مرحلتي الستينيات والسبعينيات، تأثر بلوكاش في العناية بالمادة الواقعية، والإيمان بكون الأدب الجيد لا يمكن أن يظل صامتا إزاء البيئة السياسية التي يتبلور فيها”(٥)،

غير أن ما يجعل جوهر الكتابة النقدية عند برادة هو انغمارها في بحر سوسيولوجيا الأدب والقيام بقفزات نوعية وسريعة بين تياراتها وحواضنها، خاصة تيار البنيوية التكوينية مع غولدمان، بيد أن كتابه عن مندور، يُمَهِّدُ لهذه الرؤية الغولدمانية سواء على مستوى التنظيرأوالمنهج، فهو يُصرِّح منذ البداية، أن حقل السوسيولوجيا هو حقل واسع مرن، وباستطاعته  مقاربة النصوص وتحليلها، ومن المؤكد، أن دراسته عند مندور، تُعدُّ أول تجربة نقدية تحرص على استقلالية النص الأدبي، والابتعاد عن البعد الإيديولوجي الذي كرّسته أغلب الدراسات النقدية،

كما أن برادة، وفي إطار مواكبته لتطور سوسيولوجيا الأدب، فقد حرص على الاستفادة من الشعرية الاجتماعية عند باختين، كتصور جديد ومتجدد في القراءة والتحليل والمقاربة،    والحديث عن الأثر الباختيني في دراسات برادة يقودنا مباشرة إلى الترجمة الهامة التي قام بها لكتاب:”الخطاب الروائي(٦)، وهي ترجمة، في حقيقة الأمر، واقعة في صميم الاشتغال السوسيولوجي للأدب عند محمد برادة، “ولاشك في أن القارئ لهذه الترجمة، يدرك وعي محمد برادة بأنه يُقَدِّمُ ناقداً وفيلسوفاً مُختلفاً تَمَيَّزَت أعماله بأنَّها تأسيسية، ما يَتَطَلَّبُ الإلمام بالأسئلة التي تُؤطِّر مشاغله وتصوراته، وبيان حدودها مقارنة بالجهد النقدي الذي سبقه أو الذي عاصره”(٧)،

بهذا الشكل، فَتَحَ برادة منافذ كثيرة للمقولات الباختينية، وجَعَلَهَا تَتَجَاوَرُ مع البنيوية التكوينية لدى غولدمان، ومن شأن هذه المزاوجة الكشف عن جماليات النَّصيات في شعريتها، وفي لغتها، وفي حوارياتها، وفي اشتباكاتها مع الحواشي المؤثرة، لذلك، حرص برادة على تحقيق هذه الفعالية المزدوجة من منطلق توليد رؤى مُتَعَدِّدَة للخطاب الأدبي، معلناً بهذا الخصوص تجاوز الرؤية الانغلاقية الاختزالية كما هو دأبُ القراءة البنيوية.

لقد حاول برادة أن يَتَمَثَّلَ الحواريات الباختينية في عددٍ مهمٍ من الدراسات الروائية:”أسئلة الرواية..أسئلة النقد“- “الرواية ورهان التجديد“، وغيرهما من النصوص التي يَشْغَلُ فيها التحليل الباختيني حيِّزاً مهماً، مما يُؤكد أنه يمتلك وعياً خاصاً بطرقِ تنسيب النظريات المستجلبة من الغرب من باب المثاقفة، بهدف إثراء وتعميق النقاش حول خطاب الشعرية الاجتماعية، وقدرته على التَّمَوقع كخطابٍ يُغَذي فكر الناقد ومشروعه العلمي.


  • 3 – التّوازي بين لغة النقد واللغة الشعرية  

  تتوزع إذن، كتابات برادة بين النقد والسرد، فهو في قرانٍ دائمٍ مع المادّة الكتابيّة في قدرة هائلة على الجمع بين ما لا يُجمع، وفي ذلك، إشارة إلى إمكانية التقارب بين الأجناس الأدبيّة رغم الاختلاف في التصور والرؤى والمنطلقات. إن برادة في مساره النقدي الطويل والمتجدد، دائم البحث عن جوهر الحقيقة وكنه الحياة، مازجاً في ذلك بين لغة النقد الخاضعة للمفاهيم والمرجعيات وصرامة المنهج، وبين اللغة الشعرية التي تُدخلك في متاهات جماليةٍ وفنية.

إذ إن برادة لا يتوسل بكثرة الاستشهادات والأمثلة ولا يُثقل كاهل الدراسات بالمفاهيم والغلو فيها، بل تشعر أثناء القراءة، أنّك بصدد قاءة نص شعريّ أو نص روائيّ طافح بالشعريات واللغة المتخيّلة، وإجمالاً، يمكنني القول، إننا أمام مسار نقدي خصيب متجدد، ولا ينفك عن اجتراح طرائق جديدة ومغايرة للكتابة النقدية، وفي تعالقٍ تام مع النظرية والتطبيق،

كما أن منظوراته للنقد تتجاوز النظرة الاختزالية التبسيطية للأدب، إلى الاتكاء على المنظور السوسيولوجي الذي يجعل الأدب يستفيد من الدلالات الاجتماعية مع الحفاظ على استقلاليته وتحرره من إسار المضمون الاجتماعي.   


  • الإحالات:

1- إشارة هنا إلى كتابه: محمد مندور وتنظير النقد العربي، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط 3، 2005.

2- المرجع السابق، ص 9.

3- يُمكن الإشارة في هذا السياق، إلى البداية الفعلية لمسيرة برادة نقدياً تعود إلى سنوات الخمسينيات، ويعتبر كتاب :”محمد مندور وتنظير النقد العربي” أول عمل نقدي، فقد صدر سنة (1979)، وصولاً إلى الكتاب النقدي الأخير الموسوم بـ””تخييل الذات والتاريخ في الرواية العربية” (2017)، مرورا بعددٍ كبيرٍ من الأعمال النقدية والدراسات والمقالات.

4 – شعيب حليفي: ضمن مقال: “محمد برادة، كاتب استثنائي”، وقائع ندوة: رهانات الكتابة عند محمد برادة، منشورات مختبر السرديات، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بنمسيك، ط 1، 1995، ص: 03. 

5 – إدريس الخضراوي: الكتابة النقدية عند محمد برادة، المرجعية والخطاب، إفريقيا الشرق، ط 1، 2020، ص: 140.

6 – ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، دار الفكر، ودار الأمان، القاهرة- الرباط، 1987.

7 – إدريس الخضراوي: نظرية والترجمة، ميخائيل باختين والنقد الأدبي العربي المعاصر، مجلة تبين، إصدارات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عدد 20، ربيع 2017، ص: 84.

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى