جوليا كريستيفا.. تطوير إرث فُرويد
- مسار مختصر
يصادف كل يوم 24 من شهر يونيو/ حزيران ذكرى ميلاد الكاتبة واللسانية والمحلّلة النفسية البلغارية جوليا كريستيفا (1941-)، التي هاجرت إلى فرنسا لمتابعة دراستها في سلك الدكتوراه. ثم التحقت بمجموعة “تيل كيل” التي كان يرأسها ويديرها الكاتب الفرنسي فيليب سولرس، وإقامتها بباريس مكّنتها من متابعة محاضرات المحلّل النفسي الشهير جاك لاكان. ونظرًا لتخصّصها في نظرية اللغة، التحقت بتدريس اللسانيات والأدب في جامعة باريس 7، دونيس ديدرو وجامعة كولومبيا بنيويورك.
وبالموازاة مع ذلك شرعت في تكوين مكانة في مجالي التحليل النفسي والكتابة الأدبية. ألفت في جميع ميادين تخصّصها كتبًا تُرجمت إلى لغات عديدة، من بينها السيميائيات، بحث من أجل تحليل سيميائي (1969)، قوى الرعب، دراسة في الرذالة (1980)، قصص الحب (1983)، في البدء كان الحب (1987)، غرباء عن أنفسنا (1988)، الساموراي (1990)، أمراض الروج الجديدة (1993)، الأنثوي والمقدّس (1998، مع كاترين كليمون)، الزمن الحسّاس، بروست والتجربة الأدبية (1994)، المعنى والمعنى المضاد للثورة (1996)، الثورة الحميمية (1997)، العبقرية الأنثوية (3 مجلدات: حنا أرندت 1999، ماليني كلاين، 2000، كوليت، 2002)، موت في بيزانس (2004)، الضغينة والمغفرة (2005)… إلخ. وهي اليوم تشغل منصب أستاذة في المعهد الجامعي الفرنسي، وحائزة على جائزة “هولبرغ” سنة 2004، التي هي بقيمة جائزة نوبل في العلوم الإنسانية.
- أنظمة اللغة والكتابة والتحليل النفسي
تفيد العناوين المذكورة أعلاه أن عقل جوليا كريستيفا يعمل، ويجتهد ويجدّد، على تخوم تخصّصات كثيرة. وهو عمل تطبعه الاستمرارية والتكامل. فمثلا كتابها “الضغينة والمغفرة” يكمّل الموضوعات الكبرى التي تناولتها منذ بدايات دراساتها في مجال التحليل النفسي: وظيفة اللغة، السرد والكتابة، سؤال النسوية.. وهي محاور لامحدودة درسها سيغموند فرويد وبعده وريثاته المحللات النفسيات. ويُضاف إلى ذلك طرح الأسئلة التي تناولها الدينيّ وظاهرة الإيمان. لكن يبقى السؤال هو كيف تمكّنت ج. كريستيفا من وضع خيط ناظم يربط كل هذه التخصصات وموضوعات البحث المتفرّقة، على الأقل ظاهريًا؟ هذا السؤال طرحه عليها المحلل والطبيب النفسي الفرنسي ألان براكونيي (1942)، فلم يكن من كريستيفا إلا أن باشرت إجابتها بالحديث عما أسمته “طموح فرويد”، الذي هو في الأصل طموح علاجي، بالارتكاز على قاعدتين أساسيتين: عبقريته النظرية، وثقافته الواسعة باعتباره يهوديا متشبعا بتيار “أوفكلاروم” (تيار فلسفي إنساني ألماني في عصر الأنوار، امتدّ بين 1720-1730).
وقد واجه فرويد من خلاله وضعنا ككائنات تهذي، فاكتشف بأن الرغبة هي الموجة الحاملة، واللغة هي الوسيلة الناقلة والأداة الأمثل (الوحيدة؟)، وإنها أيضًا، اللغة، تسمح لكل واحد منّا بإعادة بناء خاص لهوياتنا الهشّة، والمهدّدة دومًا. هكذا لخّصت ج. كريستيفا تشاؤم فرويد والتزامه العلاجي، واضعة في نفس الآن ضخامة وحدود ما قام به، وما تقوم به هي نفسها.
وتتجسد ضخامة ذلك المشروع في كون التحليل النفسي هو أولا مصحّة، فضاء ضيّق، “إطار” يصدر عن النظريات، لكنه أيضًا جوهريًا متعلّقٌ بشروط الوجود، والخاضعين للتحليل، والأطباء المعالجين. لكن ذلك لا يعني فقط، كما تؤكد كريستيفا، أن “خارج الإطار” يهمّها أكثر، ويتعايش مع عملية الانتقال والانتقال المعاكس. لكن أيضًا هي منشغلة بـ”الوقائع” النفسية التي تشغلها، وهي “معطيات” اجتماعية مباشرة، كما أنها أيضًا تاريخية وسياسية. هنا يتعلّق الأمر بضبط: رغبة/ حب، الحاجة إلى الإيمان/ الشك، وذلك يذهب إلى حدود الاختلاف الجنسي أنثى/ ذكر. إن هذه “المعطيات الخاضعة للتفكير” التحليل النفسي هي معطيات عالمية، بكلّ تأكيد، لكنها أيضًا بنيات متحرّكة، وليّنة في تاريخ الإنسان. وذلك ما دفعها إلى الإقرار بصعوبة السير في هذا الاتجاه، وتحيينه أيضًا.
- بين هوسرل وتشومسكي
تولّدت عند ج. كريستيفا قناعة أن دراساتها للسانيات ستكون ناقصة إذا لم تضف إليها السيميائيات: سوسير، بنفينست، غريماس، بارث.. لقد حالفها الحظ، وهي شابة، بالمشاركة في افتتاح هذه الدراسات حول المعنى، عن طريق مادّة “لغة” اللسانيين، نحو “تطبيقات دلالية” عابرة للسانيات: الأدب أولًا، وأيضًا الصورة، مع الرسم، السينما، الموسيقى، الحركة… إلخ. بدت لها هذه المرحلة، وتلك الدراسات، التي هي اليوم منسية أو تمّ الحطّ من قدرها، والتي أيضًا انغلقت على نفسها داخل قوقعة تقنوية، بدت لها، وما زالت تبدو لها دومًا باعتبارها أمكنة عليا للفكر المعاصر.
إن المعنى في تصورها هو سيرورة حيوية، دلالة تحرّك، بواسطة اللغة، وسائل أخرى من الدلالة. كما ساهمت، بعيدًا عن البنيوية، في افتتاح بحث موضوع التلفظ في التاريخ، وذلك من خلال عملها عن باختين، فيما يخص جسد وخطاب الكرنفال، الذي كان رائدًا في هذا التصور. ومن جهة أخرى، ظلت تؤكّد على ضرورة دراسة اللسانيات في ضوء الفينومينولوجيا (تيار فكري يجعل من الفلسفة ممارسة علمية): هذا ما حاولت القيام به في أطروحتها للدكتوراه حول “ثورة اللغة الشعرية: مالارميه ولوتريامون”.
وهذا المشروع جعلها تعود إلى مفهوم الذات العارفة عند هوسرل، والهروب من عقلانية تشومسكي، الذي قلّص اللغة في النحو. وبذلك أدخلت في دراسة المعنى بعدين أساسيين: “المادة” (الهيولى) و”الآخر”. وهكذا تقدّمت نحو تجديد تأهيل الدافعية والرغبة في تأويل الملفوظ الشعري.
- بناء اللاوعي مثل بناء اللغة
تقصد كريستيفا بلفظة “ثورة” أولًا عودة المكبوت، وبعد ذلك يظهر تأثيره المفاجئ، لا بل التبدّل في القانون المتعب للمبادلات الاجتماعية المعيارية. هكذا، حين تتم العودة إلى “اللغة”، أو بالأحرى إلى “نظام اللغة”، لا يصبح اللسانيون هم موضوع بحثها؛ فيصبح الأمر يتعلّق بتأويل النص، الكتابة، وليس بموضوعاتهم المأزومة والتي يعملون على إعادة بنائها، داخل سياق بيوغرافي وتاريخي مخصوص. وهنا تؤكّد كريستيفا أنه لم يعد لفرويد وجاك لاكان أي سبب للتعارض، فهما معًا يساهمان بشكل طبيعي في إعادة الصّهر هذه.
لقد ظلّ عمل كريستيفا، باعتبارها سيميولوجية ومنظّرة أدبية، قائمًا ومرفَقًا ببحث تجريبي وملموس، على “الميدان” كما يقال. فقبل أن تشرع في تحليلها الخاص، تتفرّغ للملاحظة الدّقيقة لحدّي اللغة: تعلّم اللغة من طرف الأطفال (تسجيلات وتحليل مجموعة من الجمل المكرّرة، والظواهر اللغوية الأولى، والمورفيمات، والتركيب، في حضانة الأطفال بسونسيي)، إضافة إلى اضطراب الخطاب، بل الطاقة اللغوية ذاتها عند المصابين بالذُّهان (في مستشفى لابورد).
وما أثار انتباه جوليا في قول جاك لاكان: “بناء اللاوعي مثل بناء اللغة مع التركيز على تشديد حرف اللام. فلاكان نفسه تحدّث عن “اللغة”، المتكلّم يتأثر بالقانون اللغوي الأسري، وكل لغة أمّ تُطبع بالتنظيم الخاص، ومن ضمنه الجسد الخاص. وبذلك فلاوعي مرضاها الروس أو الإنكليز ليس هو نفسه، حين يتحدثون إليها بالروسية، الفرنسية أو الإنكليزية. ورغم ذلك فموقف فرويد، حسب كريستيفا، الذي يرى أن اللاوعي يتشكّل من الدوافع، هو شديد التعقيد وتضيف أن على الباحثين دعمه بالمعطيات الجديدة، وخصوصًا بالسيميائيات، والبيولوجيا: ليس اللاوعي لغة فقط.
- تعقيد الأنثوي
كتبت ج. كريستيفا: “لا نعرف الأنثوية بالشكل الكافي، فهي نتاج الخيال الأنثوي”، والمقصود ضمنيًا من هذا القول هو نُدرة الرسم الأنثوي، أو النساء الرسامات. وطبعًا لا بد من الإشارة أيضًا في هذا السياق إلى فرويد الذي كان معجبًا ومُثارا بهذا الخيال الأنثوي. تلك كانت ملاحظة أدلى بها المحلّل النفسي آلان براكونيي. وللردّ عليها وقفت سيدة التحليل النفسي على هذا العالم الغامض: “أنثوي”. وأضافت أنها تدافع، بطريقتها الخاصة، عن هذا الأمر: لا يمكن الذهاب نحو تعقيد “الأنثوي” دون أن نأخذ بعين الاعتبار ما أسمته “أوديبين” (وليس أوديبًا واحدًا) يشكّلان موضوع المرأة.
تقصد كريستيفا بـ”أوديب الأول” الإثارة المشتركة “بنت- أم”، وتكون فيها التجربة الحواسية ما قبل لغوية حاسمة. أما “أوديب الثاني”، فتقصد به مواجهة البنت الصغيرة لما تطلق عليه تعقيد “اللقاء بالقضيب”: وهو يتماهى مع الممنوعات الأبوية، ودخول القانون، والسنن الاجتماعية، وتشكل الأنا الأعلى.
*****
قدمنا في هذا المقال عرضًا لمفاهيم كريستيفية، تحتاج إلى معاجم مختصة في العلم الشاسع، والمراجعات الكثيرة، والتأويلات اللامتناهية والدقيقة التي قدمتها في مجالات الأدب، السيميائيات والتحليل النفسي. وهي قضايا استفادت منها جامعات وباحثون وطلاب ومهتمون في جميع بقاع العالم، وفي لغات شتى.
يبقى السؤال: كيف تمكّنت كريستيفا من وضع خيط ناظم يربط كل هذه التخصصات وموضوعات البحث المتفرّقة، على الأقل ظاهريًا؟ |