“أيّام” طه حسين.. من الجامع إلى الجامعة!
تستمدّ السيرة الذاتية لعميد الأدب العربي طه حسين قيمتها من قيمة كاتبها ومكانته بين قومه العرب وبين بني الإنسان قاطبة، ومن أسلوبه العذب المميَّز الذي يجمع الصدق والسلاسة وطلاوة العبارة، في انسيابٍ فريد يشعر القارئ بالألفة والترحاب والإكرام. و”الأيام” ليست مجرّد سرد لأحداث ووقائع في جدول زمني ومكاني وليست مجرّد سيرة ذاتية عادية، ولكنها عمل أدبي حقيقي يصلح أن يكون نموذجًا ومثالًا لما يُنتَظَرُ من السيرة الذاتية من إسهامٍ في الأدب والثقافة والإبداع.
يشعر المُبْحِرُ بين سطور “الأيام” بأنه يجلس بين يدي إنسانٍ ذي بصيرة وعزيمة، رغم آفة العمى التي طبعت حياته منذ نعومة أظافره، وهي الآفة المنطوية عادةً على الضعف والهشاشة. ويعترف الكاتب في غير موضعٍ من سطور “الأيام” بألمه من حديث الناس عن آفته وإشارتهم إليها، مع ما يُسْتَشَفُّ من حديثهم هذا من تنقّصٍ أو إشفاق حيال صاحب الآفة. إلّا أنّ هذه الآفة، مع ما يصاحبها من معوّقات ومنغِّصات، لم تفتّ في عضد صاحبنا، بل زادته عزيمةً على عزيمةٍ، ومضاءً على مضاءٍ. فلم يكن غريبًا أن يكون إنسانًا معتَدًّا ومعتزًّا بنفسه، اعتدادًا واعتزازًا قد جنحا به أحيانًا نحو الغرور، كما اعترف لنا في سيرته الذاتية الفريدة.
وليس أمرًا هيّنًا أن يبدأ ضريرٌ فقيرٌ حياته في الريف المصري في نهاية القرن التاسع عشر للميلاد، في عائلةٍ كثيرة الأطفال، مستورة الحال، فما يلبث أن يصبح طالبًا في أروقة الجامع الأزهر في القاهرة، ومن ثم تلميذا في الجامعة كان أول مصري ينال شهادة الدكتوراة، فطالبًا في باريس نال الليسانس والدكتوراه وتزوج فرنسية وأنجب منها، فعائدًا إلى وطنه مصر حيث صار فيها أستاذا جامعيا، وكل هذا قبل أن يبلغ نهاية العقد الثالث من عمره! ويزداد إعجابنا وإكبارنا لهذا الرجل عندما نتذكر أنه تغلب على آفتَيْ العمى والفقر، فنال ببصيرته وعزيمته وذكائه الوقّاد الدرجة الرفيعة والمكانة السامية والغنى المادي.
أدب السيرة الذاتية هو باب واسع للاطلاع على حياة وأفكار عظماء الأدب والفكر والاجتماع والسياسة من أفواه أصحابها، بشكل مباشر لا مواربة فيه ولا مداورة |
يروي لنا طه حسين بداياته في “الكُتَّاب” عند المدرِّس “سيدنا” كما كان يُعْرَف لدى طُلَّابه. فالوالد الشيخ كان يريد لابنه الضرير أن يقتدي بالشقيق الأكبر الذي كان يدرس العلوم الدينية في الجامع الأزهر بالقاهرة. والخطوة الأولى لهذا الأمر هي حفظ القرآن الكريم. فبعد تراخٍ ونسيانٍ ولهوٍ، كان للطفل المكفوف ما أُرِيدَ له من حفظ القرآن الكريم، وظهر مع هذا الإنجاز شغف مبكر بالعلم والمعرفة. وما لبث أن أصبح تلميذا في الجامع الأزهر قاسى ما قاساه بحكم عَوَزه وإعاقته الجسدية.
وفي الأزهر الشريف ظهرت النزعة النقدية واستقلال الرأي لدى ذلك الذي أضحى في كهولته عميد الأدب العربي. ولعلّ هذه الخصال، مع ما رافقها من مجاهرة بنقد مشايخ الأزهر وعلمائه ومذاهبهم في التدريس والتعليم ونظرتهم للدين والدنيا، لعلّ هذه الأمور مجتمعة حالت دون نَيْل العبقري المكفوف لدرجة العالمية (الشهادة العلمية الأزهرية). فالأوامر كانت قد صدرت من شيخ الأزهر للجنة الفاحصة بعدم منح طه حسين درجة العالمية مهما كانت الظروف.
وإن كان مؤلف “الأيام” قد مُنِعَ من الحصول على درجة العالمية في الأزهر الشريف، وبالتالي تحقيق حلم والده بأن يصبح شيخًا يجلس بمحاذاة عمود من عواميد المسجد الفاطمي الأعرق والأشهر ليلقي الدروس والمحاضرات على طُلَّاب العلم، فإنه قد بلغ اعلى درجة علمية في الجامعة، بنيله شهادة الدكتوراة برسالته عن أبي العلاء المعري. وهكذا صار رجل “جامعة” بدل أن يصير رجل “جامع”. فإن إفشاله في الجامع كان أعظم حافز نحو النجاح المبهر في الجامعة. ولم تكن صدفة اختيار فيلسوف معرة النعمان وشاعرها الأعظم لأطروحة دكتوراة طه حسين، فالرجلان يتشاركان بآفة فقدان البصر كما في العبقرية المتوقّدة أدبًا وفكرًا وعزمًا وقوة شخصية وعظمة إنسانية.
وقد نالت رسالة الدكتوراة هذه اهتمامًا كبيرا من الأديبة الشامية مي زيادة التي كانت في مصر في حينها. وهذا الاهتمام كان سبب لقاء مي زيادة بطه حسين، الذي ذكر هذه الواقعة في سيرته الذاتية بسطور فيها من الإعجاب والثناء حيال هذه المرأة المبدعة التي أحبها وأعجب بها الكثير من رجال الفكر والقلم الذين قابلوها، ولكنها لم تعطِ قلبها إلا لجبران خليل جبران، الذي لم تلتقِ به يومًا، وإنما جمعتهما رسائل على مدى عقدين من الزمن.
على أن تأثير أبي العلاء على عميد الأدب العربي كان كبيرا في بداية أمره، لكنه راح يتضاءل منذ حلّ على الأراضي الفرنسية مبعوثًا من الجامعة الفرنسية للتعمق في دراسة التاريخ والفلسفة واللغات الغربية والحصول على شهادتيْ الليسانس والدكتوراة من السوربون. فأخذ طه حسين يقبل على الحياة الدنيا ويترك المزاج السوداوي الذي طبع رهين المحبسين. وكانت بطلة هذا التحول الفتاة الفرنسية التي استحوذت على مجامع قلبه، فكانت خير معين له بادئ الرأي في تحصيله العلمي، إلى أن صارت زوجته وأم أبنائه بعد حين.
قراءة كتاب “الأيام” تجمع المتعة إلى الفائدة وتتميز بأسلوبها الفذّ المصقول من غير تكلّف، وهو الأسلوب المتفرد لطه حسين في الكتابة. وأدب السيرة الذاتية هو باب واسع للاطلاع على حياة وأفكار عظماء الأدب والفكر والاجتماع والسياسة من أفواه أصحابها، بشكل مباشر لا مواربة فيه ولا مداورة، بحيث تتوفر للقارئ مادة غنية للإلهام والاقتداء والتحفيز.