ظاهرة “المُثقف الصورة”
لا يثبت مُصطلح “المثقف” على تعريفٍ واحدٍ قارٍ، إنه مفهومٌ مُتحول ومُتقلب، بالدرجة نفسِها التي تتسارع بها الأحداث والاكتشافات؛ وتتغير بها أنماط تفكيرِنا وأساليب حياتِنا.
لقد أنتجت الوسائل التكنولوجيا ووسائط الاتصال الرقمية؛ أنماطا جديدةً ومتنوعة من المعارف والأفكار والثقافة، وأنتجت معها نسخاً جديدة من “المثقف”، غالبيتُها نُسخٌ جوفاء تهتم بالصورة، ولا تُبالي بالمضمون.
هذه الأنماط المُحدثة؛ حَجَّمت دور المثقف الحقيقي. خصوصاً أولئك الذين ظلوا مُخلصين للورق والقلم والكُتب، ممن يتوجسون من الفضاء الرقمي، أو ممن لا يُحسنون التعامل مع الأزرار. وبرزَ بدلهُم نموذجٌ جديد أجوف؛ يُمكن أن نصطلح عليه باسم “المثقف الصـورة”.
مُثقف الصورة؛ ظاهـرة سلبية وضارة؛ أنتجتْها وسائل التواصل الاجتماعي بشكل حادٍ ومستشرٍ للغاية، تهُمُّ شريحة كبيرة من الأشخاص المتعلمين إلى حدود مقبولة، الذين يُدمنون الصورة ويعشقون الظهور الطافح وارتيادَ الواجهة.
بخلاف المثقف الحقيقي الذي نسعى إليه، يسعى “المثقف الصورة” إلينا، من خلال تسويق نفسِه للرأي العام على أنه مُثقف ضمن زمرة النُّخبة، وذلك من خلال نوعية وطبيعة المواد العلمية والمعرفية والثقافية التي ينشرُها على صفحاتِه في مواقع التواصل الاجتماعي.
أو من خلال تعقب الندوات والمؤتمرات واللقاءات الثقافية ونشرِها على صفحتِه؛ مع التركيز على إظهار صورتِه الشخصية مُبأَّرةً في كل ما يتم نشرُه. أو من خلال الحرص على اقتناص فرصة الظهور مع شخصيات عِلمية وأكاديمية وازِنة، وأخذِ صورٍ توثيقية معهم ومشاركتِها على مواقع التواصل الاجتماعي.
تعمل الصورة والمظهر لدى “المثقف الصورة” على سد النقص المعرفي والعلمي والفكري لديه، فالهندام مُقوِّمٌ أساسيٌّ لديه، إذ يُغرق في التأنق إلى حدودٍ الإفراط، في المقابل؛ لا ينسى توظيف الكتب كخلفية مقصودة، فأغلب الصور التي يُشارك بها “المثقف الصورة” تحضر فيها الكتب بشكل أو بآخر، وأكثرُها شيوعا؛ وضعية تصفُّح الكتاب أو تأبُّطه، أو إبراز بعض عناوين الكتب، أو من خلال خلفيات المكتبة ورفوف الكتب.
على غرار ما كان شائعا مع الجرائد، حيث كانت ظاهرة التقاط الصورة مع جريدة وكوب قهوة أو سيجارة؛ أبرزَ تجلٍّ “للمثقف الصورة” في نسختِه البدائية (إن صحَّ هذا التعبير).
من ملامح “المثقف الصورة” أيضا؛ توظيف ظهورِه مع الشخصيات الاعتبارية كرافعة له؛ لتحقيق مقبولية في الوسط المثقف (العينة التي يروج لها ثقافتَه)؛ ثم لتزكية مستواه، يَحدث كلُّ هذا عن وعي، وأحياناً بلا وعي من لدُن “المثقف الصورة”.
“المثقف الصورة” شخص نفعيٌّ بالدرجة الأولى، فهو لا يأبه بالثقافة ولا باللقب الذي تمنحُهُ إياه إلا بقدر المنفعة المادية التي سيجنيها من وراء هذا اللقب، من خلال تسويق مؤهلات وكفاءات وإمكانيات علمية ومعرفية غير متوفرة، للوصول إلى منصب أو ترقية أو امتيازات.
أو بحجم الأمان الذي يُجنِّبُه الإحراج. لأن النجاحات التي يُحققُها “مثقف الصورة” مرهونة بحجم العلاقات التي يستطيع بناءَها مع الأفراد والمؤسسات، وليس بمستواه العلمي ولا بمجهودِه الذاتي.
- عوداً على بدء
من الخطأ تسويق الصورة لإثبات صفة المثقف للمجتمع، المثقف لقبٌ رمزي يَمنحُه المجتمع لمُستحقِيه طواعية منه؛ بناءً على إسهاماتِه الفكرية والعلمية والمعرفية والثقافية والفنية، هذه الإسهامات؛ لا يمكن أن تتأتى بالصورة والمظهر والهندام؛ وإنما بالجد والاجتهاد والتثقيف الدؤوب والمتواصل عبر مسار طويل محفوفٍ بالإنتاج.
بقي أن نشير إلى أن:
ظاهرة “المثقف الصورة” وثيقة الصلة بالمجتمعات الأمية والمتخلفة، حيث المظاهر الخادعة مقدمةٌ دائما على الجوهر الصافي والمحتوى الجيد.
- “المثقف الصورة” يجد انسجاماً وتكاملاً كبيراً مع نماذجِه فقط.
- “المثقف الصورة” لا يستهلكُ معرفة ولا يُنتجُها.
- حجم انتشار “المثقف الصورة” يمكن أن يكون مؤشراً على تدني مستوى التعليم والتعليم العالي في نطاقِ انتشارِه.
- تفشي “المثقف الصورة” دليل مباشر على تراجع وانحصار المثقف الحقيقي، وتحجيم دورِه.
- وهم الصورة يُضاهي وَهم المعرفة.