جغرافية الأدب العربي (2/2)
لم يكن الهدف من حديثنا عن جغرافية الأدب العربي الدفاع عن القطرية، أو ما كان يعرف بالإقليمية في دراسة الأدب. ومن ركز على هذا الجانب من المقالة لم يقرأها جيدا، وإنما انبرى يدافع عن تصور مسبق وجاهز. إن جغرافية العالم العربي مقسمة تقسيما فظيعا، ولا يحتاج هذا إلى بيان. لكن جغرافية الأدب العربي نقيض ما يذهب إليه السياسيون، وهم يمارسون التقسيم ويدافعون عن التجزئة، تارة باسم العروبة، وطورا باسم الإسلام. الجغرافية الأدبية اختصاص يدرس الأدب في علاقته بالمكان. وبطرحنا إياه ندعو إلى تجديد النظر في أدبنا القديم والحديث من منظور جديد يستفيد من الاختصاصات المختلفة، ويعيد النظر في ما تراكم لدينا من تصورات جامدة.
علاقة الأدب بالجغرافيا لا ينكرها أحد، سواء من العرب أو الغربيين القدامى والمحدثين. لكن التطورات التي طرأت مع الألفية الجديدة دفعت في اتجاه إعادة ربط الأدب بمختلف ما يتصل به من منظورات جديدة تستفيد من التطورات التي حصلت في الإنسانيات الجديدة. يذكر الجميع قصة الشاعر علي بن الجهم الذي شبه الخليفة بالكلب وبالتيس، ثم تغير مدحه بعد حياة المدينة.
يعجبني كثيرا ما رواه الجاحظ وهو ينقل في كتاب «البخلاء» ما قاله ثمامة عن ديكة مرو: «لم أر الديك، في بلدة قط، إلا وهو لاقط يأخذ الحبة بمنقاره، ثم يلفظها قدام الدجاجة، إلا ديكة مرو. فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحَب. قال: فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد وفي جواهر الماء». ويلخص العرب كل هذا في قولهم عن الأديب بأنه ابن بيئته.
وفي التراث الغربي اعتبر هيبوليت تين الجنس والعرق والبيئة من مقومات الأدب، بل ذهب إلى حد تأكيد الأثر الكبير للوسط الجغرافي في تشكيل شخصية الكاتب. اشتغل بعلاقة الجغرافية بالأدب، مؤرخو الأدب منذ القرن التاسع عشر، كما اهتم بها الأدب المقارن، والنقد الأدبي الذي يعنى بالفضاء والمكان. وصنفت كتب تتناول الأدب في علاقته بفضاء جغرافي معين في حقبة ما.
في التراث الغربي اعتبر هيبوليت تين الجنس والعرق والبيئة من مقومات الأدب، بل ذهب إلى حد تأكيد الأثر الكبير للوسط الجغرافي في تشكيل شخصية الكاتب.
أما «الجغرافية الأدبية» باعتبارها اختصاصا قائما بذاته فلم تظهر إلا في العقود الأخيرة. يدخل هذا الاختصاص في نطاق الدراسات الأنكلو أمريكية تحت مسمى «الأدب الجغرافي» (geographical literature )، ويسميه الفرنكوفونيون بالتسمية نفسها (géographie littéraire )، بل يتم تدقيق اسم الاختصاص بجعله مندرجا تحت مسمى «النقد الجغرافي»، أو «البويطيقا الجغرافية»، وتتوزع الاهتمامات بهذا الموضوع بين نقاد الأدب وعلماء الجغرافيا، ولكل وجهة هو موليها حسب الاختصاصات، من جهة، وتبعا للمتن المشتغل به، من جهة أخرى. وتبعا لذلك سارت الدراسات في اتجاه إما النظر في موقعة الأدب في الفضاء، أو في تمثيل النص الأدبي للفضاء الذي يتخذه مجالا للسرد.
يعتبر أندري فير من رواد هذا التوجه الجديد في دراسة علاقة الأدب بالجغرافيا في كتابه الأول الذي خصصه لـ«جغرافيا مارسيل بروست» سنة 1939. وفي كتابه الثاني «الجغرافيا الأدبية» (1946). ومنذ التسعينيات من القرن الماضي بدأ الاتجاه في هذه الدراسات يتحقق من خلال المؤتمرات والأعداد المتخصصة. ويمكننا هنا إعطاء مثال فرانكو موريتي الذي عمل على تشكيل «أطلس للرواية الأوربية 1800 ـ 1900» سنة 2000، والذي أثار اهتماما واسعا لدى المهتمين بالجغرافيا الأدبية.
أتيحت لي فرصة المشاركة في كتابين أعدتهما كل من جائزة كتارا القطرية، وجائزة ملتقى القصة القصيرة في الكويت حول رصيد الرواية والقصة القصيرة العربيتين خلال القرن العشرين. لكن اللجنة التنظيمية الأولى قررت تمييز جغرافية الرواية العربية حول الجهات (المغرب العربي، مصر والسودان، الجزيرة العربية، الشام والعراق)، بينما اختارت اللجنة الثانية التمييز حسب الأقطار العربية. إن كل خيار يقدم صورة معينة لكيفية معالجة علاقة السرد بالجغرافية البشرية، ولمست هذا واقعيا حيث ظهر لي أن مقاربة الرواية المغاربية كان أشمل من دراستي للقصة القصيرة المغربية.
إن جغرافية الأدب العربي، قديما وحديثا، غنية بغنى الفضاءات العربية في شموليتها، وخصوصياتها المتعددة. ولا علاقة لها، وهي تهتم بالأقطار أو الجهات العربية، سواء كانت عامة أو خاصة، لا بالسياسة ولا بالنزعة الوطنية أو القومية. بل إنه يمكننا، على صعيد كل قطر عربي، أن ننظر في خصوصيات الفضاء الجغرافي الذي تتحقق من خلال تمثله النصوص، أو اتخاذها إياه مادة للاشتغال. فالدار البيضاء التي تناولها محمد زفزاف لا علاقة لها بالدار البيضاء التي عالجها أحمد المديني، على سبيل المثال. وقس على ذلك بالنسبة للقاهرة، أو بغداد، أو دمشق. كما أن الروائي الذي تناول البادية أو الصحراء أو البحر، يختلف حسب قدرته على تمثيل الفضاء أو تمثله. تفتح لنا الجغرافية الأدبية، عامة، أو «السرديات الجغرافية» خاصة، مجالات واسعة للتفكير والاستكشاف عن طريق اختراق مساحات جديدة للبحث في الفضاء الذي نعيش فيه، ونرتبط به عقليا وعاطفيا. كما أنها تفتح الدرس الأدبي على الاختصاصات الأخرى، ومن بينها النقد البيئي، أو الطبيعي. الجغرافية الأدبية دعوة إلى التطوير والتجديد والتجاوز.