درس الفلسفة في المغرب بين التقليد والإبداع
- الملخص:
نهدف من هذا المقال إلى تشخيص واقع تدريس الفلسفة بالمغرب، الذي يتسم بالأزمة بمعناها المعرفي، وهي أزمة نسعى للتفكير فيها من منطلق أننا مشتغلين بدرس الفلسفة وبقضاياها، وذلك بالاستعانة بمصادر حاولت أن تجترح طرقا مبدعة لتدريس الفلسفة،
من منطلق أن المهمة الرئيسة للفلسفة ليست هي الاكتفاء بفهم أفكار الفلاسفة ونصوصهم، إنما هي بالأحرى أسلوب للحياة، ومدخل للعيش المشترك، فضلا عن أنها مقاومة لبادئ الرأي وما يكرسه من غباء وبلادة، يهددان كينونة الإنسان المفكرة، ويجعلانه مسمارا في آلة مجتمع الفرجة والاستهلاك؛
وهو ما يعني إبداع طرق جديدة في تدريس الفلسفة من صميم العصر، بعيدا عن البيداغوجيات التقنية التي تَحُولُ دون تحقيق الغايات المنشودة من تدريس الفلسفة.
يَطْبَعُ تدريس الفلسفة بدول مختلفة من المعمور الاختلاف؛ ذلك أن تدريس الفلسفة يختلف من دولة إلى أخرى، إذ أنها مادة إجبارية في دول واختيارية في دول أخرى، ثم أن طبيعة الامتحان فيها تتراوح بين الامتحانات الكتابية أو الشفوية، مثلما أن هناك اختلاف في عدد الساعات المخصصة لتدريسها.
لكن على الرغم من هذا الاختلاف إلا أن هناك إجماع على أن الفلسفة مدخل للتربية على قيم المواطنة، والتفكير النقدي، من خلال تسليطها للضوء على قضايا وجودية ومعرفية وأخلاقية، وهذا ما يجعل منظمة اليونيسكو تجعلها من صميم اهتمامها، من خلال دعم تدريسها، وتشجيع أهلها، بل تخصيص يوم عالمي للاحتفاء بها.
وتمكننا التجارب الدولية المختلفة في تدريس الفلسفة من الوعي بأزمة تدريس الفلسفة بالمغرب، وهي أزمة لا ينكرها المشتغلين بتدريس الفلسفة، لكن قليلة هي الإسهامات الفكرية التي تعمل على تشخيص وتشريح واقع تدريس الفلسفة، ولعل كتاب “تدريس الفلسفة، تجارب دولية”[1] لرشيد العلوي يأتي لسد هذا النقص في الدراسات التي تخصُّ تدريس الفلسفة، وتشخيص مشاكلها، واقتراح مداخل لتجاوزها.
شهد درس الفلسفة في المغرب مقاربتين وهما على التوالي: المقاربة بالأهداف، ثم المقاربة بالكفايات؛ الأولى كانت تراهن على تقديم المعرفة الفلسفية، بينما الثانية تراهن على طرق التعلم وآليات التفكير أو قل، باختصار، تراهن على التفلسف.
غير أن المقاربتين معا في اعتقادنا ترتب عنهما آفتين: حيث جعلت المقاربة الأولى الفلسفة لا تعدو تاريخا لأفكار الفلاسفة، بينما سقطت المقاربة الثانية في النزعة التقنية، وهو ما تسبب في تحنيط الدرس الفلسفي، وجعله بضاعة يتاجر بها المرتزقة والدخلاء على الفلسفة، بل أعداؤها في بعض الأحيان، وهو ما يحول دون تحقيق الأهداف المرجوة من تدريس الفلسفة.
- فكيف السبيل للخروج من هذا الإحراج؟
الواقع أن هذا الإحراج الذي نحن بإزائه ليس بدعا، إنما هو متجذر في تاريخ الفلسفة، وفي هذا الصدد نلفي تيارين كان لهما موقفين متعارضين بشأن مسألة تدريس الفلسفة وهما: الطرح الكانطي من جهة، والطرح الهيجلي من جهة أخرى؛ الطرح الأول يراهن على تعليم التفلسف، وطرق التفكير، غاضا الطرف عن تاريخ الفلسفة، وأفكار الفلاسفة.
بينما الطرح الثاني يعتبر أنه لا يمكن الفصل بين الفلسفة وبين تاريخها، ولاسيما أن هذا التاريخ هو في الواقع تاريخ للعقل البشري، والفكر الإنساني، بل هو تاريخ للوجود والميتافيزيقا بلغة مارتن هايدجر.
بناء على النقاش الذي أثير في تاريخ الفلسفة بين الطرح الكانطي والهيجلي بخصوص تدريس الفلسفة، نعتقد أنه خليق بمدرس الفلسفة الدَّمج بين المقاربين معا في تدريسها؛ فمن جهة مطالب مدرس الفلسفة بتمكين المتعلمين من معرفة فلسفية أصيلة، مصدرها إسهامات الفلاسفة أنفسهم، أي العودة إلى أمهات نصوصهم.
وليست تلك المعرفة المبتسرة والمجتزأة من سياقها، ومن جهة أخرى وضع المتعلمين أمام مآزق فكرية، وإحراجات واقعية، ومشكلات اجتماعية، من أجل امتحان مدى تمكُّن المتعلمين من استثمار ما لديهم من معرفة فلسفية في حلِّ ما يعترضهم من إشكالات وجودية ومعرفية وحياتية، من قبيل سؤال الموت والحب والحقيقة والمرض والحياة وغيرها من الإشكالات المقلقة.
نقترح هذا النهج وعيا منا أن دور الفلسفة لا ينحصر في فهم النصوص الفلسفية فحسب، بل دورها الرئيس هو فهم الحياة وإبداع أسلوب للعيش متحرر من أوهام البذخ والرفاهية والسلطة؛ إنها، إذاً، دعوة لعيش حياة بسيطة يتصالح فيها الإنسان مع ذاته، ويعي قدراته، ويقبل قَدَره، دون مقارنة بينه وبين الآخرين؛
إن رهان الفلسفة في الأصل هو كيف تكون أنت ما تريد وليس ما يريده لك الآخرين؟ أنت واحد، والآخرين كُثْرٌ؛ ومن ثمة فطريقك نحو السعادة هو طريق من إبداعك أنت، ولا يملى عليك قطُّ من طرف الآخرين، أي أولئك الذين تختلف طرق عيشهم باختلاف إمكاناتهم وقدراتهم وأنظارهم ومعتقداتهم…إلخ.
يترتب عن هذا الطرح الفلسفي النظر إلى الفلسفة بما هي طب للحضارة، وشفاء للجهل، وخلاص للروح، ونور للعقل، وصحة للجسد، ومعرفة للذات، ومقاومة للملل والضجر والخوف…إلخ، إنها علاج، في المحصلة، من الغزائز البدائية المتجذرة في اللاوعي الجمعي، من غضب وغيرة وحقد وضغينة وطغيان…إلخ،
لأنها تعلِّمنا شيئا رئيسا هو التحكم في الذات الذي هو أساس التحكم الحق في الأشياء، وفي ذلك يقول بوثيوس: “من يرد أن يكون ذا سلطان حقيقي، فليبسط أولا سلطانه على نفسه”[2]؛ حاصل القول، أن الفلسفة بحق فن للعيش؛ ذلك أنها تحمل الذات على إبداع فَرادتها وتميزها مستحضرة إمكاناتها وقدراتها.
وهذا مقتضى المبدأ الدلفي الذي يدعو لمعرفة الذات؛ فمبدأ “اعرف نفسك بنفسك”[3] هو دعوة للعودة إلى الذات، لكن ليس لمغازلة كبريائها، إنما هو لمعرفة إمكاناتها الحقيقية، وما تستطيع إليه سبيلا، بعيدا عن التقليد والاتباع الأعمى للآخرين.
وهو تقليد يلقي بصاحبه إلى الجحيم، أَلَمْ يقل جون بول سارتر أن الآخر جحيما؟ بلى، ونضيف أن تقليد الآخر جحيم لا يطاق؛ إذ لَمَّا كان للمصادفة دور في وجودنا، وحيث إننا وجدنا على حين غرة من أمرنا ولم نختر وضعية الوجود هذه.
فلا يسعنا إلا أن نحيا قدرنا الوجودي كما هو دون مركب نقص، وها هنا تصير الفلسفة عزاء يتيح لنا قبول هذا القدر الوجودي، قبول يمكِّننا في نهاية التحليل من تحصيل السعادة،
أي الخير الأقصى والأعظم، دون أن يبقى في حكم الإرجاء كما تكرِّس ذلك الاديولوجيات الخلاصية التي تسعى للتَّحكم في مصير الناس، وسلب قُواهم الخلاقة، وجعلهم عرضة للمشاعر الحزينة بغلة باروخ سبينوزا، من حقد وغيرة وكره…إلخ، التي تجعلهم لا يطيقون الحياة، فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة وبئس المصير.
أن نعيش على نحو فلسفي إذن معناه أن نبدع طرقا خاصة في العيش تنأى عن التقليد الذي تكرسه تمثلات الحس المشترك؛ فعادة ما يكون هذا الحس العام والسائد هو علة شقائنا، وفي ذلك يحكي سعيد ناشيد في كتابه الموسوم بـ “التداوي بالفلسفة” قصة توضِّح هذا المراد[4].
فهذا أحد النبلاء في نهاية القرن السادس عشر لم ينتصب عضوه الذكري، ولما كان ما وقع له يسمى في التقليد السائد عجزا جنسيا، فقد أقدم النبيل على قطع عضوه؛ وعندما نتدبر في هذه الواقعة تدبر الفلاسفة، نجد أن عدم الانتصاب يمكن أن يكون مرده إلى مسألة عضوية أو نفسية، وهو ما يمكن تجاوزه من خلال استشارة طبيب، أو التخفف من العمل.
الأمر الذي يفيد أن العجز على الحقيقة هو العجز عن التحرر من التقليد السائد والحس العام، أي العجز عن إبداع أسلوب خاص في العيش، نعبِّر فيه عن فَرادتنا، ونقبل فيه بقَدَرِنا، ونتصالح فيه مع إمكاناتنا وأجسادنا؛ إذ ليس هناك من شقاء، كما يؤكد بوثيوس، إلا فيما تُعِدُّه أنت كذلك؛ فَلِمَ، إذاً، الحزن والحقد والغضب، بينما حقيقة الكون، كما يقول عمر الخيام في رباعياته، ليست سوى مجازا؟
إن الفلسفة إذاً تنهض بأدوار جذرية في حياة الإنسان، بما فيها تلك الوضعيات المحدِّدة لمصيره على حد تعبير كارل ياسبرز من قبيل فكرة الموت؛ فالفلسفة تعلمنا كيف نموت، دون أن يعني ذلك تناقضا مع الدعوة إلى الحياة؛ فقد سئل جاك ديريدا في آخر لحظات عمره، وقد بلغ منه المرض مبلغا،
فقال: “المهمة الأساسية للفلسفة أن تساعدنا على تقبل الموت باعتباره خسارة مطلقة بلا تعويض وعزاء”[5]، وما قول دريدا هذا في الواقع إلا استئنافا للدرس السقراطي القديم وهو القائل: “أن نتفلسف معناه أن نتعلم كيف نموت”.
قد يعترض معترض، وله كامل الحق في الاعتراض، كيف يمكن للفلسفة أن تنهض بهذه الأدوار الجذرية ونحن نعلم أن أهلها المخلصين ألمت بهم نوائب الدهر، من مرض واعتقال وإعدام ونفي وإفلاس وجنون؟
الجواب على هذا الاعتراض هو أن المؤهل لتعليم الناس فن الحياة هو من اكتوى بنارها، وتذوق مرارتها، وفي هذا الصدد نفهم قول فريدريك نيتشه: “الوقوع في ضراوة المرض قد يجعل المرء أكثر إقبالا على الحياة بكثافة مما حين يكون معافى ويتمتع بظروف حياة مريحة”[6]؛ فبناء على هذا الطرح، يصير حتى مرض الإنسان لا يضر في شيء، ما دامت “الضَّربة التي لا تقتلني.
كما يقول فريدريك نيتشه، تقوِّيني”؛ أي نعم، فليس المرض مناسبة للشكوى، ولعن الأقدار، وتجنيد الانفعالات الحزينة، إنما هو مناسبة للتَّعلم، تعلم قبول القدر دون زيادة أو نقصان amor fati ، وإدراك مدى قدرات الجسد في التَّحمل، واكتشاف قُوى لديك لم يكن لك بها عِلْمٌ من ذي قبل.
فلا نستغربنَّ إذاً أن جون جاك روسو في كتابه عن التربية أراد أن يعلم ابنه إميل كيف يمرض؟ مادام المرض كما أثبتنا مناسبة حقيقية لتعلم كيف نحيا أصحاء ومعافين ومبتهجين وفرحين ومتصالحين مع ذواتنا وأجسادنا وأقدارنا ومع العالَم من حولنا.
وبالعودة إلى تاريخ الفلسفىة، في سياق موضوع مقالنا، يمكن التمييز بين ثلاث مراحل وهي كالآتي[7]:
تمثِّل المرحلة الأولى مرحلة الفكر، وقد ارتبطت بالعصر الحديث، ومن أعلامها روني ديكارت، حيث كان الرهان الأساس رهانا معرفيا صرفا، ويتجلى في بلوغ اليقين والاحتراس من الوقوع في الخطأ، ومن أجل ذلك لا بد من اعتماد منهج سليم يضمن للعقل جادة الحقيقة، ويحميه من مغبة الخطأ؛
تمثِّل المرحلة الثانية مرحلة اللافكر، وقد ارتبطت بالقرن التاسع عشر، والذي شهد الاهتمام بمفهوم اللاوعي، بدل مفهوم المنهج، وهو ما يحيل على إسهامات سكموند فرويد صاحب فرضية اللاشعور، والتي تشكك في فلسفة الوعي.
معتبرة أن هذا لا يتعدى دوره التضليل والوهم ولا يعبِّر عن حقيقة الأشياء، ومن ثمة كان الرهان في هذه المرحلة هو مقاومة الوهم ونقد الاديولوجيات التي تقدم نظرة مقلوبة ومشوهة ومزيفة عن الواقع؛
تَتَحَدَّدُ المرحلة الثالثة مع فريديك نيتشه، وتتميز هذه المرحلة بكونها تفكير ضد البلاهة، ومقاومة للغباء، وما يعنيه ذلك من تفكيك للنزعات الاديولوجية التي تسعى لبناء تصورات متكاملة عن العالم، تصورات تضع حدودا لفعل التفكير، مؤسسة بذلك لأطروحات أحادية ومنغلقة عن نفسها ونافية لما عداها.
ولعلنا في الزمن المعاصر في أمس الحاجة للفلسفة بالمعنى الثالث، أي لفلسفة تقاوم التفاهة التي يكرسها مجتمع الفرجة، فلسفة تفكِّر في اليومي والتي تتحدد باعتبارها فلسفة منفصلة ومنفلتة وسيالة؛ ذلك أنها لا تهتم بالبحث في العلل الأولى والغايات القصوى.
بل بالمقاومة المستمرة للبلاهة والتفاهة التي تتلبس اليومي، وتشكِّل الحس المشترك، والوعي الجماعي، بل مقاومة تَسَلُّط الفكر نفسه.
وهو يفكِّر في موضوع من الموضوعات؛ مما يعني أننا أمام فلسفة تقاوم مقاومة مزدوجة، حيث إنها لا تكتفي بمقاومة البلاهة التي يثيرها موضوع ما، إنما هي تمتد لمقاومة بلاهة الذات أيضا، وما قد يترتب عن الغفلة عنها من كبرياء وتسلط وعنف.
وينبِّه الفيلسوفان جيل دولوز وفليكس غاتاري أن الرهان من فلسفة اليومي لا يعني أن يصير كل الناس فلاسفة، إنما هي انخراط عموم الناس في التفكير الفلسفي، فضلا عن انعتاقه من الأعراف المؤسساتية والمدرسية والجامعية التي تشلُّ حركته؛ مما من شأنه توفير شروط للإبداع والتحرر أمام عموم الناس، دون وصاية أو حَجْرٍ، باسم معرفة خاصة، فلسفية كانت أو عِلْمِية.
كما ننبِّه إلى أن توجه الفلسفة نحو اليومي ليس مجرد دعوة للاستهلاك الإعلامي كما يتم التسويق إلى ذلك دون تفكير، إنما هو موقف فلسفي مقتضاه أن الفلسفة لا خارج لها، وأنها تجترح طرقا للتفكير أكثر مما تقدِّم مواقفا، وتعْرض معرفة، وتستخلص حِكَماً؛ إذ ليست المسألة هنا مسألة كمية،
إنما هي مسألة كيفية، يصير بموجبها فعل التفلسف شأنه شأن الفن؛ فإذا كان الفن عند إمانويل كانط ليس تصويرا للأشياء الجميلة، إنما هو التصوير الجميل للأشياء، فإن الفلسفة كذلك ليست هي التفكير في الأشياء العميقة، إنما هي التفكير العميق في الأشياء؛
ويشهد على هذا الاهتمام إسهامات من قبيل “ابتداع اليومي” لميشيل دوسيرتو، و”حرب الزيف” لأمبرتو إيكو”، و”علم النفس المرضي للحياة اليومية” لسكموند فرويد، و “الفلسفة باعتبارها طريقة للعيش”[8]، فضلا عن أعمال عبد السلام بنعبد العالي في المغرب، من قبيل “البوب_فلسفة”[9]، و”سيميولوجيا الحياة اليومية”[10].
إن مهمة الفلسفة، على سبيل الاختصار، تعليم الحياة وليس حفظ نصوص الفلاسفة والتباهي بعرضها على الرغم من أهميتها؛ إذ لا معنى للفلسفة دون حل إشكالات الحياة الفعلية التي نحياها؛ ومن لم تسعفه الفلسفة في حل ما يتخبط فيه من مشاكل الحياة، فوجب أن يعيد النظر في طريقة تحصيله للفلسفة.
قد يتساءل سائل، هل يمكن للفلسفة أن تحقق تقدما في الواقع؟ وما المنفعة التي يمكن أن نجنيها من تدريس الفلسفة؟ لا شك أن سؤالا من هذا القبيل يستبطن نزعة وضعية تعادي الفلسفة، لكن وجب الجواب عنه رفعا للالتباس، وجوابنا هو أنه قد نستغني فعلا عن الفلسفة لتحقيق التقدم في الواقع.
لكن لا يمكن الاستغناء عن المفاهيم الفلسفية للتفكير في الواقع؛ فهل من الممكن، على سبيل المثال، التفكير في دولة الحق والقانون دون مفهوم فصل السلط لمونتيسكيو؟ وهل يمكن التفكير في الاجتماع البشري دون مفهوم العقد الاجتماعي لجون جاك روسو؟
وهل يمكن الحديث عن العيش المشترك دون مفهوم التسامح كما أصَّل له، على سبيل المثال، كلاَّ من فولتير وجون لوك؟ هذا إن كان يدل على شيء إنما يدل على أن للفلسفة وظيفة ما تزال حية وهي كونها بلغة جيل دولوز إبداع المفاهيم،
وهذا بحق ما يجعل الفلسفة تفكيرا كونيا، ومجالا رحبا، بعيدا عن النَّزعات المحلية الضيقة التي تذكي نار التعصب، وتشلُّ حركة الفكر، وتنكر الاختلاف، وتعادي الآخر، وتحرِّم الإبداع، وتَحُولُ دون الاجتهاد، أو قل، باختصار، تعادي الفلسفة.
حاصل القول أن الفلسفة هي عنوان الحضارة والمدنية وأساسهما الذي لا تقوم لهما قائمة دونها؛ فكيف للإنسان أن يكون متحضرا ومتمدنا دون فلسفة؟ فهي التي تجعله يعيش على نحو متمدن، فيقبل الاختلاف والنقاش والحجاج؛ لذلك لا نستغربنَّ أن نظام الدولة_المدينة كان أحد مقومات نشأة التفكير الفلسفي؛ أي ذلك النظام الذي يتيح للناس حرية الكلام والتداول والمحاججة بخصوص قضايا الشأن العام؛
فما من فكرة أو رأي أو اقتراح، كيفما كان، ومن أي كان، يخضع للسجال والجدال والأخذ والرد، وهو ما يعني تنسيب أفكارنا ومعتقداتنا والقبول بالعيش المشترك الذي لا يعني في نهاية التحليل إلا القبول بالاختلاف، باعتباره سلوكا وفعلا، وليس مجرد شعار في الظاهر وتعصب في الباطن،
أليس هذا بحق هو الرهان من تدريس الفلسفة؟ ألا يملي علينا هذا إعادة النظر في طرق تدريسها؟ ألا يحملنا على التفكير في مفهوم جديد للفلسفة؟ أي الفلسفة بما هي فن للحياة وأسلوب للعيش، وبما هي مقاومة للبلاهة والتفاهة والبلادة المستشرية في العصر، وليست بما هي بحث عن الحقيقة أو معرفة بالعلل الأولى والغايات القصوى كما ترسخ في التقليد الفلسفي القديم؟
- مصادر بالعربية
بنعبد العالي عبد السلام، البوب_فلسفة، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 2015.
بنعبد العالي عبد السلام ، سيميولوجيا الحياة اليومية، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 2016.
رشيد العلوي، تدريس الفلسفة، تجارب دولية، دار المعارف، الدار البيضاء_المغرب، 2019.
سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، دار التنوير، لبنان، 2018.
كتاب جماعي، الفلسفة على نحو مغاير، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء_المغرب.
- مصادر بالفرنسية
Platon, Alcibiade, Livre de Poche, Paris, 1998.
Pierre Hadot, La Philosophie comme manière de vivre, Livre de Poche,
Paris, 2003
- الهـوامـش
[1] رشيد العلوي، تدريس الفلسفة، تجارب دولية، دار المعارف، الدار البيضاء_المغرب، 2019.
[2] سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، دار التنوير، لبنان، 2018، 89.
[3] Platon, Alcibiade, Livre de Poche, Paris, 1998, 97.
[4] سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، مصدر مذكور، ص 89.
[5] سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، مصدر مذكور، ص 23.
[6] المصدر نفسه، ص 65.
[7] كتاب جماعي، الفلسفة على نحو مغاير، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء_المغرب، ص 80-81.
[8] Pierre Hadot, La Philosophie comme manière de vivre, Livre de Poche, Paris, 2003
[9] بنعبد العالي عبد السلام، البوب_فلسفة، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 2015.
[10] عبد السلام بنعبد العالي، سيميولوجيا الحياة اليومية، دار تبقال للنشر، الدار البيضاء_المغرب، ط 1، 2016.
مقال محكم … يسلط الضوء على الفلسفة؛ كما هي اليوم، وكما يجب أن تؤخذ غدا.
هنيئا لهذا الموقع بمقالاتك