اقتصادعلوم سياسية

مستقبل التموضع التركي في القرن الإفريقي: سياق إقليمي متغير

الشافعي أبتدون: باحث صومالي مهتم بقضايا القرن الإفريقي.

تفكك هذه الورقة أبعاد النفوذ التركي في القرن الإفريقي، وتتناول أهمية دولها كمدخل استراتيجي مهم بالنسبة للسياسة التركية تجاه إفريقيا، إلى جانب رصد دوافع النفوذ التركي ومدى مقاومته وصموده أمام التقلبات السياسية في المنطقة، بالإضافة إلى استشراف مآلات مستقبل التعاون بين تركيا ودول القرن الإفريقي.

مثَّل القرن الإفريقي محورًا جيوستراتيجيًّا مهمًّا بالنسبة للسياسة الخارجية التركية تجاه إفريقيا منذ عقود، وهي السياسة التي بموجبها دشَّنت أنقرة عصر انفتاح تركي/إفريقي مطلع الألفية الجديدة، إدراكًا منها لأن تحقيق نهضة اقتصادية تركية لا يمكن أن يتحقق من دون وجود أسواق إفريقية تستهلك صادراتها الحيوية من الغذاء والدواء والمنسوجات والصناعات الخفيفة.

وهذا الدور التركي في منطقة القرن الإفريقي بات مكشوفًا، من جهة، ومبعث قلق لدى خصومها الإقليميين والدوليين، من جهة ثانية، ناهيك عن التجاذبات الدولية والتدافع الخليجي الذي تشهده دول شرق إفريقيا، التي تقبع حاليًّا في كومة من المتغيرات الجيوسياسية والارتدادات الاقتصادية، وهي متغيرات ستكون لها نتائج عكسية على مستقبل الوجود الأجنبي في المنطقة، في ظل استمرار التحولات الأتوماتيكية الأمنية والسياسية في إقليم شرق إفريقيا.

تفكِّك هذه الورقة أبعاد النفوذ التركي في القرن الإفريقي، وتتناول أهمية دوله كمدخل استراتيجي مهم بالنسبة للسياسة التركية تجاه إفريقيا، إلى جانب رصد دوافع النفوذ التركي ومدى مقاومته وصموده أمام حركة رياح التغيير القوية والتقلبات السياسية الطارئة في المنطقة، بالإضافة إلى استشراف مآلات مستقبل التعاون الاقتصادي والأمني بين تركيا ودول القرن الإفريقي.


  • أهمية القرن الإفريقي للاستراتيجية التركية في إفريقيا

تنبع أهمية منطقة القرن الإفريقي بالنسبة لتركيا من موقعها الجغرافي الحيوي، إلى جانب أهميتها الجيواقتصادية بحكم تحكمها في أهم ممرات التجارة العالمية العابرة في مضيق باب المندب؛ حيث يعبر نحو 4.7 ملايين برميل نفط يوميًّا من مجمل تجارة النفط العالمية،

بالإضافة إلى أن 33 ألف رحلة بحرية تتم سنويًّا بمحاذاة سواحل الصومال، كما أن 14% من التجارة البحرية العالمية بقيمة 1.8 تريليون دولار أميركي و26% من تجارة النفط وقيمتها 315 مليار دولار أميركي تتم عبر سواحل الصومال سنويًّا(1)،

كما يمتلك القرن الإفريقي مفاتيح الدخول إلى البحر الأحمر، الذي يحظى باهتمام جيوسياسي وعسكري بارزين، وهو ما يدفع القوى الكبرى والصاعدة إلى تأمين قنوات تجارتها العالمية، والبحث عن موطئ قدم لها في منافذ القرن الإفريقي، عبر نشر قواعد عسكرية إقليمية أو بناء تحالفات استراتيجية مع دولها، لتأمين خطوط تجارته بحرًا وجوًّا،

كما يعد إقليم القرن الإفريقي من أسرع اقتصادات القارة الإفريقية نموًّا بعد غرب إفريقيا؛ حيث تقع 10 دول إفريقية ضمن لائحة الدول 64 الأسرع نموًّا في العالم لعام 2013 و2014(2).

هذا بالإضافة إلى أهمية موانئه البحرية التي تشهد تدافعًا دوليًّا وخليجيًّا من أجل السيطرة على ممرات التجارة العالمية، على عكس نظرية “قلب العالم” للبريطاني، هالتفورد جون ماكندر (Halford John Mackinder)، التي مفادها أن من يتحكَّم في شرق أوروبا يسيطر على قلب العالم، ومن يتحكَّم في قلب العالم يسيطر على الجزيرة العالمية،

وهي قارتا آسيا وإفريقيا، لكن مع الطفرة التكنولوجية راهنًا، يمكن القول: إن من يتحكم بموانئ القرن الإفريقي التجارية الكبرى ومضيق باب المندب يمكن من خلالهما أن يضبط إيقاعات التجارة العالمية.

إذن، بات القرن الإفريقي في صلب الرؤية الاستراتيجية التركية كمدخل للقارة الإفريقية، وذلك عبر تعزيز شراكتها الاقتصادية والأمنية والسياسية مع دول شرق إفريقيا، والتي في مقدمتها الصومال وجيبوتي وإثيوبيا والسودان لتمثل بوابة عبور نحو القارة الإفريقية، وإن كان الطابع الاقتصادي بالدرجة الأولى يهيمن على سياسة العمق الاستراتيجي التركية تجاه إفريقيا،

لكن الجانب الأمني والسياسي باتا مرادفين لهذه السياسة الاقتصادية التوسعية في إفريقيا، بحثًا عن أسواق لاقتصادها، وهو ما يجعلها مستقبلًا وجهة اقتصادية لدول القرن الإفريقي وسوقًا إفريقية، لكن هذا مرهون بمدى تحقيق إمكانات التعاون الاقتصادي والأمني مع تلك الدول مستقبلًا.

ويبدو الاهتمام التركي جليًّا في الجوانب الاقتصادية والأمنية أكثر من غيره، لكن لا يمكن حصره في تلك الجوانب فقط، بل يتعدى إلى المجال الإنساني والدبلوماسي، من خلال تحريك أذرعها الإنسانية المتمثلة في الهلال الأحمر التركي ووكالة التعاون والتنسيق التركية TIKA اللذين ينفذان مشاريع إنسانية وتنموية في كل من الصومال وجيبوتي والسودان في العقد الأخير،

وهذا البعد يمثل أحد أدوات التدخل الناعم التركي في إفريقيا، والتي تهدف لربط الصلات الدينية والثقافية بين دول المشرق الإفريقي وتركيا؛ ما يشير إلى أن الاهتمام التركي بالمنطقة يحمل أبعادًا إنسانية،

ولا يدخل في صلب اقتصاد المقايضة فقط، وبعيدًا عن سياسة المصالح المتبادلة المجردة من البُعد الإنساني، وتبرهن تركيا من خلال أدوارها المتعددة في القرن الإفريقي على أنها مختلفة تمامًا عن بقية الفاعلين والمؤثرين في المنطقة، بحكم تاريخها وحضارتها القديمة في القرن الإفريقي والشرق الأوسط(3).

كما أن ما يميز حضورها التقليدي في المشرق الإفريقي أنها تفخر بأنها ليس لديها ماض استعماري في دول المنطقة، على خلاف الغزو الأوروبي منذ الكشوفات البرتغالية في شرق إفريقيا في القرنين، الخامس عشر والسادس عشر.


  • الحضور التركي في القرن الإفريقي: قوة تقليدية أم ناشئة؟

يظن بعض المتابعين للشأن الأفرو-تركي بأنه حديث عهد بالقرن الحادي والعشرين، نظرًا للتغلغل التركي في العقدين الأخيرين في إفريقيا من خلال سياسة انفتاح تركية تبنَّتها أنقرة عام 1998، لكن الحضور التركي في القرن الإفريقي قد عاصر فترات تاريخية متلاحقة وعصورًا مختلفة،

وتعود العلاقات التقليدية بين تركيا ودول القرن الإفريقي إلى تاريخ وصول طلائع القوى الأوروبية الاستعمارية إلى الساحل الإفريقي العربي، ثم إغلاقها لاحقًا للطرق الرئيسة في البحر الأحمر والخليج العربي.

الأمر الذي دفع الدولة العثمانية للتحرك نحو منطقة القرن الإفريقي بهدف إحكام السيطرة على مداخل البحر الأحمر، ثم قامت بفرض نفوذها على الصومال والسودان وإريتريا، وشكَّلت مدن الصومال الواقعة في شمال البلاد مراكز نفوذ تابعة للدولة العثمانية، مثل مدينة بربرة ومدينة زيلع،

في أواخر القرن الثامن عشر حتى أصدر السلطان العثماني عبد العزيز 1861-1876، فرمانًا يتنازل فيه عن ملحقات الدولة العثمانية في مدينتي زيلع وبربرة للخديوي إسماعيل حاكم مصر، والذي أرسل الحاميات المصرية إلى سواحل الصومال الشمالية، وظلت تلك المدن الصومالية في قبضة الدولة المصرية حتى استولى عليها الإنجليز، عام 1885، بعد نشوب الثورة المهدية(4).

وفي أواخر القرن التاسع عشر، دخل الخديوى إسماعيل مع جيشه مدينة هرار الإثيوبية، عام 1875، وأسس أول حكم عثماني في الحبشة، وعيَّنت الدولة العثمانية، عام 1911، أحمد مظهر بك، قنصلًا لها للمدينة بعد القنصل الأول، نجيب حاج أفندي،

وتمكن مظهر بك من افتتاح مكتب الهلال الأحمر التركي في مدينة هرر؛ حيث كان راعيًا لشؤون الأتراك والمسلمين في إثيوبيا، حتى نقل مقر القنصلية التركية إلى أديس أبابا، عام 1913(5)، وتم ترميم مبنى القنصلية التركية في هرر، عام 2019، من قبل وكالة التعاون والتنسيق التركية،

كواحد من الرموز التاريخية والدينية التي تمتاز بها المدينة المدرجة في قائمة التراث العالمي لـ”منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)”(6)، وكان للعثمانيين قنصلية أخرى في جيبوتي وكان يرأسها برهان باي، قبل الاحتلال الفرنسي، عام 1880(7).

واختفى الحضور العثماني من ساحة إفريقيا تدريجيًّا عقب سقوط الدولة العثمانية، عام 1924، واختلت مسارات التوازن والهيمنة في مناطق حكم العثمانيين في شرق إفريقيا، وخضعت للاستعمار الغربي لعقود طويلة، وبات القرن الإفريقي ساحة قُسِّمت جغرافيتها بين المستعمر الإيطالي والفرنسي،

وانتشرت أساطيلهما في كل من الصومال وجيبوتي والسودان وإريتريا، وبقيت تلك المناطق في حالة فوران وثورات دائمة متكررة لمواجهة الاحتلال حتى في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

أما تركيا الحديثة فأنشأت أول سفارة لها في إفريقيا تحديدًا في أديس أبابا، عام 1926، وافتتحت إثيوبيا سفارتها في تركيا، عام 1933(8)، وتجددت العلاقات التركية قرن-الإفريقية مرة أخرى عام 1979 بعد تبادل السفارات بين الصومال وتركيا، واللتان دشَّنتا فترة جديدة من العلاقات الدبلوماسية(9)،

وهي علاقات جسدتها مشاركة أنقرة في مهمة بعثة الأمم المتحدة في الصومال بقيادة واشنطن، عام 1992، بعد انهيار الدولة المركزية؛ حيث أرسلت تركيا قوات قوامها 300 من المشاة وثلاث سفن حربية إلى مقديشو(10)، بقيادة الجنرال التركي “جيفيك بير” بين عامي 1993-1994(11).


ويمكن تقسيم الحضور التركي في القرن الإفريقي إلى المراحل التالية:

  1. مرحلة الانفتاح 1998: تحتل القارة الإفريقية حيزًا مهمًّا في رؤية السياسة الخارجية التركية، وبدأت الفترة الأولى من اهتمامها بمنطقة القرن الإفريقي، عام 1998، وهي سياسة محكومة بـ”نقطة انطلاق” للتوسع نحو القارة السمراء، استجابة للمتغيرات الإقليمية والدولية التي شهدها العالم مع بداية الألفية الجديدة وتحديدًا في أعقاب الحرب على ما يسمى بـ”الإرهاب”، عام 2001(12).

 

    1. مرحلة أردوغان–أوغلو 2003: وهي المرحلة التي نشطت فيها رؤية “الأردوغانية ” و”العمق الاستراتيجي” مع ولادة حكومة العدالة والتنمية في تركيا، عام 2002، والتي على إثرها خرجت أنقرة من إطار النمطيات والعزلة الداخلية في فترة الثمانينات من القرن الماضي، والتي هيمنت على الفكر السياسي التركي، واتشحت بثوب التجديد في سياساتها الخارجية منذ أوائل التسعينات، وأضحى التحول الدراماتيكي للسياسة الخارجية التركية لافتًا مع بدء مشروع أردوغان-أوغلو للتوجه نحو إفريقيا من خلال صياغة استراتيجية تركية لتطوير العلاقات الاقتصادية مع إفريقيا، عام 2003(13، لتتمكن أنقرة من الانضمام إلى الاتحاد الإفريقي كعضو مراقب، عام 2005، فهذا التوجه التركي نحو إفريقيا كان انعكاسًا لعملية التنمية الداخلية التركية والبحث عن أسواق جديدة؛ حيث ازدادت الصادرات التركية إلى أربعة أضعاف من 40 مليارًا، عام 2002، إلى 158 مليار دولار، عام 2014، كما ازدادت الاستثمارات التركية في إفريقيا بشكل عام متمثلة في الشركات الصغيرة والمتوسطة، وخاصة في مجال البناء والصناعات الخفيفة وإنتاج السلع المنزلية؛ حيث ارتفع حجم الاستثمارات التركية في إفريقيا ما بين 5 و8 بلايين دولار أميركي(14).

 

  1. مرحلة التوسع والامتداد 2011: وبدأت الفترة الثالثة من التدخل التركي في إفريقيا عبر بوابة القرن الإفريقي، عام 2011. وبزيارة رئيس الوزراء التركي، آنذاك، رجب طيب أردوغان (الرئيس التركي الحالي) إلى الصومال، ليكون أول رئيس حكومة غير إفريقي يزور مقديشو، التي كانت تواجه حينها أزمة إنسانية نتيجة الجفاف، وهي الزيارة التي حملت لاحقًا أبعادًا إنسانية واقتصادية وسياسية، وحركت المياه الراكدة لنجدة الصومال الذي كاد العالم أن ينساه في خضم أزماته المعقدة(15)، لكن زيارة أردوغان إلى الصومال فُسِّرت لاحقًا لدى خصوم أنقرة على أنها محاولة لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، فلسفتها بعث الروح في الدولة العثمانية في إفريقيا وعززتها زيارة وزير الخارجية التركي الأسبق، أحمد داوود أوغلو، إلى مقديشو، عام 2012، بعد نحو عام من زيارة أردوغان إلى الصومال، وألقى أوغلو خطابًا أمام نواب البرلمان شدَّد فيه على تصميم بلاده على المساهمة في وقوف الصومال على قدميه ليستعيد مكانته في المجتمع الدولي بحكم أنه بلد له تاريخ عظيم تربطه علاقة بالإمبراطورية العثمانية ويكتسب أهمية استراتيجية في موقعه الجغرافي(16).

إذن، تبدو علاقات تركيا بالقرن الإفريقي تاريخية، وتكتسي أهمية اقتصادية وسياسية وأمنية، نفكِّك أبعادها وتأثيرها على مستقبل الحضور التركي في المشرق الإفريقي كموقع فريد وحيوي، ولا يمكن اختزال الترابط التركي بالمنطقة بالمجال الاقتصادي فحسب، كدولة تستغل ثروات المنطقة، بل يمكن اعتبار العلاقات التركية بدول المشرق الإفريقي تمتاز بجوانب إنسانية وأمنية وسياسية أخرى، نفصِّلها في المحاور الآتية:

  • طبيعة الوجود التركي في القرن الإفريقي

يتمثل الحضور التركي في شرق إفريقيا في مجالات مختلفة، انطلاقًا من سياسة “العمق الاستراتيجي” والتمدد بشكل طبيعي في قربها الجغرافي القريب والبعيد، والمشاركة في سباق التنافس الاقتصادي المحموم في إفريقيا، عبر بناء تحالفات استراتيجية مع دولها، بحثًا عن أسواق جديدة تمثل رافعة قوية لتعزيز اقتصادها وضمان موقعها في سباق التسلح إقليميًّا ودوليًّا من خلال دخول اتفاقيات أمنية وبناء قواعد عسكرية، لتعزيز مستقبل وجودها في إفريقيا وتأمين تجارتها العابرة في المحيط الهندي المطل على سواحل دول مضطربة أمنيًّا وسياسيًّا.

 يمكن تلخيص طبيعة الحضور التركي في القرن الإفريقي في النقاط التالية:      

    1. البعد الاقتصادي: يغطي البعد الاقتصادي والاهتمام التركي لهذا الجانب على جميع مبررات وجودها في منطقة القرن الإفريقي، وتُولِي أنقرة هذه الدول اهتمامًا كبيرًا باعتبارها جسر عبور إلى بقية دول إفريقيا، على الرغم من حالة الغليان الذي تعيشه تلك المنطقة راهنًا، لكن بشكل عام يشهد التعاون الاقتصادي بين تركيا والقرن الإفريقي نموًّا ملحوظًا ومتزايدًا؛ حيث دشنت تركيا بالشراكة مع جيبوتي خطًّا ملاحيًّا بحريًّا استراتيجيًّا، من أجل رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين، الذي وصل عام 2019 إلى 255 مليون دولار بعد أن كان 96 مليونًا قبل 5 سنوات(17).

 

    1. بينما زاد حجم التبادل التجاري بين أنقرة ومقديشو نحو 37% حيث وصل إلى 206 ملايين، بعد ان كان 150 مليون دولار في 2017(18). أما إثيوبيا، فتعد أنقرة ثاني أكبر مستثمر في البلاد بعد الصين، وبلغ ججم الاستثمارات التركية في إثيوبيا نحو 2.5 مليار دولار، كما تنتشر 200 شركة تركية في إثيوبيا، وتعمل في قطاع الإسمنت والمنسوجات، وتوفر فرص عمل لعدد كبير من الإثيوبيين، للحدِّ من البطالة المتفشية في البلاد، ويقدر حجم التجارة بين أنقرة وأديس أبابا بنحو 650 مليون دولار بحلول عام 2020(19).

 

  1. ووقَّعت تركيا اتفاقيات تجنُّب الازدواج الضريبي مع 13 دولة إفريقية في السنوات العشرة الأخيرة، ووقعت اتفاقية التجارة الحرة مع 5 دول أخرى؛ مما أسهم في رفع حجم التبادل التجاري مع القارة الإفريقية من 5.4 مليارات دولار عام 2003، إلى 26.2 مليار دولار عام 2019. لكن الهدف من توقيع هذه الاتفاقية، هو رفع حجم التبادل التجاري إلى 50 مليار دولار بين تركيا وإفريقيا خلال السنوات المقبلة(20).

  1. البُعد السياسي والأمني: انطلاقًا من مقولة: “الاقتصاد والسياسة توأمان لا ينفصلان”، تبدو السياسات التركية تجاه تنويع محددات وأبعاد وجودها في القرن الإفريقي سياسة منسجمة مع طبيعة حضورها اللافت في المشرق الإفريقي، فبدون وجود استقرار سياسي في تلك الدول لا يستطيع حجم تجارتها في إفريقيا أن ينمو على النحو الذي ترمي إليه، ولهذا تسعى تركيا إلى إخماد حرائق القرن الإفريقي، لتجنيب اقتصادها خطر أي حريق يندلع في عمقها الاستراتيجي في إفريقيا، ولهذا رعت مفاوضات بين الصومال وأرض الصومال (صومالي لاند)، من أجل التوصل إلى اتفاق تاريخي منذ عام 2013، وعيَّنت أنقرة مبعوثًا لمتابعة حيثيات تلك المفاوضات، التي توقفت مؤخرًا(21). وكذلك تحاول أنقرة حل النزاع العسكري والعرقي في إثيوبيا والتوسط بين آبي أحمد (رئيس الوزراء الإثيوبي) وجبهة تحرير تيغراي(22)، وهو صراع -إذا استمر- سيغير معادلات التوازن في منطقة القرن الإفريقي، ولهذا أبدى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في أنقرة، استعداده للتوسط لحل النزاع في إثيوبيا.

أمنيًّا: وقَّعت أنقرة اتفاقيات أمنية مع كل من الصومال وإثيوبيا منذ عام 2015، وذلك لتعزيز حضورها الأمني من خلال تشييد أكبر قاعدة عسكرية لها في العالم والتي بلغت كلفة إنشائها نحو 50 مليون دولار أميركي، وتخرِّج سنويًّا آلافًا من الجنود المتدربين، يفوق عددهم حاليًّا 10 آلاف جندي من الجيش الصومالي، إلى جانب تزويد الحكومة الصومالية بمدرعات عسكرية وأسلحة نوعية، لتعزيز قدرات جيشها وفرض الأمن والاستقرار في البلاد، بعد عقود من الفوضى الأمنية(23).

كما وقَّعت اتفاقية أمنية مع أديس أبابا، في أغسطس/آب الماضي (2021)، وهي الاتفاقية التي لم يُكشف الستار عن فحواها حتى الآن؛ ما أثار قلقًا مصريًّا حول حدوث إمكانية تنسيق عسكري إثيوبي-تركي، في ظل فشل المفاوضات حول سد النهضة بين الدول الثلاثة (إثيوبيا والسودان ومصر)(24).

  1. البعد الإنساني (القوة الناعمة): تنفذ الهيئات التركية في دول القرن الإفريقي مشاريع إنمائية متعددة المجالات، وكان هذا البعد هو عنوان التدخل التركي في الصومال، منذ زيارة الرئيس التركي، أردوغان، إلى مقديشو، عام 2011؛ حيث تواصل الهيئات التركية تنفيذ مشاريع تنموية؛ إذ قُدِّر حجم المشاريع التي موَّلتها الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا” TIKA، بين 2011 و2018، في الصومال بقرابة 500 مليون دولار(25). وهي الوكالة التي تنشط في كل من جيبوتي وإثيوبيا والسودان، ولها مشاريع تعليمية وصحية وثقافية، وتلامس تلك المشاريع وجدان شعوب تلك الدول، فسياسة “القوة الخيِّرة” أكسبت تركيا تعاطفًا وقربًا من شعوب المنطقة، بحكم حجم نشاطها الإنساني اللافت للنظر، على عكس المشاريع الإنمائية متواضعة الحجم التي تنفذها دول أوروبية أو عربية في تلك الدول.
  • تحدي الوجود التركي في القرن الإفريقي: سياق إقليمي متغير

إن المتغيرات الجيوسياسية التي يشهدها القرن الإفريقي من أحداث سياسية وأمنية عسكرية وأخرى بيئية كالجفاف والجراد، منذ عام 2017، يضع علامة استفهام حول مستقبل الوجود الأجنبي في المنطقة، فحالة عدم الاستقرار التي تواجهها بعض دول شرق إفريقيا تثير مخاوف لدى البعض وخاصة أصحاب اليد الطولى، ناهيك عن القوى الصاعدة التي تنافس قوى تقليدية لها حضور في الإقليم، فاستمرار حالة الانفجار المتمثلة في الأوضاع السياسية والأمنية المتدهورة بدءًا من الصومال ومرورًا بإثيوبيا ووصولًا إلى السودان، تشكِّل حتمًا تحديًا لمستقبل التموضع التركي ومآلاته المستقبلية في القرن الإفريقي، وتحديدًا الصومال التي تستضيف قاعدة عسكرية تركية تضم عشرات من المتدربين الأتراك، فضلًا عن مئات آخرين يعملون في قطاعي الصحة والتعليم.

ويمكن تناول أبرز ملامح مهدِّدات الوجود التركي في دول القرن الإفريقي في النقاط التالية:

    1. الوضع الداخلي في الصومال: منذ انتهاء الفترة الدستورية للبرلمان والرئاسة في الصومال، في فبراير/شباط الماضي، يعيش الصومال وضعًا داخليًّا صعبًا للغاية، يكاد المشهد السياسي فيه أن يتحول إلى نزاع مسلح، ففي شهر أبريل/نيسان الماضي، شهدت العاصمة، مقديشو، مواجهات مسلحة بين فصائل مسلحة من الجيش الصومالي رافضة لفترة التمديد التي أقرها البرلمان في 12 من الشهر ذاته؛ ما دفع رئيس البلاد، محمد عبد الله فرماجو، للتراجع عن قرار التمديد بعد ضغوط دولية ومحلية، لكن حالة الاحتقان السياسية لم تنته بعد، فانفجرت براكينها مع بروز أزمة دستورية بين رئيس الحكومة الفيدرالية، محمد حسين روبلي، والرئيس الصومالي، في سبتمبر/أيلول الماضي، بسبب غموض في الدستور حول صلاحيات الرجلين، وهي أزمة دستورية كانت قائمة منذ كتابة الدستور المؤقت (عام 2012) والذي يضم إشكاليات عميقة في توزيع الصلاحيات والاختصاصات بين رئيس البلاد ورئيس حكومته من جهة وصلاحيات رؤساء الولايات الفيدرالية من جهة أخرى، فاستمرار حالة الانسداد السياسية بعد فشل وساطة محلية لتقريب المواقف بين الرئاسة الصومالية والحكومة الفيدرالية، تنذر بنشوب صراعات مسلحة في العاصمة، مقديشو، التي تحاول النهوض من ركام الحرب الأهلية، هذا فضلًا عن استغلال حركة الشباب للوضع السياسي المتردي وتنفيذ تفجيرات انتحارية متلاحقة في العاصمة، وما عزز هذه الفرضية هو التفجير الأخير الذي استهدف حاجزًا أمنيًّا لا يبعد عن القصر الرئاسي سوى أقل من كيلومترين فقط.

  1. وتمثل حركة الشباب أيضًا تهديدًا حقيقيًّا للوجود التركي في الصومال؛ حيث أصدرت أكثر من مرة رسائل تهديد موجهة للأتراك وحذرت الصوماليين من مغبة الاقتراب من منشآتها العسكرية في مقديشو، وذلك بسبب الضغط العسكري الذي تشكِّله الفرق العسكرية الصومالية المدربة تركيًّا التي تقاتل حركة الشباب؛ حيث تمكنت تلك الوحدات الصومالية من تحرير مدن عدة من قبضة الحركة، دون أن تساندها وحدات من القوات الإفريقية (أميصوم) كما جرت العادة سابقًا.

إذن، تبدو أنقرة منخرطة أكثر في الخيار العسكري في الصومال؛ من خلال تدريب الجنود وضباط الصف في الجيش الصومالي، وتزويد تلك الوحدات العسكرية بآليات عسكرية تركية، لإحداث فرق وتفوق عسكريين في ميادين القتال ضد حركة الشباب، وذلك من أجل تأمين مستقبل وجودها في هذه المنطقة الاستراتيجية ومواجهة المهددات الأمنية التي تهدد مصالحها من خلال رفع الجهوزية القتالية لأفراد الجيش الصومالي،

لكن فشل جهود بناء الدولة والاضطرابات السياسية في الصومال، يمكن أن يمثل التهديد الحقيقي الأكبر بالنسبة للوجود التركي، ففشل جهود بناء الدولة الصومالية يمكن أن ينسف الوجود الإفريقي والأجنبي في البلاد، وسيناريو أفغانستان ليس ببعيد عن الصومال، الذي انهار جيشه بسبب فساد داخل المنظومة العسكرية، لينطبق عليه القول: “إن فساد السمكة يبدأ من رأسها”.

  1. الوضع الداخلي في إثيوبيا: تشهد إثيوبيا منذ تفجر النزاع العسكري في إقليم تيغراي، عام 2020، مرحلة مختلفة تكاد تهدد مستقبل الدولة الكونفيدرالية في إثيوبيا نتيجة مخاوف من انتقال عسكرة المشهد من إقليمَيْ، أمهرة وتيغراي، إلى بقية الأقاليم الإثيوبية الأخرى، وهي أقاليم تشهد أيضًا مواجهات مسلحة بين الإثنيات، فالصراع المسلح بين قوميتي الصومالية والعفرية متقطع، تخبو جذوة ناره تارةً لتشتعل أخرى، فضلًا عن الصراع المسلح بين الأمهرا والتيغراي، وهذا ما يعكس أن الصراع بين الجيش الإثيوبي من جهة ومليشيات جبهة تحرير تيغراي يمكن أن يتحول إلى حرب شاملة تهدد النسق الاجتماعي في إثيوبيا، ففي كل حرب عسكرية بين قوميتين تترك وراءها مآسي ومجازر بشرية لا تفرِّق بين صغير وكبير، وهو ما سيُدخل حكومة آبي أحمد في عزلة دولية إذا لم تنجح في وأد النزاع العسكري الذي انزلقت إليه بسهولة، وذلك بعد تهديدات أميركية بفرض عقوبات على آبي أحمد وقيادات الحكومة الإثيوبية ما لم يُحسم الصراع بين التيغراي والجيش الإثيوبي عاجلًا.

إن استمرار حلقة التدهور الأمنية والسياسية في إثيوبيا لا يصب في مصلحة تركيا، وربما سيقضم جهود تمددها نحو القرن الإفريقي، اقتصاديًّا وسياسيًّا، فمحاولات تركيا التوسط بين جبهة تحرير تيغراي والحكومة الإثيوبية هي من أجل إيجاد حلٍّ أمثل لإنهاء النزاع، لكن تبدو حسابات آبي أحمد ضيقة ولا تتماشي مع مخاوف تركيا من إمكانية حدوث حرب أهلية شاملة في إثيوبيا وهو ما يهدد القرن الإفريقي بحدوث أزمات أمنية وإنسانية إذا تفككت إثيوبيا إلى يوغسلافيا جديدة في القرن الإفريقي، تتكون من أقاليم إدارية منفصلة عن بعضها البعض وتتناحر فيما بينها.

    1. الوضع الداخلي في السودان: يعاني السودان من أزمتين حادتين في المرحلة الراهنة، داخلية وأخرى خارجية، فالأزمات الداخلية تتمثل في اقتصاده الهش والإضطرابات السياسية بعد فشل محاولة انقلاب عسكرية في سبتمبر/أيلول الماضي، إلى جانب تصدع جدار الثقة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، هذا فضلًا عن احتجاجات قبائل البجا في الولايات الشرقية التي أغلقت ميناء بورتسودان وخطوط إمداد النفط؛ ما ينذر بحدوث كارثة اقتصادية قريبًا في البلاد، بينما الأزمة الخارجية تتمثل في الصراع الحدودي مع إثيوبيا وهو سجال بري ومائي في آن واحد تتخلله مواجهات متقطعة بين الجيشين المرابطين عند تخوم المناطق الحدودية بين البلدين، لكن بالنسبة لأنقرة قد دوَّى لها جرس التحول منذ عزل الرئيس السوداني، عمر البشير (1989 -2019).

  1. وهو ما دفع تركيا إلى البحث عن مسارات جديدة للتعاون مع المجلس العسكري مباشرة من خلال زيارة وزير الخارجية التركي، جاويش أوغلو، إلى الخرطوم، عام 2019، وإجراء محادثات مغلقة مع رئيس المجلس العسكري، عبد الفتاح البرهان(26)، إلى جانب استضافة نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، محمد حمدان دقلو “حميدتي”، في أنقرة، في مايو/أيار الماضي(27)، وهي محادثات تأتي في إطار تأكيد الدور التركي الاقتصادي والديني في السودان، وقد وقَّعت تركيا في ظل فترة حكم البشير على اتفاقية لإعادة إعمار جزيرة سواكن التاريخية، والتي كانت في الحقبة العثمانية جزءًا من امتدادها الطبيعي، فقد كانت الجزيرة مركزًا لحماية بحريتها في البحر الأحمر (1821-1885). هذا، بالإضافة إلى اتفاقية سابقة بين أنقرة والخرطوم، عام 2014، والتي من ضمنها الاستثمار في مطار الخرطوم الدولي، واستئجار الحكومة التركية لأراض بلغت مساحتها 780 ألفًا و500 هكتار لمدة 99 عامًا(28). كما أن حيازة أنقرة جيوبًا استراتيجية في مدخل البحر الأحمر يأتي في سياق قلق خليجي (الإمارات والسعودية) ومصري حول وجود تنسيق قطري-تركي مشترك لتطويق مصر والسعودية والإمارات من الحديقة الخلفية؛ لكن حدوث انفراجة مفاجئة للأزمة الخليجية والتقارب التركي/القطري-الإماراتي، بمبادرة من أبوظبي ربما ستمهد الطريق لمرحلة جديدة من التفاهمات، على الرغم من أن تراجع سياسات الإمارات في المنطقة لا تعدو كونها مناورة من ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، بعد سنوات من التدخلات العسكرية والسياسية الإماراتية في الحواضر العربية الإقليمية والدولية(29).

سيناريوهات مستقبل العلاقات بين تركيا والقرن الإفريقي

على الرغم من الأوضاع المتقلبة والمتغيرات الجيوسياسية في دول شرق إفريقيا، إلا أن النفوذ التركي فيها سيبقى رهن حجم التحولات التي تشهدها الدول المتحالفة مع أنقرة، سواء كانت تلك التحولات اقتصادية أو سياسية،

وهي الأشد خطورة بالنسبة للعمق الاستراتيجي التركي في المنطقة، وهي التي تسعى أنقرة لتحييدها، وتعمل جاهدة من أجل أن تكون قريبة من دوائر صنع القرار السياسي في تلك الدول، على الرغم من الإغراءات التي تتلقاها تلك الدول من خصوم تركيا لمقاطعتها أو التقليل من حجم نفوذها،

ففي حال نجاح تلك المخططات والمساعي التي تدار خلف الكواليس من أجل إجهاض مشروع تركيا في منطقة القرن الإفريقي، فإن مستقبلها في المنطقة سيواجه انكماشًا حادًّا ويهدد مصالحها في إفريقيا بشكل عام والقرن الإفريقي المضطرب على نحو خاص، وهو مستقبل سيكون محكومًا أيضًا بعدة سيناريوهات.

السيناريو الأول: تعزيز النفوذ التركي في القرن الإفريقي: مما لا شك فيه أن التدخل التركي في منطقة القرن الإفريقي تحركه دوافع سياسة واقتصادية، ويندرج تحت الرؤية التركية التي تحكم مسار سياستها الخارجية المنبثقة من محددات العمق الاستراتيجي (Strategic Depth)،

وهذا السيناريو الأكثر ترجيحًا، رغم التحديات التنافسية من قبل الصين والولايات المتحدة الأميركية وروسيا، إلى جانب خصوم تركيا المنافسين في القرن الإفريقي الذين يخشون من توسع النفوذ التركي، الذي يهدد مصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية، وهو هاجس مقلق بالنسبة للقاهرة، التي تخشى أن تصبح أنقرة مهددًا حقيقيًّا لأمنها المائي وذلك بعد توقيع اتفاقية أمنية وعسكرية بين أنقرة وأديس أبابا،

في أغسطس/آب الماضي، عشية زيارة آبي أحمد إلى تركيا، بينما الإمارات والسعودية، يساورهما القلق من اقتراب تركي من مداخل البحر الأحمر، لذا تستميت أبوظبي للبقاء في جمهورية ما يسمى بأرض الصومال، كدرع واق لمصالحها الاقتصادية والسياسية قبل أن تجد أنقرة موطئ قدم لها في مضيق باب المندب وخليج عدن.

السيناريو الثاني: تحدي المواجهة: إن التدافع الدولي نحو منطقة القرن الإفريقي آخذ في التصعيد في الفترة المقبلة، فتوقيع اتفاقية عسكرية بين موسكو وإثيوبيا، عام 2021، يرجِّح فرضية عودة الدب الروسي تحت غفلة واشنطن بصراعاتها المتعددة في العالم، كما أن الصين تعد الشريك التجاري الأكبر لإثيوبيا؛ إذ بلغت القروض الصينية لإثيوبيا نحو 16 مليار دولار من بينها نحو 1.8 مليار لتمويل أعمال إنشائية مرتبطة بالسد،

كما أن حجم الاستثمارات الخليجية في دول حوض النيل وخاصة إثيوبيا وصلت إلى 13 مليار دولار أميركي، استُثمرت في مجالات مختلفة؛ وأنفقت السعودية نحو 4.9 مليارات دولار، بينما استثمرت دولة الإمارات ما يقدر بـ5.1 مليارات دولار، وذهبت كل تلك الاستثمارات الخليجية إلى إثيوبيا والسودان وإريتريا وجنوب السودان، لتنفيذ نحو 309 مشروعات مختلفة(30).

ونظرًا لحجم الاستثمارات الصينية والخليجية والتركية في القرن الإفريقي، إلى جانب الرغبة الروسية في العودة إلى القرن الإفريقي من خلال بوابة جيبوتي وإثيوبيا، فإن دخول منافسة مع القوى المضادة للمشروع التركي، ستكون واردة، فنجاح سياسات تركيا والخروج بسهولة من رحم الأزمات السياسية والاقتصادية التي يشهدها القرن الإفريقي سيخضع حتمًا لحسابات تركية دقيقة، لن تكون بمنأى عن دخول أحلاف جديدة وتشكيل تكتلات أكثر قدرة على الصمود،

وذلك في ظل رغبة تركية للبقاء في المنطقة لفترة طويلة، مع إعلان نيتها عن تنفيذ مشروع بناء ميناء فضائي لإطلاق الصواريخ نحو الفضاء من الصومال لقربه من خط الاستواء، بتكلفة تصل نحو مليار دولار أميركي(31).

السيناريو الثالث: انحسار النفوذ التركي في القرن الإفريقي: إن سياسة “صفر مشاكل مع الجوار” هي من ضمن أولويات السياسة الخارجية التركية، إلى جانب رؤية إخماد الحرائق المشتعلة من “البيوت الخشبية” قبل أن تصل ألسنة نارها إلى تركيا، فإذا لم تنجح المساعي التركية للتوسط في إثيوبيا بين آبي أحمد وجبهة تحرير تيغراي، والصومال بين حكومة مقديشو وصومالي لاند، والسودان بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، ووصول القوى المضادة إلى عواصم تلك الدول،

هذا فضلًا عن تفاقم مشكلة الارتدادات الأمنية وتصاعد مستوى العنف المستهدِف للوجود التركي خاصة في الصومال، فإن الانحسار التركي في المنطقة تدريجيًّا سيكون راجحًا، إذا لم تقْدِم تركيا على تبني سياسات أخرى أكثر نضجًا ومواءمة مع المتغيرات الجيوسياسية في القرن الإفريقي، هذا فضلًا عن مدى إمكانية دخولها اتفاقيات جديدة مع القيادات الجديدة في المنطقة من جهة، ومراجعة علاقاتها مع الدول الضاغطة (القوى المضادة) وإجراء معالجات اضطرارية في التعاطي مع القضايا السياسية والتحولات المستجدة في القرن الإفريقي، من جهة أخرى.


  • خاتمة

إن توسع النفوذ التركي في إفريقيا وتمدده في منطقة تشبه قوس الهلال في إفريقيا، ابتداء من الصومال مرورًا بالسودان ووصولًا إلى ليبيا، يعد انعكاسًا لنجاح السياسة الخارجية التركية تجاه القارة السمراء منذ نحو عقدين، على الرغم من الصعوبات التي تشهدها دول القرن الإفريقي، من أزمات أمنية وارتدادات اقتصادية لا تزال تأثيراتها تنعكس سلبًا على الأوضاع المعيشية الداخلية،

فضلًا عن تأثيراتها المحتملة والقوية على حجم التبادل التجاري بين تركيا وتلك الدول الإفريقية، وتركز أنقرة حاليًّا على علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع الصومال، التي تعتبرها قلبها النابض في شرق إفريقيا وتعوِّل عليها كثيرًا لتعزيز وجودها في المنطقة،

رغم التحديات التي يواجهها الوجود التركي في الصومال والتهديدات المحتملة من قبل حركة الشباب لاستهداف الأتراك، لكن عوامل النجاح لتحقيق الأهداف قريبة المدى وطويلة الأجل والتموضع في إفريقيا بشكل عام وتحديدًا في مدخلها الشرقي تبدو أكثر من العوائق والتحديات التي تهدد الحضور التركي في القرن الإفريقي،

وهي تحديات بمنزلة حقل ألغام قابلة للانفجار إذا ارتكبت أنقرة تصرفات سياسية غير مدروسة لنتائجها سلفًا، وهو ما من شأنه أن يحبط آمال تركيا، وخاصة بعدها الاقتصادي الذي يعد عمود ارتكاز وحجر الزاوية في سياستها الخارجية تجاه دول القرن الإفريقي.


مركز الجزيرة للدراسات

الشافعي أبتدون

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى