علوم سياسية

الانقسام والمسؤولية السياسية – دولة ليبيا نموذجا

  • مدخل:

ليبيا، دولة عربية مغاربية، تقع شمال إفريقيا، وتشهد منذ سنوات عدة انقسامًا سياسيًا معقدًا يهدد استقرارها ووحدتها الوطنية وتماسُكها الاجتماعي.


وتعتبر إشكالية الانقسام السياسي والمسؤولية السياسية، واحدة من أكبر التحديات التي تواجه الدولة والمنطقة والإقليم ككل، حيث يشمل الانقسام السياسي في ليبيا مجموعة من الجوانب المعقدة التي يصل تأثيرُها إلى دول الجوار، ويهدد باستقرار المنطقة.


ما يستدعي الحاجة الملحة لفهم عميق لأسباب هذا الانقسام، وكذلك تحديد كيف يمكن لهذا الوضع أن يؤثر على الشعب الليبي والمنطقة بأسرها. ومن الضروري أيضًا النظر في الجهود المبذولة على المستوى الدولي والإقليمي لحل هذه الأزمة وتعزيز الاستقرار والمصالحة الوطنية.


في هذا السياق، سنبحث في هذه الورقة عددا من الإشكاليات المركزية المتعلقة بالانقسام والمسؤولية السياسية في ليبيا، حيث سنسعى إلى فهم الأسباب والتداعيات والمسارات الممكنة للتغلب على هذه الأزمة، وتحقيق الوحدة الوطنية والاستقرار في هذا البلد الإفريقي والمغاربي والعربي الهام جدا.


  • الإشكاليات المرصودة

– ما الأسباب الرئيسية وراء الانقسام السياسي في ليبيا؟

– ما الأثر المحتمل للانقسام السياسي على اقتصاد ليبيا؟

–  كيف يؤثر الانقسام السياسي على العلاقات الدولية لليبيا؟

– هل هناك تحديات تُعيق تنفيذ المصالحة الوطنية في ليبيا؟

– ما هي تأثيرات الانقسام السياسي على حياة المدنيين في ليبيا؟


هذه الإشكاليات مجتمعة، تساهم في فهم التحديات الكبرى التي تواجه دولة ليبيا في مجال الانقسام والمسؤولية السياسية، وتحفيز البحث والإنتاج العلمي لإعطاء أطروحات وأفكار ومسارات لحل هذه الأزمة وتحقيق الاستقرار والوحدة الوطنية في البلاد.


  • أسباب وجذور الانقسام السياسي في ليبيا

انقسام ليبيا السياسي والمعقد، يتأتى نتيجة لعوامل متعددة تمتد عبر عقود طويلة. بدءً من الإطاحة بنظام معمر القذافي في عام 2011، تطورت الأوضاع بشكل سريع نحو الفوضى والصراع على السلطة والانقسام السياسي، والتنافس على الثروة بين الفصائل المسلحة.


وزاد الأمر سوءً؛ تدخل القوى الإقليمية والدولية، وانعدام هوية وطنية جامعة ومشتركة لليبيين. وليس انتهاءً بالجدل حول الدستور والمؤسسات الوطنية الذي زاد من التوترات والقلاقل الداخلية، وليس انتهاءً بتصاعد الصراعات القبلية والإقليمية بين الشرق والغرب والجنوب الليبي.


هذا الانقسام السياسي؛ أسفر عن انهيار الأمن الوطني وتزايد الصراعات المسلحة وانعدام الأمان وانتشار الجريمة المنظمة، وتجنيد الأطفال في الميليشيات.


لم يقتصر الأمر على الداخل الليبي، وإنما امتد إلى الحدود الإقليمية وهدد باستقرار دول الجوار. ما دعا إلى ضرورة تدخل القوى الدولية لفرض التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم، وإعادة بناء الجيش والشرطة.


  • الآثار الاقتصادية للانقسام السياسي في ليبيا

تعتبر ليبيا واحدة من الدول التي عانت منذ فترة اندلاع الثورة عام 2011 من انقسام سياسي عميق، أثّر بشكل كبير على الاقتصاد الوطني. يعكس هذا الانقسام تداعيات سلبية وتحديات هائلة تواجه الشعب الليبي واقتصاده، وفيما يلي نلقي نظرة على الآثار الاقتصادية لهذا الانقسام.


  • تداعيات على إنتاج وتصدير النفط:

   يعد النفط المصدر الرئيسي للإيرادات في ليبيا، ولكن الانقسام السياسي أثّر بشكل كبير على صناعة النفط. اندلعت صراعات مستمرة بين الأطراف المتنافسة حول مواقع الإنتاج والصادرات، مما أدى إلى توقف مؤقت في الإنتاج وتقليل حجم الصادرات. هذا التأثير السلبي على صناعة النفط تسبب في خسارة إيرادات هائلة للاقتصاد الليبي.


  • ضعف البنية التحتية وانخفاض الاستثمار:

   الانقسام السياسي كذلك، أدى إلى تراجع الاستثمار في البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية. كما أن الحروب والصراعات المستمرة كبدت ليبيا خسائر ضخمة في البنية التحتية الأساسية والاقتصادية، مما أثر سلباً على الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والنقل والخدمات.


  • ارتفاع معدلات البطالة والفقر:

   تأثرت معدلات البطالة بشكل كبير جراء الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة، مع انخفاض فرص العمل وتراجع الإنتاج، وزيادة معدلات البطالة وتفاقم مشكلة الفقر في البلاد.


  • تفاقم الديون والصعوبات المالية:

   بسبب انخفاض إيرادات النفط وتدهور الاقتصاد، اضطرت الحكومات الليبية إلى الاقتراض بشكل كبير لسد عجز الميزانية. ما أدى إلى تفاقم مشكلة الديون العامة وتحميل الأجيال القادمة أعباء مالية ثقيلة جدا، ستجعل اقتصاد البلاد تحت وصاية وهيمنة الدول المانحة.


  • تداعيات الانقسام على القطاعات الزراعية والصناعية:

   الانقسام السياسي في ليبيا، أثر بشكل مباشر على القطاعات الزراعية والصناعية، حيث تضررت عمليات الإنتاج والتصنيع بسبب انعدام الأمان والاستقرار.


ما تسبب في إرباك سلاسل الإمداد لتوفير السلع الأساسية للمواطنين، كما قلص القدرة التنافسية للصناعات الليبية، وأضعف القدرة الشرائية لشريحة عريضة من المواطنين.


  • التدخل الخارجي في ليبيا

تعدّ ليبيا واحدة من أكبر التحديات التي تواجه المجتمع الدولي في موضوع التدخل الخارجي. تمتلك ليبيا موقعًا استراتيجيًا على الساحة الدولية بفضل احتياطياتها الهائلة من النفط والغاز الطبيعي، وهذا يجعلها هدفًا استراتيجيا للعديد من الدول والمنظمات الدولية.


  • التدخل الإقليمي والدولي:

شهدت ليبيا تدخلًا إقليميًا بارزًا، حيث قامت دول مثل تركيا وروسيا ومصر بدعم أطراف مختلفة في الصراع. تلك الدول لها أهداف ومصالح متنوعة في المنطقة، سواء كان ذلك لتحقيق التأثير الإقليمي أو لضمان الوصول إلى موارد النفط الليبي أو الرغبة في تحقيق عمق استراتيجي لهذه البلدان.


في المقابل؛ قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بدعم جهود السلام في ليبيا من خلال دعم المنظمات الدولية مثل، الأمم المتحدة وتسليح الجيش الليبي الوطني. هذا التدخل يأتي في إطار محاولة للمساعدة في استعادة الاستقرار ومكافحة الإرهاب.


لكن هذه التدخلات؛ سواءً الإقليمية أو الدولية؛ تقوض جهود الحكومات المحلية للتوصل إلى تسوية سياسية توافقية داخلية. إذ تزيد هذه التدخلات من التوترات وتصعب عملية تحقيق مصالحة وطنية.


  • مسؤولية السياسيين الليبيين في الانقسام الذي تعيشه ليبيا

يُعد الانقسام السياسي في ليبيا أم المشاكل، فبعد ثورة 2011، فشل السياسيون الليبيون في بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية، قوية ومستدامة، مما ساهم في زيادة شدة الاحتقان وتصاعد التوترات والانقسام السياسية والإيديولوجية والعرقية في ليبيا.


وبالتالي الإجهاز على كل الفرص والوسائل المتاحة والممكنة للحوار والتواصل بين الأجنحة والتيارات والفصائل المختلفة في البلاد، مما أدى إلى تصاعد الصراعات وإذكاء نار الفتنة والفرقة والانقسام.


لم يتمكن السياسيون الليبيون من توجيه الموارد الوطنية بفعالية لتحقيق التنمية وتلبية احتياجات الشعب فحسب، وإنما أفق هؤلاء السياسيون في تجنيب البلاد ويلات ومخاطر التدخلات الخارجية في شؤون البلاد، في سبيل الحصول على الدعم الخارج للبقاء في السلطة مما زاد من تعقيد الصراع بيت الساسة الليبيين الممثلين في حكومتين واحدة في الشرق والأخرى في الغرب.


وبالتالي؛ تتحمل الطبقة السياسية الليبية مسؤولية كبيرة في الانقسام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والوطني الذي تعيشه ليبيا. حيث يرى كثير من الخبراء أن السياسي الليبي هو أكبر عقبة أمام تحقيق التوافق الوطني وبناء دولة قائمة على قوانين ومؤسسات دستورية تضمن مستقبلا أفضل للشعب الليبي.


  • الحكومتين الليبيتيْن .. أبرز تجلٍّ للانقسام السياسي

تشهد ليبيا انقسامًا عميقا على مستوى الدوائر الحكومية، حيث تم تأسيس حكومتيْن منفصلتين تتنازعان السلطة والسيطرة البلاد ومقدراتِها الاقتصادية وقراراتِها السيادية. فالحكومة الشرقية، تتخذ من مدينة طبرق ومدينة بنغازي مقرّا لها، في حين تقع الحكومة الغربية في العاصمة طرابلس.


حيثُ نتج هذا الانقسام عن الصراع الداخلي بين الأطراف المتنازعة على غنيمة الثورة في 2011. وعلى الرغم من المحاولات الكثيرة للتوصل إلى حكومة وحدة وطنية، إلا أن الصراعات الداخلية والمصالح الخارجية للدول المتدخلة في الأزمة الليبية.


لم تسمح بتحقيق ذلك حتى الآن. وهذا الانقسام أثر بشكل كبير على الوضع في ليبيا وعلى العديد من الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.


ولازالت تداعيات هذا الانقسام مسترة على ليبيا حتى الآن، ونورد هنا بعض هذه التداعيات السلبية على البلاد وعلى الشعب الليبي:

  1. زيادة التوترات الأمنية: الصراع بين الحكومتين المتنازعتين، أدى إلى زيادة التوترات الأمنية في البلاد. حيث تشهد المناطق المتنازع عليها اضطرابات مستمرة وصراعات مسلحة بين الفينة والأخرى.
  2. تعقيد الوضع الاقتصادي: الانقسام الحكومي أثر بشكل كبير على الاقتصاد الليبي سواءً الاستثمارات الداخلية أو الخارجية. وبالتالي تعذر إدارة الموارد بفعالية، وتدهورت الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والخدمات والبنية التحتية.
  3. تفاقم أزمة اللاجئين والنزوح: تأثرت ليبيا بشكل كبير بأزمة اللاجئين والنازحين، حيث يجد العديد منهم أنفسهم في وضع معقد بسبب الصراعات الداخلية، وغياب الاستقرار.
  4. التأثير على العلاقات الدولية: الانقسام الحكومي في ليبيا، أثر على العلاقات الدولية، حيث تقدم دول مختلفة دعمًا للأطراف المتنازعة، مما يزيد من تعقيد الصراع، وتعزيز الفُرقة السياسية وارتهان القرار السياسي الليبي لأطراف ودول خارجية. كما أن سياسة الاستدانة المكثفة من الخارج تساهم في ارتهان مصير ومستقبل الشعب الليبي والأجيال القدم لهذه الدول المانحة.
  5. صعوبة تحقيق السلام والاستقرار: يعقد الانقسام الحكومي تحقيق السلام والاستقرار في ليبيا، حيث يصعب التوصل إلى اتفاق سياسي شامل بين الأطراف المتنازعة. وذلك بسبب ثقافة التمسك بالسلطة وتقديم المصالح العرقية والإيديولوجية والضيقة على مصلحة الوطن.

  • خلاصة:

يعيش الشعب الليبي تحت وطأة التداعيات الإنسانية للصراعات والتقاطُبات السياسية والحزبية والإيديولوجية، حيث تزداد معدلات النزوح وتدهور الظروف المعيشية للطبقات الفقيرة.


ما يُحتم التعاون والتنسيق بين الأطراف المعنية وتوحيد الجهود نحو حل سياسي شامل، يمكن أن يعيد الاستقرار إلى ليبيا، ويعزز دورها الإقليمي كفاعل أساسي في المنطقة.


وهذا لن يتحقق في ظل استمرار الانقسام السياسي في البلاد، والذي بدوره يخلق حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والتنموي الذي يُعتبر رافعة أساسية لبناء دولة ديمقراطية ذات سيادة وقائمة على التداول السلمي للسلطة. وليس على الولاءات واستدعاء القوى الخارجية للبقاء في الحكم.


  • قائمة المراجع

  1. Cole, P., & McQuinn, B. (Year). “The Libyan Revolution and its Aftermath.”. 
  1. St. John, R. B. (Year). “Understanding Libya Since Gaddafi.”. 
  1. Joffé, G. (Year). “Libya’s Disintegration and Crisis of Legitimacy: The Role of the UN Security Council.”.
  2. Lubeck, P., & Knutsen, B. O. (Year). “Civil War in Libya and Mali: Violence, Security and Governance.”.

. St. John, R. B. (Year). “Libya: From Colony to Revolution.”.

أشرف السعداوي

باحث ليبي، متخصص في الاقتصاد السياسي والحوكمة المالية، حاصل على شهادة الدكتوراه بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس الرباط - المغرب. عضو مختبر "الحكامة في إفريقيا والشرق الأوسط"، ناشر في عدد من المجلات والدوريات العلمية العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى