المهدي المنجرة .. مفكر «القيم»
دعا إلى تطوير أنظمة تراعي خصوصيات الشعوب ثقافيا واقتصاديا
«ظهور القيم؛ هو ظهور للحد الفاصل بين الذاتية والموضوعية، وبين الحقائق والأحكام، وبين ما هو كائن وما يجب أن يكون، وبين العلم والأخلاق والأحكام وبين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، وبين الغايات والوسائل وبين المعقول واللامعقول».
هكذا يصف المفكر المغربي المهدي المنجرة، الذي رحل عن 81 عاما، أهمية القيم في بناء مجتمعات عادلة ومزدهرة، في كتابه «قيمة القيم»، المنشور سنة 2007.
ويُعد المهدي المنجرة أحد أبرز المفكرين والمثقفين المغاربة العرب وربما يكون أهم عالم مستقبليات في المنطقة العربية والإسلامية، ولهذا السبب خلّف رحيله، وهو عالم الاجتماع المتخصص في الدراسات المستقبلية والاقتصادية، فجوة إنسانية وفكرية وثقافية مهمة لا تملؤها إلا أعماله الأدبية والعلمية الراقية، حيث تعدّ كتاباته ومحاضراته مراجع في العلاقات الدولية والقضايا السياسية والاقتصادية.
كرّس المنجرة أبحاثة وكتاباته ومسيرته النضالية للدفاع عن حق ما يعرف بدول العالم الثالث في تطوير أنظمة تنموية مستقلة تناسب منظومة قيمها وتراعي خصوصياتها الثقافية والاقتصادية.
كما دعا في كتاباته إلى إنشاء نظام دولي ينصف جميع المجتمعات ويحقّق آمالها في العدالة والكرامة، منددا مرارا بممارسات العنف والقمع والاضطهاد وتحقيق المصالح الشخصية على حساب الغير.
جاء المنجرة بمفاهيم جديدة فرضت نفسها في مجالات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، يذكر منها مفهوم «الميغا – إمبريالية» وفكرة «الاستعمار الجديد». يقول المنجرة في كتابه الإهانة في عهد الميغا إمبريالية (2003): «أصبح للميغا إمبريالية أسلوب جديد ولغة من تركيب جديد، والميغا حسب مدلولها تقتضي الانفراد بالقرار.
فهي لا تقبل إمبريالية أخرى منافسة على عكس ما كان في السابق، حين كانت الإمبريالية الفرنسية مثلا تقبل بوجود إمبرياليات أخرى ألمانية وبريطانية وإسبانية أو غيرها».
ويقول عالم المستقبليات المغربي في كتاب «عولمة العولمة» (1999) بأنّ الاستعمار الجديد لا يمارس عن طريق استعراض القوة العسكرية بالضرورة، بل إن «الاستراتيجي، في الوقت الراهن، لا يكمن في عدد الأسلحة أو الوجود العسكري عبر القواعد في الأرض أو البحر، بقدر ما يكمن في امتلاك (السلطة الناعمة)».
وفي السياق ذاته، نبّه المنجرة من خطر اختلال الموازين المقنّنة للعلاقات بين الدّول وتشريع هذا اللا-توازن ضمن منظومة الأمم المتّحدة، و«تفريغ الميدان القانوني والشرعي من المعايير الإنسانية، وتحويل القانون الدّولي إلى وعاء شرعي لمحتوى غير شرعي».
يشار إلى أن المفكر المغربي استبق أستاذ العلوم السياسية الأميركي صامويل هنتنغتون في بلورة مفهوم صراع الحضارات من خلال كتابه «الحرب الحضارية الأولى» الصادر سنة 1991. مباشرة بعد حرب الخليج الثانية.
ويرى المنجرة أن الحرب على العراق لم تكن ذات مصالح سياسية واقتصادية استراتيجية وعسكرية فحسب، بل كانت ذات أبعاد حضارية ثقافية كذلك.
إلا أن هناك فرقا جوهريا بين الكاتبين، إذ يرى صاحب «قيمة القيم» أنه يمكن تفادي الصدام الحضاري بين «الشمال» و«الجنوب» عن طريق ترسيخ العدالة وقيم الحوار والتسامح والتقارب بين الحضارات؛ التي يعدها الكاتب «البذرة الأساسية للسلام».
واستعرض من خلال 260 صفحة تحليله للماضي والحاضر وتوقعاته للمستقبل، مؤكدا على أهمية الاهتمام بالبحث العلمي الممنهج والدراسات المسقبلية.
ولعل المنجرة كان أول من تنبّأ بقيام انتفاضات وثورات عارمة في العالم العربي من خلال قراءته للوضع السياسي والاجتماعي والثقافي بالمنطقة، إذ رجّح خوض دول المنطقة في أحد السيناريوهات التالية:
«سيناريو الاستقرار والاستمرار»، «سيناريو الإصلاح»، وسيناريو «التغيير الجذري أو التحولات الكبرى والعميقة». وقد شهدت السنوات الثلاث الماضية تحقّق بعض هذه التصوّرات وصحّة رهان المفكّر الذي أبدى أملا محدودا في تحقّق السيناريوهين الأول والثاني.
ومن جهة أخرى، انتقد المنجرة حالة الركود الفكري في العالم العربي والإسلامي واصفا إياها بأنها «أزمة كبرى تكمن في عدم وجود رؤيا للمستقبل، مما يجعل مجتمعاته تسير وتنمو على الصدفة وعلى العفوية ومن دون نموذج اجتماعي أو تنموي (…).
وهو ما يؤدي إلى الاستسلام إلى نماذج التنمية الأجنبية والغربية، وبالتالي إلى تقييد حرية الشعوب في تسيير ذاتها والحد من حقوقها الديمقراطية».
كما أكد مرارا على ضرورة «التغيير» والسمو بمنظومة القيم بالعالم العربي وتوفير شروط الكرامة وسبل التنمية الفردية والجماعية. اهتم المنجرة كذلك بموضوع اللغة وعدها ركنا من أركان التنمية ودافع على اعتماد اللغة الأم أساسا للبرامج التنموية الوطنية.
يربط المفكر المغربي مسألة اللغة بالهوية الوطنية ويعدها سبيل الاستقلال الفكري، مرجّحا أن الحروب القادمة إنما ستكون لغوية.
ويرى المنجرة أن «الغرب» لم يحاول تعلّم لغة «الجنوب» ولم يهتم بالاقتراب من ثقافته وحضارته، انطلاقا من مبدأ أن «الجنوب الضعيف والفقير ليس من حقه أن يعكس قيمه وثقافاته وحضاراته، بل هو دوما في حاجة إلى الشمال إن أراد الاستمرار في الحياة».
نشر المنجرة ما لا يقل عن 500 مقال اقتصادي وسياسي وسوسيولوجي باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية واليابانية. كما أصدر كتبا منها: «نظام الأمم المتحدة (1973)»، «من المهد إلى اللحد (1981)»، «الحرب الحضارية الأولى (1991)»، «القدس العربي (1996)»، «عولمة العولمة (1999)»، «انتفاضات في زمن الذلقراطية (2002)»، و«قيمة القيم» (2007).
ذلك وتوّج المنجرة بجوائز لإسهاماته الفكرية المتميزة كما احتفت منظمات دولية ومؤسسات جامعية ودبلوماسية وسياسية بأعماله الأكاديمية الرصينة، حيث حاز على جوائز عدة، منها جائزة الأدب الفرنسي في جامعة كورنيل، سنة 1953.
ووسام الاستقلال بالأردن سنة 1960. ووسام ضابط للفنون والآداب بفرنسا في 1976. ووسام الشمس المشرقة باليابان سنة 1986، وجائزة السلام لسنة 1990 من معهد ألبرت آينشتاين الدولي.