نقد

في “الثقافة الجديدة” أو في مواجهة النص السائد

لعلّ أهمّ حدث ثقافي استهلّ به المغاربة العام 2020 هو طبع الأعداد الكاملة لمجلة “الثقافة الجديدة” (وهي تشمل 31 عددا) في ثمانية مجلدات؛ وذلك كلّه في طبعة مطابقة للأصل، لكنها عالية الجودة وأنيقة ولائقة بمجلة في حجم “الثقافة الجديدة” بالنظر لأدوارها الطلائعية غير المسبوقة على مستوى الإسهام في تحديث الثقافة المغربية فكرا وإبداعا.

وحصل ذلك على مدار عشر سنوات، من الحضور المتواصل للمجلة، بدءًا من عددها الأوّل الصادر في مدينة المحمدية المغربية في خريف عام 1974 إلى أن تمّ إغلاقها واقتلاعها من المشهد الثقافي يوم 25 يناير 1984… على خلفية مواقف هيئة تحريرها، وبقرار من وزير الداخلية الأسبق ــ والأشهر ــ إدريس البصري، في إثر الأحداث الدامية التي تفجّرت يوم 19 يناير في عدّة مدن مغربية.

وفي هذا السياق تمّت مصادرة العدد الثلاثين الذي كان قد صدر في دجنبر سنة 1983، وقبل ذلك تمّ حجزها من السوق. ومن حسن حظ الثقافة المغربية أن أقدمت مجلة “الكرمل” في قبرص (عدد: 11، 1984)، ممثلة في شخص محمود درويش، على نشر العدد 31 الذي كرّسته “الثقافة الجديدة” لملف “الثقافة المغربية”؛ وهو ملف ثرّي ووازن، وجدير بالتأكيد على مراجع كبرى ــ ضمن مراجع أخرى ــ ناظمة لهوية المغرب. والعدد متضمّن أيضا ضمن الطبعة الكاملة. 


ومن وجهة نظر تاريخية توثيقية كان وراء تأسيس المجلة مجموعة يتقدّمها الشاعر محمد بنيس والناقد مصطفى المسناوي وفيما بعد ستنضاف إليهما أسماء أخرى مثل محمد البكري وعبد الله راجع وعبد الكريم برشيد ومحمد العشيري؛ وبخلفية فكرية مشتركة وملتزمة وإرادوية… تعيينا. وقد كشفت المجلة، منذ أعدادها الأولى، عن وعي بما يمكن نعته ــ وقتذاك ــ بـ”إشكالية الثقافة المغربية”، دونما تفريط في الحوار مع الثقافة الأجنبية (الفرنسية بصفة خاصة) والمشرقية أيضا، ووفق التطلع إلى “خلق بديل” من منظور تصوّري محكم ومنهجي معلن.

كان هاجسها النأي عن “مساندة التراكم الكمي” السائد في حقل الإنتاج الثقافي بالمغرب كما ورد في افتتاحية التأسيس، وبما يعمّق من “الأزمة الثقافية القائمة” أصلا أو بتعبير غرامشي “وما من جديد وتستمرّ الأزمة بالمعنى القديم”.  


ولعلّ أوّل ما يتأكّد في حال “الثقافة الجديدة” هو طبيعة المجلة في حدّ ذاتها وبخاصة لما ترقى إلى الاضطلاع بتأثيرات لا تقلّ عن تأثير الكتاب. وربما كانت الفكرة أوضح في سياق المشرق العربي، وابتداء من انتصاف القرن التاسع عشر، حين كانت الصحيفة والمجلة طرفين أساسيين وحاسمين في التأسيس لفكر الأنوار وبدايات الرواية العربية الحديثة وبخاصة في مصر وفي تزامن مع توافد الشوام عليها نتيجة عوامل الحرب والتمزّق الطائفي… إلخ.

و”ناهيك عن الصحافة التي هي أصل مهيب…” كما يقول الناقد فيصل دراج في هذا الصدد. وما تزال، حتى الآن، كتب كثيرة مطمورة في هذه الصحافة المكتوبة. 


وفي حال المغرب، وحتى نخلص بشكل أوضح للمجلة التي هي موضوع مداخلتنا، لا يمكن المقارنة… ولاعتبارات عديدة في مقدّمها شبه غياب “التقاليد” المؤسّسة عادة للمشروع الثقافي المجتمعي التحويلي الملموس. وعلى صعيد الصحافة عادة ما تتمّ الإحالة، في نطاق تطلّع المغرب للانخراط في “الأزمنة الحديثة”، على صحيفة “السعادة” بشكل خاص.

وكانت الصحيفة قد ظهرت على يد البعثة الدبلوماسية الفرنسية في سنة 1903. وكان بعض الوطنيين (الكبار) يضطرون للكتابة فيها لعدم وجود منابر أخرى. “كان المهمّ هو ما تكتب لا أين تكتب” كما يقول المفكر والفقيه والأديب عبد الله كنون. وما كُـتب، وسواء من قبل عبد الله كنون أو آخرين، سيكون إرهاصا لخطاب نقدي وثقافي سيبدأ في الثلاثينيات من القرن المنقضي. 


وفي الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وتحت اتساع نسبي للتعليم والبعثات العلمية للمشرق، سيتعزّز الحقل الثقافي بالمغرب بمجلات ستظهر بالرباط مثل “الثقافة المغربية” (1941) و”رسالة المغرب” (1947) و”الأثير” (1950)… وأخرى بمنطقة تطوان مثل “الأنيس” (1946) و”الأنوار” (1946) و”المعرفة” (1947) و”المعتمد” (1947) (للشاعرة الإسبانية تْرينا ميركادي) و”لسان الدين” (1947)… إلخ.

وقد استجابت أغلب هذه المجلات للمذهب الرومانسي، وبشكل ممزوج ببعض أصداء الليبرالية. غير أن هذا لم يمنع من “الإحباط الثقافي” على نحو ما حصل لأدباء ونقاد مثل محمد العباس القبّاج الذي اضطر للصمت لثلاثين سنة إلى أن وافته المنية كما يقول عنه صديقه أحمد زياد في كتابه “لمحات من تاريخ الحركة الفكرية بالمغرب” (1973). 


وبعد عقد من الزمن، من حصول المغرب على استقلاله السياسي، لم يطرأ شيء كبير يذكر على مستوى النسق العام للثقافة بالمغرب. وقبل ذلك لم يكن، بشهادة المؤرّخ المغربي عبد الله العروي، شيء قد استقرّ بالمغرب على مدار الفترة الممتدة من سنة 1956 (تاريخ استقلال المغرب) و1965 (في دلالة على اغتيال المعارض والمثقف العالمثالثي المهدي بن بركة).

ولكن قبل ذلك، بسنة واحدة، كانت قد ظهرت مجلة هي الأولى من نوعها بالنظر لخلفيتها “التقدّمية”. وهي مجلة “أقلام” التي أسّسها مجموعة متطوّعة من الأدباء والمفكرين المغاربة مثل أحمد السطاتي ومحمد عابد الجابري وعبد للسلام بنعبد العالي وإبراهيم بوعلو.

مجلة لا تخلو من حواضن بناء مشروع ثقافي مغربي في نطاق استكمال مشروع التحرّر والتحرير في بلد من بلدان “العالم الثالث” تبعا للمصطلح الذي كان ما يزال متداولا على نطاق واسع. غير أن المجلة غلّبت، في النظر الأخير، الإبداع مقارنة مع الإنتاج الفكري والنظري. وفي حال هذا الإنتاج فالملحوظ نوع من تغليب كفة الإبستيمولوجيا تماشيا مع اهتمامات المؤسّسين للمجلة.  


وفي الفترة الممتدة، من انتصاف السبعينيات إلى الثمانينيات الطالعة، ستظهر مجموعة من المجلات المنخرطة في الفكر ذاته، مثل “الزمان المغربي” (1979) و”البديل” (1981) و”الجسور” (1981) و”الجدل” (1981)… إلخ. غير أن المجلة التي ستؤكّد حضورها البارز هي مجلة “الثقافة الجديدة” بالنظر لما اتسمت به من خط تحريري ينأى على الاستجابة المباشرة للمرحلة الإيديولوجية الساخنة وعن الأهواء الإيديولوجية.

وقد صدرت معلنة لهويتها بوصفها مجلة “فكرية وإبداعية”. وقد ساهم في عددها الأوّل مفكرون مكرّسون بينهم عبد الله العروي بمقال “منهج الفكر المغربي المعاصر” )وقد آل إلى عنوان ضمن عناوين كتابه “العرب والفكر التاريخي). 


ولقد قطعت المجلة على ذاتها الدخول في “مواجهة النص السائد” بمعاول المعرفة والحوار والسجال… إلخ. وهو ما سيتضح على أصعدة عدّة بدءا من الشعر الذي كان نموذجه في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات الشاعر محمد الحلوي. الستينيات ذاتها التي ستشهد على جيل شعري سيصطلح عليه بـ”جيل الستينيات”، وهو الجيل الذي ستبحث المجلة عن مكان لها بعيدا عنه. ومن ثمّ “تحيّزها” لجيل السبعينيات. ويعد ملف “الكتابة” ــ الذي ستحتضنه المجلة في عددها: 19 من عام 1981 ــ تتويجا لهذا الصراع الأدبي والفكري. 


غير أن المعركة النقدية، ومن موقع التأكيد على “المنهج الجدلي المتحرّك” في مقابل “المنهج الوصفي المنهار”، كانت قد تأكّدت قبل أربع سنوات؛ وذلك من خلال ما سيصطلح عليه بـ”الأزمة النقدية” و”الصراع النقدي” بالمغرب على نحو ما سيطلع عليها القارئ في العدد 9 شتاء 1978 ثم العدد الذي سيليه.

معركة ساخنة، ومعزّزة بترجمة نصوص من النقد الروسي في دلالة على المنهج الجدلي. وهو ما سيثمر كتبا نقدية مثل “المصطلح المشترك” لإدريس الناقوري (1977) و”ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب” لمحمد بنيس (1979) و”درجة الوعي في الكتابة” لنجيب العوفي (1980) و”سلطة الواقعية” لعبد القادر الشاوي (1981) (وكان صاحبه يقبع في السجن وقتذاك لاختياره الإيديولوجي). 


غير أن المجلة، وفي هذا أحد مظاهر التفتّح فيها، لم تنغلق في المناهج الجدلية بطرق متصلّبة ومتخشّبة. وفي هذا السياق يمكن فهم تعاطي الناقد إبراهيم الخطيب (وكان جزءا من المجلة) مع المنهج الشكلي نسبة للشكلانيين الروس في تركيزهم ــ في الشعر والنثر أيضا ــ على الأنساق اللغوية التي تصنع النص الأدبي.


قوة المجلة، مقارنة مع “أقلام”، من انفتاحها على الفكر، وتعيينا الفكر المختلف والمغاير. وهو ما سيتضح، أكثر، في العدد الثالث الذي سيتضمن حوارا مطوّلا ومحبوكا وغير مسبوق مع عبد الكبير الخطيبي. وعن طريق هذا الحوار سيتمّ تقديم الخطيبي، بشكل واضح وسلس، للقرّاء المغاربة. وفي هذا الحوار سنقرأ نقد الخطيبي غير المهادن لعبد الله العروي في تاريخيته “المعمّمة” أو في مفهوم التاريخ الذي يعتمده كقاعدة في أبحاثه حيث لا مجال للاوعي ولما هو غير إرادي.

وسنقرأ عن “مرحلة النقد المزدَوج والكتابة الجديدة”، ومأزق التخصّص الأكاديمي، والاثنوغرافيا في بعض الكتابات المغربية ذاتها، و”الوعي الشقي” في دلالة على مناهضة الاستعمار ودعم المشروع الصهيوني الاستطياني في الوقت ذاته. وكذلك الالتفات إلى ما يعتمل خارج الماركسية حيث الفكر البنيوي… إلخ. 


كان ينبغي أن ننتظر للعام 1984 لنقرأ حوارات من هذا النوع مع العروي ذاته والجابري وعبد الله كنون. وفي العدّد المصدّر لـ”الكرمل”.


فالمجلة ستفسح المجال للنقاد والمفكرين والأبحاث الفلسفية. ويصعب استحضار ملفات المجلة وأبحاثها وحواراتها ونصوصها… إلخ. وهو ما يظل وقفا على الأبحاث التي تفيد من سوسيولوجيا الحقل الثقافي وسوسيولوجيا المعرفة والبحث التاريخي والتحليل النقدي والنقد الأدبي… وغير ذلك من المناهج والمراجع. وللأسف ما تزال جامعاتنا غير معنية بهذا النوع من الأبحاث وقبل ذلك التفكير فيه. 


وحتى الآن لا نظفر بكتابات تليق بحجم المرحلة دون زيادة أو نقصان. الكتابات اعتنت فقط بمحكيات السجون ومروياتها… أمّا الثقافة فتظل مغيّبة. والسبعينيات ليست “عقيدة”، لكنه لا يمكن القفز عليها. وفي مجلة “الثقافة الجديدة” علامة على المرحلة. وأظن أن إعادة طبع أعداد المجلة هو أحسن ردّ على هذا الإهمال الذي يخدم المحو والهضم للذاكرة والثقافة والتاريخ.

وإذا كان من درس نتعلمّه منها فهو المعرفة ذاتها التي كانت في أساس بناء المجلة؛ وجعلها بالتالي تفرض ذاتها حتى الآن مقارنة مع مجلات أخرى تظل حبيسة المرحلة وتظل مرتبطة بأصحابها. فالمجلة جديرة، وحتى نتكلم باصطلاح النقد الثقافي، بالتأكيد على “صوت الثقافة” و”أهل الثقافة”… إلخ. وكما يحسب للمجلة تفتّحها. واحتضان القرّاء، بل إعطاء فرصة للردّ.

وليس غريبا أن يتصدّر العدد الثالث ردّا (في شكل مقال)، ومن قبل قارئ غير معروف، على مقال عباس الجراري الذي كان بعنوان “أزمة ثقافة ومثقفين” في عددها الثاني (1975). 


والمؤكد، وبعد خمسة وثلاثين عاماً على الإغلاق، أن يتغيّر النص السائد الذي واجهته المجلة؛ غير أن مفعول النصوص متواصل وعلى أصعدة أخرى تمسّ إشكالات الهوية والذاكرة والأمة والسرد… إلخ. والمجلة تعلمنا، هنا، الاعتقاد في جدوى المواجهة العريضة، وتعلمنا السجّال الضروري والحوار المواقفي… والاختلاف الصائب. تعلمنا “النقد الحداثي” الذي هو رهان صعب وشاق. وهنيئا لا للمكتبة المغربية فقط بهذه الطبعة الباذخة الصادرة عن دار توبقال للنشر، إنما هنيئا لبنيات البحث التحتية بالمغرب ككل. 


يحيى بن الوليد: ناقد ثقافي وباحث أكاديمي، وأستاذ التعليم العالي بجامعة عبد المالك السعدي بالمغرب.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى