نقد

أمجد الطرابلسي: تأليف الرجال

 

كنت بصدد إنهاء مقالة حول المستجدات الكورونية، فوصلني خبر وفاة الزميل مصطفى لمومني، فإذا بي أفكر في الكتابة عن أمجد الطرابلسي. إن وفاة أي عزيز لا يمكنها إلا أن تترك أثرا في النفس، وتقلب المواجع، وتحيي الذكريات. عرفت السي مصطفى إبان فترة تكوين المكونين في الرباط (1983ـ1985). كان ملح الفوج الثاني، الذي ترأسه أستاذنا الفاضل أحمد اليبوري، وضم نخبة من الزملاء الأعزاء، الذين تفتخر بهم الجامعة المغربية، المرحوم محمد الماكَري، ومحمد خطابي، والطايع الحداوي، وعبد العالي بوطيب، وصالح أزوكاي، وغيرهم. كانت لكل واحد منا ميزة خاصة، وكان التكامل والتعاون يسود العلاقات بيننا.

كان لمومني مركز المجموعة، والحريص على لعب دور المنسق بروحه المرحة، وسخرياته الجميلة. غير أن أهم ميزة انفرد بها عنا، رغم أننا كنا نشاطره بعضا منها، هي العلاقة الوطيدة التي كونها مع أستاذنا الفاضل أمجد الطرابلسي، الذي كان يدرسنا النقد القديم، وفي سلك التكوين اقترح علينا اعتبار السيرة النبوية لابن هشام ديوانا للشعر العربي، وكلف كل واحد منا إنجاز بحث عن مدونة شعرية، والعمل على الاشتغال بها، ودراستها. وكان أن اخترت الشعراء الأحناف، مثل أمية بن أبي الصلت، وغيره.

صار اسم مصطفى لمومني مرتبطا بأمجد الطرابلسي. لقد واكبه خلال تقاعده، وظل يتواصل معه حتى وفاته. اشترى منه سيارته، وسمى آخر عنقود أولاده باسمه، وظل أمين سر كل أعماله. في العديد من اللقاءات معه، كنت أشجعه على إخراج أعماله، خاصة تحقيقه للصاهل والشاحج، الذي توقف عنه متأثرا بما قامت به عائشة عبد الرحمن، التي سبقته إلى إخراج تحقيقها للكتاب عينه. لكن عطاءات أمجد لم تقف عند هذا التحقيق فقد كانت له أعمال أخرى. اقترحنا على الكلية الاضطلاع بنشرها، سدى. وظل مصطفى يحمل هم إخراج تلك الأعمال، إلى أن وافته المنية في عز كورونا ورمضان.

من يذكر في سوريا، والمشرق الآن أمجد الطرابلسي؟ من يذكر الآن في المغرب أمجد الطرابلسي؟ إن عدم استحضار، وباستمرار، ذاكرة الشعبة والكلية لرجالاتها نفي للمستقبل وإلغاء لجسور التواصل.

لهذه الأسباب ارتبط عندي اسم مصطفى لمومني بأمجد الطرابلسي. إنه الوفاء الحقيقي الذي يؤكد الصلة الوثيقة بين الأستاذ والطالب، والذي كان يجسده السي مصطفى بامتياز. حين نذكر أمجد الطرابلسي نذكر معه فئة من الأساتذة العرب، الذي قدموا إلى المغرب في الستينيات والسبعينيات، ولعبوا دورا كبيرا في الإشعاع الثقافي والأكاديمي، وساهموا بأريحية ومحبة في تكوين العديد من أجيال الباحثين، الذين تعتز بهم الجامعة المغربية عامة، وكلية الآداب بصورة خاصة. هل أذكر صالح الأشتر، وعزت حسن، وعز الدين إسماعيل، وعبد الحميد يونس، وابتسام مرهون، وسامي النشار، ومحمود إسماعيل… واللائحة طويلة. لكل واحد من هؤلاء أثره الخاص في الطلبة الذين درسهم، أو أشرف على رسائلهم في دبلوم الدراسات العليا، أو دكتوراه الدولة. لكن أمجد الطرابلسي كان متميزا أولا بطول إقامته بين ظهرانينا، وثانيا بدوره الكبير في تأطير الكثير من الطلبة المغاربة، وثالثا بمحبته للمغرب الذي قال عنه مرة: لا يمكنني اعتباره وطني الثاني، لأنه لا يمكنني التنكر لوطني الأول والأخير. مؤكدا على أن لا خير للمغاربة فيمن لا يحب وطنه. لقد عانى أمجد من الغربة، ولكن حبه ظل للحبيب الأول. ولم يمنعه ذلك من إخلاص المودة والعرفان للمغرب الذي احتضنه حتى اختياره الرحيل نهائيا إلى فرنسا.

بادل المغاربة أمجد حبه للمغرب بحب عميق، وذلك بسبب جديته، وكرم أخلاقه، وعمق ثقافته ومعرفته بأسرار التراث العربي. لم يبخل في العطاء، وكانت تحتشد لدروسه جموع الطلبة من كل أنحاء الوطن، وحلقاته العلمية منارة يستضاء بها: كان حسه اللغوي والبلاغي، ومعرفته باللغة الفرنسية، واطلاعه على الآداب الأجنبية، وأيضا إبداعه الشعري، محط إعجاب وتقدير كبيرين. وكان الطلبة يستفيدون من دروسه، وهو ينتقل من المفردة إلى الجملة، إلى ما وراءهما من صرف ونحو وتركيب وبلاغة ودلالة. كما كانت مناقشاته للرسائل والأطاريح مقصد طلاب المعرفة وعشاقها. اهتمت ببعض أعماله دور النشر المغربية، فأصدرتها، كما ترجم المرحوم إدريس بلمليح أطروحته من الفرنسية إلى العربية حول «نقد الشعر».

كان أمجد رحمه الله خزانة تمشي على الأرض بتؤدة وهدوء. حين سئل مرة: لماذا لم يؤلف الكثير من الكتب والأعمال، كما يفعل الكثير من المشارقة؟ أجاب جواب أحد العلماء العرب قديما، بأنه يؤلف الرجال. ولا يمكن سوى الإقرار بأن الكثيرين ممن درسوا عليه، ولو في حصة واحدة، بله من درسوا عليه أعواما صاروا فعلا من الرجال الذين تفتخر بهم كلية الآداب، عامة، وشعبة اللغة العربية على وجه الخصوص.

كان التمايز في شعبة اللغة العربية قويا بين طلاب الأدب والنقد القديمين، والمهتمين بالأدب الحديث. لكننا نحن الذين كنا أميل إلى الحديث، نراه أقرب إلينا، لأنه يمثل الجسر الذي ينبغي أن يكون بين القديم والحديث، فكنا نستفيد من دروسه ودراساته. من يذكر في سوريا، والمشرق الآن أمجد الطرابلسي؟ من يذكر الآن في المغرب أمجد الطرابلسي؟ إن عدم استحضار، وباستمرار، ذاكرة الشعبة والكلية لرجالاتها نفي للمستقبل وإلغاء لجسور التواصل.

رحمة الله على الرجليْن على العطاء والوفاء.

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى