الزمكانيّة المصاحبة للنصوص الأدبيّة وأثرها في توجيه النصّ
ماذا يستفيد الدارس من تثبيت الشاعر أو الروائي لزمان كتابة النصّ ومكانها؟ سؤال طرحته كثيراً، وقد كنت ألاحظ ذلك في بعض دواوين الشعر القديمة. هل لهذا الإثبات من حاجة؟ وكم يساعد الزمان والمكان في فهم النصّ وإدراك ظروف نشأته ومسبّباته؟ فثمّة ارتباط بين النصّ ولحظته التاريخيّة، إذ نادراً ما تتحرّر النصوص الأدبيّة من سيطرة الزمان والمكان، ويعزّز هذا من أهمّيّة النظرة النقديّة حسب المنهج الاجتماعي لدراسة النصوص.
أذكر أنّني عندما بدأت ألقي نصوصي الشعريّة وأنشرها أواسط التسعينيّات من القرن المنقضي، أشار عليّ بعض الأكاديميّين، كنصيحة لي، ولغيري من الشباب الداخلين إلى معترك الكتابة الأدبيّة، أن ثبّتوا التاريخ في نهاية النصّ، فلربّما كان هذا مهمّاً في المستقبل.
هذه النصيحة لم آخذ بها كثيراًـ فأثبتُّ حيناً، وتغاضيت عن ذلك أحياناً أخرى. لعدّة أسباب لعلّ أهمّها أنّني دائم التغيير في النصّ، إضافة وحذفاً، فأيّ التاريخين سأعتمد؟ هل أعتمد تاريخ النسخة الأولى أم الأخيرة أم أجعل التاريخ ممتدّاً بين أوّل تاريخ وآخر تاريخ؟ والمقصود بالتاريخ هنا ذكر اليوم والشهر والسنة، ونوعها ميلاديّة أو هجريّة. يبدو لي أنّ العمليّة مربكة.
لكنْ، ثمّة فوائد جمّة صرتُ أدركها وألاحظها في تثبيت الزمان والمكان، وربّما أشّرت على مراحل تطوّر الشاعر، وملاحظة الدارسين لطبيعة أدواته الفنّيّة وموضوعاته ومعجمه الشعري، وتقنيّاته الأسلوبيّة، فهذه كلّها أو بعضها قد تظهر في نصّ أو في ديوان، إنّها نوع من المفاتيح للدلالة على الأسلوب. هذا جيّد إذاً، ولا بدّ منه.
وقد استخدم هذه الملحوظات كثير من الدارسين في ملاحظة التطور في أشعار محمود درويش مثلاً، منذ ديوان “أوراق الزيتون” الصادر عام 1964، وحتّى آخر ديوان “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي” الصادر بعد وفاته عام 2009، وكان الشاعر قد أعدّ قصائده للنشر في ديوان فعاجله الموت، فبقيت المخطوطة، أو أنّها قصائد منجزة ومنشورة وألقاها الشاعر في أمسيات متعدّدة، أو قصائد عُثر عليها في مكتبه منجزة ولا تحتاج إلى تعديل وأخرى أجرى عليها الشاعر بعد التعديلات الطفيفة كاستبدال كلمة محلّ كلمة.
هذه هي الاحتمالات الواردة لقصائد هذا الديوان، وذكرها إلياس خوري في “حكاية الديوان الأخير”، فهو الذي أعدّ وبوّب هذه القصائد[1]. إلّا إنّ خوري يعود ويقول “لم أفعل شيئاً تقريباً، وأنّ درويش كان صادقاً، حين روى لنا، أنّه ترك مخطوط عمل شعري جديد في عمّان، وأنّه شبه جاهز”[2].
درويش في الغالب لم يكن يؤرّخ لقصائده، كما فعل مريد البرغوثي مثلاً. واكتفى بالطبعة الأولى من الدواوين التي اتّخذت تواريخ للكتابة، وملاحظة الموضوعات وتطوّرها وتقنيّات التعبير عنها في شعره عند الدارسين. ربّما لأنّ درويش كثيراً ما يعيد صياغة قصائده، فلا يصلح- والحالة هذه من وجهة نظري- إثبات التاريخ حتّى تاريخ المرحلة الأخيرة من كتابة القصيدة أو تعديلها.
ثمّة أمر ضروري للتاريخ وملاحظته في النصوص، وقد احتاج إليه الدارسون في مسائل الريادة، كما هو الحال في دراسة ظاهرة الشعر الحرّ وقصيدة النثر وأوّل رواية عربيّة، وما شاكل ذلك، فالخلاف النقدي ما زال بين الدارسين فيمن يستحق ريادة الشعر الحرّ؛ أنازك الملائكة أم بدر شاكر السيّاب، لتكون الحجة تاريخيّة مستندة إلى تاريخ كتابة أوّل نصّ، فقصيدة الملائكة “الكوليرا” كُتبت ونُشرت عام 1947، في حين أنّ السيّاب أصدر ديوان “أزهار ذابلة” في السنة ذاتها، ويلّخص هذه المسألة مقال للكاتب غيث خوري “السيّاب والملائكة.
جدل الريادة حول الشعر الحرّ”، “يقول بدر شاكر السيّاب في مقدّمة ديوانه “أساطير”، إنّ أوّل تجربة له من هذا القبيل كانت في قصيدة “هل كان حباً” من ديوان أزهار ذابلة، ….، وتقول نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر: إنّ بداية حركة الشعر الحرّ 1947 في العراق، بل من بغداد، وكانت أوّل قصيدة حرّة الوزن تُنشر هي قصيدتي “الكوليرا”، وقد نُشرت في بيروت، ووصلت نسخها إلى بغداد في أوّل ديسمبر/كانون الأوّل 1947، وفي النصف الثاني من الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السيّاب “أزهار ذابلة”، وفيه قصيدة حرّة الوزن”[3].
مع أنّ هذا الجدل غير مقطوع فيه إلى اليوم، إلّا إنّ للتاريخ حضوراً بارزاً، وكلّ الجدل يستند إلى تلك التواريخ أو يشكّل بؤرة مركزيّة في تطوّره ليشمل قضايا غيره. فيعيده كثير من الدارسين ويستندون إليه، وقد اهتمّت الملائكة بإبراز رحلة القصيدة من بيروت إلى العراق، وكذلك ديوان السيّاب لا يحتوي، كما يفهم من قول الملائكة، إلّا قصيدة شعر حرّ واحدة هي المشار إليها أعلاه.
أمّا الحجّة الثالثة في التاريخ وتثبيته فتأتي ممّا يعاني منه اليوم الوسط الثقافي المفتوح إلكترونيّاً، وخاصّة على الفيسبوك، إذ يعاني كثير من الشعراء الشباب وغير المشهورين إلى السطو على قصائدهم، وإعادة نشرها بأسماء أخرى لهواة أو شعراء مغمورين، فيكون التاريخ حكماً في غالب الأحيان، وكثيراً ما شهد الوسط الثقافي الإلكتروني صراعات على نصوص مسروقة، وتخصّصت بعض الصفحات الفيسبوكيّة للكشف عن السرقة وإعادة الأمور إلى نصابها، والتشهير بالسرّاق، وحذف حساباتهم، وقد أعلنت الشاعرة والمترجمة الجزائريّة الدكتورة حنين عمر عن توفّر تقنيّة في الإنترنت يمكن استخدامها لحماية النصوص من السرقة، فكتبت على صفحتها: “شكرا فايسبوك الذي حلّ مشكلة لصوص المنشورات. من الآن فصاعدا بلوك للـ IP لمن يأخذ منشوراً ويزيل اسم كاتبه من تحته عمداً وينشره دون ذكر صاحبه الأصلي. هيّا بنا ننظف صفحاتنا الفايسبوكيّة من اللصوص”[4].
وما زالت كثير من الخلافات تقع بين الكتّاب في أمر إثبات السرقة ليس في نصوص بعينها، بل يخشى الكتّاب من أن يُغِير الآخرون على أفكارهم فيسرقونها، وهذا ما حدث مثلاً بين الروائي أحمد أبو سليم الذي كتب رواية “ياسين” وبين الروائيّة بديعة النعيمي التي نشرت رواية “عندما تزهر البنادق”، والروايتان تتناولان مذبحة دير ياسين، وقد تفجّر الخلاف بين الكاتبيْن بعد أن قالت مذيعة فلسطينيّة على فضائيّة فلسطين خلال لقاء مع الشاعر مراد السوداني حول الرواية[5].
إنّ “ياسين” للروائي أحمد أبو سليم هي الرواية الأولى التي تتناول مذبحة دير ياسين[6]، وصارت النعيمي تطالب بحقّها في أنّها هي أوّل من كتب في المذبحة، وليس أبو سليم، وتتطوّر المسألة بينهما لتتّهم الكاتبة النعيمي- لاحقاً- الكاتب أبو سليم أنّ في روايته مقتبسات كثيرة من رواية “عندما تزهر البنادق”[7]، وقد وصل الأمر بينهما إلى التحكيم الأدبي الذي سيستند إلى التاريخ قطعاً، بالإضافة إلى المقارنات النصّيّة لإثبات السرقة أو نفيها. إضافة إلى أنّ رواية النعيمي سابقة في النشر (2020) على رواية أبو سليم (2021).
ومن جانب آخر، فقد أعلن أبو سليم أنّ روايته أسبق من رواية النعيمي في الكتابة، وليس في النشر، وكان قد قدّمها إلى جائزة كتارا عن فرع الرواية غير المنشورة إلّا أنّه سحبها لظروف والتباسات معيّنة، كما يوضح ذلك منشور له على صفحته في الفيسبوك، جاء فيه[8]: “شرعت بكتابة رواية “يس” في شهر كانون ثاني من عام 2019، وأَنهيتها في شهر أيلول من العام ذاته، وكعادتي أَترك أَيَّ عمل أُنجزه لشهر أَو اثنين كي أُعيد قراءته بعين أخرى، ثمّ بعد ذلك أرسلتها عبر الإيميل للصديقة الكاتبة صفاء أبو خضرة لإبداء الرأي بتاريخ: 16/12/2019، وأَرسلتها للأُستاذ المدقِّق اللغوي عبد الكريم أبو شنب في التاريخ ذاته، وبعد ذلك قمت بترشيحها لجائزة كتارا كمخطوط بتاريخ 29/12/2019، وعند سحب ترشيح رواية “بروميثانا” للبوكر بسبب توقيع اتفاقيّة التطبيع بين الإمارات العربيّة والعدوِّ الصّهيونيّ، آثرت سحب رواية “يس” من الترشُّح لجائزة كتارا أيضا بتاريخ 19/8/2020″.
بقيت مسألة أخرى في إثبات التاريخ والمكان، ربّما كشفت عن أهمية الإثبات؛ وهي مدى الأثر الحاصل في النصوص وطبيعتها وتقنيّات كتابتها، لاسيّما في حالة الأديب المغترب والمهجّر، فهل اختلفت مثلاً كتابة محمود درويش في مصر عنها في بيروت، أو عنها في تونس، أو عنها في رام الله؟ ربّما وجد الدارسون بعض التأثير، وربّما لن يلحظوا شيئا ذا بال؛ فلم يكن- على سبيل المثال- لهذه المسألة فارق دلالي واضح في ديوان “ليس إثماً”[9] للشاعر المصري المغترب في النمسا طارق الطيّب، على الرغم من أنّ الديوان موحّد في تقنيّة كتابة نصوصه وتجمعها ثنائيّة “ليس إثماً- والإثم”، وموثّقة التاريخ والمكان.
لقد كُتبت تلك النصوص على مدار ما يقارب السنتين من 28/11/2007 وحتى 15/10/2009، وفي أماكن متعدّدة: أمريكا (42) نصّاً، ومصر (7) نصوص، وتونس (3) نصوص، والنمسا (3) نصوص. ويعدّ هذا الديوان نموذجاً صالحاً لدراسة تضاؤل أثر الزمكانيّة في تلك النصوص، ولعلّ كتابة النصوص بطريقة واحدة وإخضاعها لفكرة التقابلات الثنائيّة جعل الزمان والمكان هامشيّين.
وعلى خلاف ذلك، فقد وجد أثر كبير للتاريخ والمكان في قصائد الشاعر العراقي موفّق ساوا، فقد أصدر ديوانه عام 2021 “مولاتي أنتِ”، ويضمّ قصائد كتبت ما بين عامي 1976-2021. لقد التزم الشاعر كتابة التاريخ والمكان مصاحباً لعنوان كلّ قصيدة، ومن خلال تلك الإشارات الزمكانيّة يظهر بجلاء تأثير الزمان والمكان في موضوع القصائد وأسلوبها؛ ففي قصيدة بعنوان “استجوبوني لأنّني أحلم”[10] مكتوبة في بغداد بتاريخ 23/12/1985، ثمّة مراوغة واضحة من خلال اتّكاء النصّ في التعبير عن المعاني السياسيّة بالرموز، كالغربان والعصافير والورد والزؤان، هذه المعاني التي صارت مفهومة عندما نشر القصيدة بجريدة “نداء المستقبل”، وهي جريدة معارضة للنظام العراقي (أيّام صدام)، ونشرت في 13/6/2001.
هذا أثر من آثار الحالة السياسيّة، وتوجيهها للكتاّب، ليكتبوا بطريقة تحميهم-نوعاً ما- من المساءلة أمام أجهزة القمع العربيّة التي لا توقّر شاعراً، ولا تحترم عالماً، أو مفكّراً، وظهرت عند كثير من شعراء العرب الذي كانوا يتّقون شرّ تلك الأجهزة بمرواغتها بالرموز أو بالسخرية، والابتعاد عن المباشرة والوضوح.
سيتخلص الشاعر موفّق ساوا من هذه الطريقة، وهو يتحدّث عن السياسة في ظرف مختلف، فعندما أصبح شاعراً مغترباً في سدني/ أستراليا كتب بتاريخ: 20/3/2002، قصيدة بعنوان “عرَفوني”، ويهديها إلى كلّ مناضل تَعَرَّضَ للتعذیب، تحدّث فيها بصراحة ومباشرة معلناً أنّه ضدّ كلّ ما يحدث في العراق، فختمها بقوله[11]:
وما زالت دموعي بلسماً
على جروحي وعزماً
على تنفيذ مشروعي:
“لن يبقى في العراقِ
جاهل/ أو جائع/ أو مكبّل/ بالقيودِ”.
إنّ مثل هذه الخاتمة تحمل نفَساً ثوريّاً، وتصميماً على السير في طريق تلك الثورة حتّى يتحقّق مشروع الشاعر الذي لخّصه بالتخلّص من الجهل والجوع والقيود، ليبشّر بوطن ينعم بالحرّيّة التي حُرم من ممارستها وهو في بغداد.
وما بين هاتين القصيدتين اللتين تؤشّران على ثبات موقف الشاعر تجاه ما يحدث في بلاده، تبدو قصائد أخرى كتبها الشاعر، وهو في إسطنبول/ تركيا، يظهر فيها الحنين إلى العراق، بلده ووطنه ومحلّ لهوه الطفولي وصباه وعشقه الأوّل. من ذلك على سبيل المثال أذكر قصيدة “حيِّ الأحبّة”[12] المكتوبة بتاريخ: 16/9/2000 في مدينة إسطنبول، أقتبس منها مطلعها:
“أصوغُ مِنْ أحزانِ غُرْبَتي
أفراحا
و تُضیئونَ في دُجى مَسْكَني
مِصْباحا
أصنعُ مِنْ خفْقِ الفُؤادِ جَنَاحاً
أطیرُ به إلى أھلي شادِیاً
صدّاحا”
بناء على كلّ ما تقدّم ذكره، أحبّ أن أشير إلى ما قد يقع فيه الدارسون أحياناً من سوء تفسير لقصيدة ما إن لم يعيروا زمن الكتابة أهمّيّة، كما حدث في أحد كتب اللغة العربيّة في فلسطين مع قصيدة “المدينة المحاصرة” للشاعر معين بسيسو، حيث يفسّر المعلّمون، ومن قبلهم، مؤلّفو الكتاب القصيدة على أنّها قيلت وغزّة تحت الاحتلال الصهيوني الغاشم، على الرغم من أنّ القصيدة وردت في ديوان “المعركة” الصادر عام 1952، أوّل دواوين الشاعر، ولم يكن قطاع غزّة تحت الاحتلال الصهيوني، بل كان تابعاً إداريّاً لمصر.
وكان الشاعر يتنقّل بين مصر وغزّة، وعدم معرفة المعلّمين والمؤلّفين لهذه الحقائق التاريخيّة أربك الطلاب واختلّ معنى النصّ، وانحرفت القصيدة عن جادّة الصواب، وتمّ أخذُ القصيدة إلى معانٍ لم تكن في بطن الشاعر ولا في عقله، ولا يحتملها نصّه. فقد كتب المؤلّفون بين يدي النصّ تقديماً للقصيدة، أقتبس منه هذه الفقرة الدالّة: “وقد اتّخذ معين بسيسو من شعره سلاحاً يُعرّي به الظالم، ومصباحاً يضيء للمناضل العربيّ دروب الكفاح المسلّح، فهو أحد أركان شعر النّكبة الذي صوّر الويلات والمصائب التي صبّها الاستعمار على فلسطين عامّة، وعلى (غزّة هاشم) خاصّة”[13].
فلم يكن في زمن القصيدة قد شاع مصطلح “الكفاح المسلّح” أو ولد في سياق الأدبيّات الفلسطينيّةـ بل لم تكن فصائلنا الفلسطينيّة قد ولدت هي أيضاً. ولم تتحدّث القصيدة عن فلسطين أو عن النكبة التي حدثت (1948) أو عن غزّة المحتلّة كما توهّم مؤلّفو الكتاب.
لقد أولت الدراسات الأدبيّة – وخاصّة تلك التي تتناول الأعمال السرديّة- عنايتها بالزمن، فوجد مثلاً زمن الكتابة وزمن النشر، وزمن الأحداث، وأثر أحد هذه الأزمان فيما سواها، وخاصّة في السيرة الذاتيّة، وأثر زمن الكتابة في زمن الأحداث على سبيل المثال، كما قد يثور سؤال لدى النقّاد إن تأخر كاتب في نشر عمله الأدبي فترة طويلة من الزمن، فيبحثون في الدواعي والأسباب، والآثار، كما حدث مع الكاتب الفلسطيني محمّد عبد الله البيتاوي في نشره رواياته بعد عدّة عقود من كتابتها، فرواية “المهزوزون” كتبت في العام 1967 ونشرت في عام 1996، ورواية “الصراصير” كتبت عام 1968 ونشرت في 2006، ورواية “شارع العشّاق” كتبت في 1969 ونشر في عام 2007[14].
وقد أشار الروائي إلى ذلك في مقدّمة الطبعة الثانية من رواية “المهزوزون”: “هذه الرواية كتبت قبل نهاية عام 1967، وكانت الأحداث لا تزال ساخنة في الذهن والوجدان، وكان من الممكن- لو قيّض لها أن تُنشر في ذلك الوقت- أن تكون حديث الناس، ولكن جملة من الأسباب قد حالت دون ذلك، وأعلم بأنّ نشرها اليوم- وقد تطوّر الشكل الروائي كثيراً- فيه من الظلم الكثير لها”[15].
كما أنّه لا بدّ من أن ينتبه الدارس إلى ما كتبه الروائي ياسين رفاعيّة في آخر روايته “من يتذكّر تاي”[16]، فقد أثبت الكاتب في نهاية الرّواية هذه الملحوظة: “جرت أحداث هذه الرّواية الواقعيّة بين عامي 1967 و1973، الأسماء والأمكنة كلّها حقيقيّة.”
كما قد تشير مسألة التاريخ كذلك إلى ممارسة عمليّة الكتابة وأوقاتها وتذبذبها وانقطاعاتها لدى الكاتب أو الشاعر، فتدلّ على إنتاجه؛ غزارة وانعداما حسب ما يؤشر إليه التاريخ، فيظهر مثلاً عند الشاعر طارق الطيّب في ديوانه السابق “ليس إثماً” أنّ مجموعة من النصوص كتبت في يوم واحد، وبعضها متسلسلة في التاريخ، يوميّة، وبعضها يشير إلى انقطاع الكتابة إلى فترات متباعدة حيناً ومتقاربة حيناً آخر.
وهذا الالتفات إلى مثل هذه الملحوظة قد يفيد في دراسة الحالة الإبداعيّة للشاعر، لتتشكّل صورة عن الكتابة واستدعائها بشكل شبه يومي.
وربّما كان للمكان أثر أيضاً ليتّحد الزمان والمكان معا في هذا الحكم، كأن يكون الشاعر أو الكاتب معتقلاً أو منفيّاً أو محاصراً أو فقيراً أو قد غيّر انتماءه السياسي أو الأيديولوجي، أو ما شابه من تلك الحالات التي تحدّ من الكتابة أو تدفّقها، ومن ثمّ التحكّم بها. وبالعودة إلى ديوان “ليس إثماً” للمرّة الثالثة يتبيّن الأماكن الصالحة للكتابة عند الشاعر طارق الطيّب، فما يلفت النظر حضور المقهى، كأحد أمكنة كتابة تلك النصوص، وإن لم تكن كثيرة، إلّا إنّ ذكر المقهى مع المدينة يؤشّر إلى أهمّيّة بدرجة معيّنة لهذا المكان في عقل الشاعر ووجدانه.
ولا بدّ للدارس من أن يشير إلى اهتمام علماء التفسير والحديث الشريف بزمن نزول الآية أو السورة ومكان النزول أو زمن قول الحديث الشريف ومكانه، إذ يتعلّق بالزمن والمكان أحكام محدّدة، وخاصّة في إزالة التعارض الظاهري أو الفعلي بين النصوص الدينيّة والناسخ والمنسوخ، وقد فصّل العلماء في هذا الجانب كثيراً، وأولوه عناية مضاعفة من التدقيق والتمحيص، لما له من أثر في عقيدة المؤمن واستقراره نفسيّاً، فاحتاجت لذلك الكثير من الاجتهادات الفقهيّة لمثل هذه التمحيصات الزمكانيّة، وصارت مركزيّة في الأبحاث الفقهيّة والاجتهادات الشرعيّة والفكر الإسلامي عموماً؛ إذ تتعلّق بها قضايا ومسائل أخرى سياسيّة واجتماعيّة.
وارتبط الزمن بالمكان في القرآن الكريم؛ فقسّم القرآني تقسيماً زمكانيّاً دون انفصال بينهما، فكان هناك القرآن المكّي الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، والقرآن المدني الذي نزل بعد الهجرة، فالزمان يدلّ على المكان قطعاً في هذا التصنيف، فالهجرة بوصفها حدثاً تاريخيّاً تحمل الدلالتين: الزمانيّة والمكانيّة. وهذا علم مستفيض مبسوط في مصادره المعتبرة، يكفي الإشارة إليه هنا لأهمّيّة تعلُّق النصّ- أيّ نصّ- بالزمان وبالمكان.
فيما سبق إظهار لحضور الزمكانيّة في النصوص الأدبيّة، وأهمّيّتها في فهم تلك النصوص فهماً صحيحاً، حتّى لا يبتعد الدارسون في التأويل، ويقعون في شراك المعاني الملتوية والتفسيرات غير المنضبطة لتلك النصوص، لأنّه يترتب عليها الكثير من الأحكام الأدبيّة والفنّيّة، ولعلّ هذه القضيّة- الزمكانيّة- تؤدّي إلى مساءلة مقولة الناقد رولان بارت “موت المؤلّف” في بعض جوانبها أو في تطبيقاتها المختلفة، إذ لا بدّ من أنْ ترتبط بالزمان والمكان ظروف خارجيّة عن النصّ، تساعد في فهمه فهماً أفضل كما بيّنت أعلاه في تفسير بعض القصائد أو الأعمال الأدبيّة بشكل عامّ، ولا مفرّ أحياناً إلّا أن يعود الناقد إلى مؤثّرات النصّ الخارجيّة التي ساهمت في تشكيله، إلّا إذا تمّ حصر هذه المقولة “موت الناقد” في ضرورة ألّا يفسّر الكاتب نصّه ولا يتدخّل فيه، كما سبق وناقشت ذلك سابقاً[17].
- الهوامش:
[1] محمود درويش وحكاية الديوان الأخير، دار رياض الريّس، بيروت- لندن، 2009، ص5.
[2] السابق، ص25-26.
[3] ينظر المقال: https://2u.pw/lBBDa
[4] ينظر المنشور والتعليقات عليه من خلال الرابط الآتي:
https://www.facebook.com/dr.HANINOMAR/posts/407389420764902
[5] طبعت الرواية في فلسطين عن الاتّحاد العامّ للأدباء والكتّاب الفلسطينيّين، وكتب الأمين العامّ للاتّحاد تظهيراً احتفاليّاً بالرواية.
[6] ينظر اللقاء خلال الرابط الآتي: https://www.youtube.com/watch?v=9b8AJkhU-aM عند الدقيقة 7:22 من الفيديو.
[7] كتب الكاتب الجزائري علي فضيل العربي مقالاً يوازن فيه بين الروايتين، ويتّهم أحمد أبو سليم بالسرقة. ينظر المقال في موقع جريدة الوسط، بتاريخ: 6/9/2021. من خلال الرابط: https://2u.pw/KGFo8
[8] ينظر المنشور في صفحة الكاتب: https://www.facebook.com/haifasteel/posts/10158926014689927
[9] صدر الديوان ضمن سلسلة كتاب مجلّة “ميريت الثقافيّة”، الإصدار الرابع، بالتعاون مع دار الأدهم، أكتوبر، 2021.
[10] ديوان “مولاتي أنت”، سدني، أستراليا، 2021، ص55-57.
[11] السابق، ص77.
[12] السابق، ص65.
[13] كتاب اللغة العربيّة (1)، الصف الثاني عشر، ط2، 2020، ص73.
[14] يُنظر الرابط الآتي: https://altibrah.ae/author/16227
[15] صدرت الطبعة الثانية من الرواية عن دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2022، يُنظر الرواية، ص5
[16] صدرت الرواية عام 2011 عن دار الخيال في بيروت.
[17] يُنظر: مقال “لماذا يجب أن يموت المؤلّف؟، صحيفة الرأي: http://alrai.com/article/10513812 ومقال: “في مأزق الكاتب والنصّ”، موقع “بالعربيّة”: https://bilarabiya.net/13082.html