الكون الخمري لدى أبي نواس (دراسة)
ولعمر المُـــدام إن قلتَ فيهــــا |
||
إنَّ فيهــــا لموْضِعــــــًا للمقـــــالِ | ||
(الديوان، ص. 97)
نعني بالكون الخمري هذا العالم السحري العجائبي الذي شاده أبو نواس بالكلمة المتوفزة، بالخلجات الوثابة، باللفتات الذهنية الرقيقة وببنية القص الحوارية الطريفة، ههنا تسقط سيطرة الإكراهات والسلط، فتتبدد حدود الأفق المغلق الذي خنق أنفاس الذات المبدعة، تنفلت هذه الأخيرة فيما يشبه ما أسميه بأوبة الذات إلى ذاتها، تتحرر من محدودية الرؤية و واحدانيتها وتسم إنتاجها الشعري بإبداعية أكثر تألقا، تنبجس منها لغة شعرية جديدة ورؤية خلاقة للإنسان والعالم والأشياء، رؤية جديرة بأن تجعل القصيدة/القصائد، التي تعكسها قادرة على إيقاف الزمن بمعناه السطري وتحويله إلى زمن ذاكري كما يرى الدكتور ادريس بلمليح.
لا غرابة بعد هذا في أن نجد الخمرة وأبا نواس إلفين، صنوين على امتداد تاريخ التلقي لإنتاجه الشعري : يذكر بذكرها وتذكر بذكره ويزكي هذا التلازم الوثيق المخيال الجماعي كما الثقافة المعاصرة.
قد يكون من قبيل تحصيل حاصل أن نقول الآن إن “أبا نواس زاد على كل من تقدمه وفاق كل من جاء بعده في وصف الخمر لأنه جعل منها موضوعات تامة ذات تفاصيل، وقصر القصيدة على الخمر”([1])، لأن هذا الأمر ينسحب كذلك على شاعر كالوليد بن يزيد أو كأبي الهندي الذي استفرغ شعره بصفة الخمر فجعل وصفها وكده وقصده، وهو الذي اتُّهِم أبو نواس بسلخ شعره([2]).
لكن قصة أبي نواس مع الخمرة لها من الخصوصيات والفرادة، ما جعلها في أساس اهتمام النقاد قديما وحديثا، وبالتالي أهّل شعره فيها ليكون مجلى شعريته وحداثته، ولم يكن هذا الأمر ليغيب عن أبي نواس نفسه، إذ يستفاد من أخباره أنه كان مدركا لمكان القوة في شعره، سأله سليمان بن أبي سهل بن نوبخت “ما استُجيد من أجناس شعرك ؟” قال : “أشعاري في الخمر لم يقل مثلها، وأشعاري في الغزل فوق أشعار الناس، وهما أجود شعري، إن لم يزاحم غزلي ما قلته في الطرد”([3])، يضاف إلى ذلك ما جاء في ردّه : “فأما الذي أفتن فيه وحدي وكله جدّ فإذا وصفت الخمر”([4]).
- 1.1. عجائبية الخمرة :
“الرّاحُ شيءٌ عجيبٌ …”([5]) من عالم الحس يرتقي أبو نواس بخمرته إلى مدارج الروح جاعلا منها كائنا أسطوريا، فوق طبيعي، إنها جذر القدم، مبتدأ النشوء، وهي “القديمة التي لا تنسب إلى شيء بل كل شيء ينسب إليها، وهي أمومة البداية والنشوء، وهي كذلك المعاد، وهي فيما بين النشوء والمعاد الحبيبة والحب”([6]) :
كان لها الدّهْـــرُ من أبٍ خَلَفـــــًا | فـــي حِجْـــرِهِ صانهــا وربَّهـــا([7]) |
بل إن قدمها وخلودها تعمى عليه المقادير :
طَـــوَى عليْهـــا الدَّهْــــرُ أيَّامَـــهُ | وَعُمِّيَــــتْ عنْهـــــا المقاديـــــرُ([8]) |
هذا القدم دليل على رقة الخمرة وجودتها، وهو الذي يجعلها عنصرا دمثا ولطيفا لا يدرك بالعين، بل يتحول جوهرا شفافا، يقول أبو نواس :
مـــــا زالَ يجْلوهَــــا تقادُمُهــــا | حتَّـى اغْتَدَتْ روحًا بلا جسْم([9]) |
لم يبق منها إلا “لبابها المكنونا”([10])، ولأنها كذلك فإن الناظر إليها لا يرى إلا الهباء:
فإذا مــــا اجْتَلَيْتَهـــــا فهبــــــاءٌ | يمنـــعُ الكفَّ ما يُبيحُ العيونا([11]) |
هذه الخمرة التي تفارق المادة والأعراض لتلتحق بالروح والجواهر، هي سليلة حساسية المدنية يطبعها عقل حضاري تشرب من كل الثقافات والفلسفات :
كَرْخِيَّـــةٌ قَـــدْ عُتِّقَـــتْ حقبــــة فلــــمْ يَكَـــــدْ يُدْرِكُ خمّارُهـــا |
حتـــــى مضــــى أكثـــرُ أجـزاءها منهــا ســوى آخـــر حوْبائهــا([12]) |
عجائبية الخمرة النواسية تتمثل أيضا في كونها “حسيا واجتماعيا شراب محبوب ومرغوب، منيع ولين يصان للبذل … إنها عنصر لطيف وراق يواجه تحدي الطارئ والزمني والموت”([13]) عبر مؤالفته بين معطى الطبيعة ومعطى الثقافة :
نتيجـــةُ مُزْنَـــةٍ من عُودِ كَـــرْم بلون رقَّ حتــــى كـــادَ يخفـــى |
تَضــيء الليـــلَ مضــروبَ الرَّواق على عيني وطاب على المــذاق([14]) |
بقدر ما بالغ أبو نواس سابقا في مدح ممدوحيه بقدر ما يبالغ الآن في التدليل على قدم خمرته، فهو يرجع بها إلى عهد عاد وثمود، وأحيانا إلى عهد طالوت وجالوت أو نوح وآدم، يقول :
قُلنا لَهَا : كَمْ لها فـي الدَّنِّ مُذْ حُجَبتْ؟ كانتْ مُخَبَّـــأةً في الدَّنِّ قـــدْ عَنَسَتْ |
قالتْ : قد اتخـــذتُ مــن عهـــد طالوت في الأرض،مدفونةٌ في بطْن تابـوتِ([15])
|
وانظر كيف خلع عليها صفة العنوسة ليبرز قدمها وعتاقتها وحتى عذريتها، بل إن خياله المجنح دفعه إلى أن يجعلها تسبق سيدنا آدم في الخلق، يقول في موضع آخ :
اسقينَّهـــــــــــــــــــــــا سُلافَـــــــةً فهـــــــي كانتْ ولـــم يَكُــــنْ رأتِ الدهـــــــــــــــرَ ناشئــــــــــًا |
سبقَـــــتْ خلــــــــــقَ آدَمـــــا مــــــا خــــــلا الأرضَ، والسَّمــــا وكبيــــــــــــــــرًا مُهْرمــــــــا([16]) |
إن خمرة أبي نواس خمرة لكل الناس ولكل الشعوب … إنها خمرة إنسانية لا وطن لها، أو هي بالأحرى بنت الطبيعة، ثمرة “ذلك الزواج السعيد بين المطر والكرم القائم على تفاعل الحياة المولدة ما بين الكائنات ذكورا وإناثا”([17]) :
رحيقـــًا أبوها المـــاءُ والكـرْمُ أمُّها لساكِنِها دَنَّ بـــه القــــارُ مُشْعَـــرٌ يهوديـــةُ الأنسابِ مسلمة القُرى مجوسيَّـةٌ، قدْ فارقتْ أهـــلَ دينها |
وحاضِنُها حــــرُّ الهَجيــــر إذ يَحْمى إذا برزت منــــه فليس لها مثــــوى شآميَّــةُ المَغْـــذى عراقيّـــــةُ المنْشـــا لِبغْضَتِها النّارَ التي عندهــــــــــم تُذْكَى([18]) |
لا تني هذه الخمرة تجترح العجائب وتخضع الغريب لحكم العادة والمألوف، إلى الحد الذي تجمع فيه بين المتناقضات، نلمس ذلك من خلال هذه الصورة العجيبة المعبرة عن عتاقة الخمر، هذه الأخيرة التي وخط الشيب رأسها وهي ما تزال في رحم أمها جنينا، وحينما يفض عنها ختامها، بقدرة قادر وبفعل عجيب تعاودها نضرة الشباب :
فاسْقِني الخمـــرَ التي اخْتَمَــرَتْ ثُمَّــةَ أنصــــاتَ الشبــــابُ لهــــا |
بخمــــار الشَّيْــــبِ في الرَّحِـــــمِ بعدمــا جـــازتْ مَـــدَى الهَــــرَم([19]) |
ولا نفارق هذا العالم العجائبي الخارق، إذ يجبرنا أبو نواس مرة أخرى على إطلاق العنان لخيالنا، لنراه يمشي مشية المقيد إلى عجوز شمطاء يستل جنينها :
وشمطاءَ حَـلَّ الدَّهْرُ عنها بنَجْوَةٍ | دَلَفْـــتُ إليهــــا فاسْتَلَلْـــتُ جَنينَهـــــا([20]) |
تنبع الضدية بشكل جلي بين الواقعين التاليين العجوز ≠ الجنين، فالعجوز فيزيولوجيا لا يمكنها أن تنجب، لكنها في عالم أبي نواس الحُلمي استطاعت ذلك لأن رؤية الشاعر كانت بمهارة قاسية تحبك تصدعات متخيلها لتزاوج بين الضدين في ألفة متناهية.
إنها وثبة من وثبات الخيال التي لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن حالة الذات الكاتبة لحظة تحرير الجسد، تحرير الدال : “قيل لأبي نواس كيف عملك حين تريد أن تصنع الشعر ؟ قال : أشرب حتى إذا كنت أطيب ما أكون نفسا بين الصاحي والسكران صنعت وقد داخلني النشاط وهزتني الأريحية“([21]).
الكون الخمري لأبي نواس كون مشع بألف نار ونور، يغمره الضوء يسكنه الفرح وتدججه الغبطة وحيث تكون الخمرة ينمحي الظلام كلية ويعم النور والضياء، لقد قضى الله لهذه الخمرة بأن لا يدرك مكانها الظلام :
ألاَ خُذْهــــا كمصبــــاح الظـــلام لا ينـــزلُ الليــــلُ حيثُ حَلَّـــتِ |
سليلـــــة أســــــودٍ سُخــــــام([22]) قليــــلُ شُرّابهـــــــا نهـــــــارُ([23]) |
من مزايا النور أنه “يرمز دوما إلى الحياة والخلاص والسعادة”([24])، في حين أن الظلام يرمز “بالتلازم للألم والشقاء والعقاب والهلاك والموت”([25]) هكذا يتقدم النور في الثقافات التي نهل منها أبو نواس كصورة من صور الله، بل هو الله في المسيحية كما في الإسلام : ﴿الله نور السموات والأرض﴾، سورة النور، آية 35 ـ كما أنه يتقدم كعنصر خير في الأساطير والثقافات القديمة : يونانية، مجوسية، فارسية مصرية […]. لم يفت أبا نواس استلهام هذه الأبعاد وتوظيفها في شعره، يقول :
ومَقْـــرور مَزَجْتُ له شَمــــــولاً فلمّا أن رَفعـــــتُ يدي فلاحـــتْ فـــردَّد طرْفَـــــهُ كيْمـــــا يَراهــــا |
بمـــاء والدُّجـــى صعـــبُ الجَنــابِ بــوارقُ نُورهــــــا بعد اضطـــــرابِ فَكَلَّ الطرفُ من دون الحجــابِ([26]) |
خمر يعجز الطرف عن رؤية نورها، وإذا ما حاول التحديق فيها ارتد إليه البصر حسيرا، يقول تعالى : ” ثمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبُ إليكَ البصَرُ خَاسِئًا وهُوَ حَسِيرْ“( سورة الملك، آية 4 ). على هذا النحو كان أبو نواس يفتح نصوصه على النصوص السابقة سواء كانت قرآنا أو شعرا، وهذا التداخل النصي ميزته الأساسية تكثيف النص و إغناء دلالاته([27]).
يقول أبو نواس في نفس السياق :
ترى العين تسْتَعفيكَ من لمعانِها | وتحسـر حتَّى ما تقــل جُفونها([28]) |
إن العين تتوسل عدم النظر إلى الخمر لأن حمرتها وتألقها يؤذيانها ويضعفان بصرها، وتوهج الخمر هو ما يجعل الشاعر يتساءل :
أشَمْسًا أعرْتَ الكأْسَ أم هي لمعـةٌ | من البرق.. أم أقبلتَ بالكوكبِ السَّعْد([29]) |
بهجة دنيا أبي نواس كانت تشرق من جنبات الكأس، لذلك فهو أبدا شغوف برؤية النور يطلع عليه من أفق هذا الكأس عند انسكاب الخمرة من الدن، بل إنه يوهمنا بأنه أغنى صاحبه عن المصباح حينما سكب له منها في الزجاجة، فكان نورها يقاوم ظلام الليل فيحيله إلى صباح :
قال :“ابْغِنــي المصباحَ“ قلت له:“اتئــدْ” فسكبتُ منهــــا فــي الزجاجـــة شَرْبَةً |
حسبي وحسبك ضوءُها مصباحًا كانتْ لــــه حتــــى الصَّبـــاح صَباحَا([30]) |
هي الخمرة مصباح، سراج، كوكب، شمس، نار، نجم … تأتلق بنورانيتها لتجعل المستحيل ممكنا، تسعف هذا المعمى بعشقها في التسلل إلى الخمار ليلا مهتديا بنورها ليستدل على مكانها، ويثير بالتالي حيرة الخمار الذي استغرب قدومه في ليل حالك السواد فيخبره بأن الصباح هو الذي قاده إلى الحانة، وعند ذاك يدرك الخمار مصدر النور فيقوم إلى خمره يغطيها ليعم الظلام. يقول أبو نواس في أسلوب قصصي حواري لا يخلو من عناصر الإثارة والتشويق :
وخمَّــار حَطَطْـــتُ إليــــه ليـــــلاً فجَمْجَـــمَ والكَــــرَى في مُقْلَتَيْــــهِ “أبِنْ لي كيفَ صـرتَ إلى حريمـــي فقلت لـــــه : “تَرَفَّـــــقْ بـــي فإنّـــي فكان جوابُـــــهُ أن قال: صبـــــحٌ ! وقـــــامَ إلى العُقــــار فَسَدَّ فَاهــــا |
قلائصَ قــــد ونينَ مـــن السِّفــــار كَمَخْمُورِ شكــــا ألَــــم الخُمــــــار ونجـــــمُ الليــل مُكْتَحِلٌ بقـــــارِ؟“ رأيتُ الصُّبْــــحَ من حلَل الدِّيــــارِ“ ولا صُبْــــحَ سوى ضــوءِ العُقــار فعادَ الليلُ مُسًودَّ الإزارٍ
|
لا تقف معجزات خمرة أبي نواس عند حدود شكلها، قدمها أو لونها ورائحتها، وإنما تتعداها إلى هذه الطاقة الإعجازية التي تسم فعلها وتأثيرها، لدرجة أن مآثرها تجل عن الوصف، فهي بدءا تبسط هيمنتها على الزمن وتمنح شاربيها المقدرة على تكييفه وفق إرادتهم :
دارتْ على فتيــــةٍ دانَ الزمانُ لهمْ | فمـــا يصيبُهــــم إلا بما شـــاءوا([31]) |
أي شيء أعتى من آلة الزمن الجهنمية ؟؟ إنها الخمرة، هي وحدها القادرة على قهره لأنها قادرة على إلغاء وعي الإنسان بالزمن وفعله. إن مصاحبة الزمن لها في الدنان يسمح لها بالتماهي معه، إذ تصبح من جنسه تفعل فعله : تفترس الأبدان والنفوس المتجسدة، تقاوم الفناء والانمحاء :
صفـــراءُ تفترسُ النفوسَ فلا تـــرى عَمِـرَتْ يُكاتِمُـــكَ الزمــــانُ حديثَها فأبــــاحَ من أسرارها مستودَعــــًا فأتَتْكَ فـي صُـــوَر تداخَلَها البلَــــى كرخيــــةً تترك الطويـــلَ من الـــــــ |
منها بهنَّ سوى السِّنـاتِ جراحَـــا حتــــى إذا بلــــــغَ السَّآمَــــةَ باحَــا لولا الملالــــــةُ لم يكن ليُباحــــــا فأزالهُـــــنَّ وأثبـــــتَ الأرْواحـــــــا ــعيْـــشِ قصيـرًا وتبسُطُ الأمَلا([32]) |
بل إنها لتصبح “روحا” تثير خيال الشاعر وتحرك كوامن إبداعه ليرسم بالكلمات هذه الصورة الجميلة :
مازلتُ أسْتَـــلُّ روحَ الدَّنِّ في لُطْـــــفٍ حتى انْثَنَيْتُ ولي روحان في جســـدٍ |
وأستقــــي دَمَــــهُ من جَوْفِ مجروح والدَّنُّ مُنْطَـــرحٌ جسمـــا بــلا روح([33]) |
للخمر كذلك قوة تأثير أخرى فهي تتيح لشاربها التخلص من كبت الأنا الأعلى، وفي نفس الوقت تحقق له الإشباع اللذوي، بما أنها وسيلته في إطراح همومه وقتلها وفتح قلبه على ترانيم الفرح([34]) :
صفــراءُ تسلُبُكَ الهمـــومَ إذا بـــدتْ صفـراءُ لا تنزلُ الأحــــزانُ بساحتِهـــا |
وتُعيــــرُ قلبك حلَّــــــة الســــــرَّاء([35]) لو مسَّها حجــــرٌ مسَّتْـــــهُ ســرَّاءُ([36]) |
خمرة بهذه المواصفات والطاقات المدهشة، لم يملك أبو نواس وهو مريدها المتيم بها سوى أن يصونها من هشاشة المادة والمحسوس، مرتفعا بها إلى مصاف المجردات وخالعا عليها صفات القدسية والنورانية وكذا الأوصاف الإلهية :
اثْـــــن علـــــى الخمـــــر بآلائهـــا | وسمِّهـــــــا أحسَــــنَ أسمائهـــــا([37]) |
للخمرة عالمها المقدس الذي يضاهي العالم الديني في قداسته وجلالته، فهي إذن تتساوى مع الله، يصبح لها عبادها الذين يداومون على تأدية طقوسها في احتفالية لا مثيل لها([38]). إنها خمرة تجبر حتى الملوك على السجود لها :
ومدامَـــةٍ سجَــدَ الملــوكُ لذِكرهـــا | جَلَّتْ عـــن التصريـــــح بالأسمــــاء([39]) |
خمرة كهاته … يجل الوصف عنها، حتى الوهم يقصر عن ملامسة أبسط صفاتها :
ـ تحيَّـــرَتِ الأوهــامُ دون صِفاتِهــــا أنَتْ دونَهـــــا الأيـــــامُ إلا بقيــــةً ـ جلَّتْ عن الوصــفِ حتى ما يطالبُها تقسَّمَتْها ظنــونُ الفكــر إذ خَفِيَـتْ |
وجلَّتْ صفاتٌ عن شبيه وعن نِـدِّ تَدِقُّ لِلُطْــفٍ أن تُضـــاف إلى حـــدِّ وَهْــمٌ فَتَخْلُفُها في الوصفِ أسماءُ كمـــا تقسَّمَــــتِ الأديـــــانَ آراءُ([40]) |
بهذه القداسة والجلال تصبح الخمرة حربا على المعربد والثقيل واللئيم، لا يلج معابدها إلا “ندامى صدق” تزينهم خلال طيبة :
فــالرّاحُ طيّبـــةٌ وليـــسَ تَمامُهــــا | إلا بطيـــبِ خلائــــــق الجُــــلاّس([41]) |
إنه “دستور المنادمة” إستنه أبو نواس من وحي عشقه للخمرة، وكأني به يستعيض به عن آداب المجتمع وأخلاقه، فهو (أبو نواس) لحقوق الكأس حافظ ولحقوق النديم موجب :
أرى للكــــــأس حقًّــــــــــــــا لا أراهُ تحيَّــــةٌ بينهــــم “تفديـكَ روحـــي !“ لا يحفظــون على السّكْــــران زلَّتَـــــهُ ولا تُسْقي المَدامَ فتىً لئيمًا |
لغيـــر الكــــأس ـ إلا للنَّديــــم([42]) وآخــــرُ قولهمْ “أفديكَ هـــاتِ“([43]) ولا يُريبُــكَ من أخلاقِهم ريبُ([44]) فلستُ أُحلُّ هذي للَّئيم([45]) |
2.1. مسرح الشرب
قصائد أبي نواس الخمرية ترسم بعناية فائقة مسرح الشرب، بما هو فضاء تتزاوج فيه الأشياء الأثيرة لديه (أبو نواس) ، الخمرة، الطبيعة، الجمال :
أربعــــــــــــةٌ يحيـــــــــا بهــــــا المــــــــــــاءُ والبستــــــــانُ والْـــــ |
قلـــــــــــــبٌ وروحٌ وبـــــــــدنْ ــخمـــــــــــرةُ والوجـــــهُ الحســـــنْ([46]) |
إنها العناصر التي تؤثت المشهد الحياتي النواسي الذي يتبدى كسلسلة من المغامرات اللانهائية، جري حثيث للقبض على اللحظة الهاربة ومحاولة تخليدها وتأبيدها بالمتع الحسية والروحية، ومن هنا نفهم ذلك الطابع التكراري الذي يغلف قصائد أبي نواس، هذه القصائد التي نلحظ بدءا أن الشاعر بناها على قصص يغلب عليها السرد والحوار، تقوم بأدائها شخصيات نمطية من ضمنها : الشاعر/الذات المتكلمة، صحب الشاعر، الخمار/الساقي … كما يؤطرها زمان ومكان محددان.
لماذا أقحم أبو نواس بنية القص في نسيج قصائده ؟؟ سؤال مشروع.
إن الشعر بالنسبة لأبي نواس رديف معاناة ذاتية وتجربة معاشة :
تصفُ الطلُــــولَ على السماع بها وإذا وصفْـــــت الشــــيء متَّبعـــا |
أفَـــذُو العيــــان كأنْتَ في العلــم لم تخْـلُ من زلَل، ومن وَهْـــم([47]) |
لذلك فهو دوما حريص على الإحالة على مرجع ليس هو سوى حياته، ومن ثم توسله بفن القص “والذي يختص به القص أن الكلام يحكي فيه مادة من غير جنسه هي الأفعال والأحوال والأحاسيس والانفعالات، ويحكي مادة من جنسه هي الأقوال التي تبادلتها الشخصيات في واقع الحدث. معنى هذا أن التخاطب فيها تام وأن عالم القص، تبعا لذلك، مشاكل للعالم الواقع أو غير بعيد عنه”([48]).
لن نمتر في حقيقة إسهام البنى القصصية في رواج شعر أبي نواس كما أسهمت في رواج شعر بشار وعمر بن أبي ربيعة من قبله، مثلها في ذلك مثل سهولة اللغة التي اقتربت في بعض الأحيان من اللغة اليومية، ومثل طابع السخرية والظرف. لكن بقدر ما راج هذا الشعر ونفق خاصة لدى السباب وحتى الشيوخ([49])، بقدر ما استهجنه حماة الأخلاق وعمّدوه بلغة الإقصاء([50]).
لاستجلاء مكونات البنية القصصية في خمريات أبي نواس نثبت بعضا من القصائد التي تتضمنها، يقول أبو نواس :
وخَمَّـــار أنَخْـــتُ إليـــه رَحلـــــى فقلتُ له : “اسقِني صَهْباءَ صِرْفــا فقــال : “فإن عنــدي بنتَ عشـر” “أذِقْنيهــــا لِأَعْلَـــمَ ذاك منهــــــا“ كأن بَنـــانَ مُمْسِكِهـــا أشيمَــــتْ فقلت : “صَدَقْتَ يا خمـــارُ، هــــذا فمــــالَ إلــــيَّ حيـــنَ رأى سروري فما هجـــم الصَّبــــاحُ على حتّـــى |
إناخَــــةَ قاطــــن والليـــــــلُ داج إذا مُزجَـــتْ تَوَقَّــــدُ كالســــراج“ فقلتُ لــه مقالـــةَ من يناجــى: فأبــــرزَ قهـــــوةً ذاتَ ارتجــــــاج خِضابًا حين تلمعُ في الزجاج شرابٌ قد يطولُ إليه حاجي“ بهــــا والليـــــلُ مرتكـــبُ الرِّتــــاج رأيتُ الأرضَ دائـــرة الفجـــاج ! ([51]) |
يعين البيت الأول زمان ومكان القصة (الخمار ـ الليل) ويعقب ذلك مباشرة متوالية الحوار بين الشاعر والخمار، وهي متوالية تتخذ صبغة تبادل للأجوبة (قلت ـ قال)، ومن شأن هذا الحوار أن يزيد من قوة تماسك النسيج الداخلي للقصيدة([52])، كما أنه يمكن الشاعر من إجراء السرد مجرى الواقع المعاش، إذ لو تم حذفه لفقدت القصيدة جزءا غير يسير من طرافتها وحتى “واقعيتها”.
مجلس الخمرة ينعقد في الخمارة كمكان مألوف، وقد تحتضنه روضة من الرياض الغناء :
ومــــلْ إلى مجلـــــس علـــى شَــــرَفٍ ممهَّــــــــــدٍ صُفِّفَـــــــتْ نمارقُــــــــه وفتيــــــةٍ كمصابيـــح الدُّجــــى غُـــرَر صالوا على الدَّهر باللهـو الذي وصلُـــوا دار الزمـــانُ بأفـــلاكِ السعـــودِ لهـــم |
بالكَــــرْخ بين الحديــــــق، معتمـــــد في ظـل كـــرم مُعَــــرَّش خَضِــــدِ([53]) شُـــمِّ الأنـــوفِ من الصيدِ المصاليتِ فليــــسَ حَبْلُهُــــمْ منــــهُ بمبْتـــوتِ وعاجَ يحنو عليهم عاطــفَ الليـــتِ ([54]) |
أو بوصف الخمرة في قوله :
وَعُقــــار كأنَّمــــــا نتعــاطــــــى خَنْدريـــــسٌ كأنها كــــلُّ طيــــبٍ، |
في كـــؤوس اللُّجيـن منها سراجَا زوَّجوها، وليس تهوى الزَّواجَا([55]) |
غير أن أبا نواس قد يتخلى في قصائد أخرى على هذا الترتيب فيعطي للقصة بداية أخرى، تتلخص في اتفاقه وصحبه على الذهاب للحانة واجتماعهم في مكان محدد ليكون هو دليلهم إلى الخمار بحكم تجربته ومراسه :
رُبَّ فتيـــــــــــان ربَأْتهُــــــــــــمُ فاتقــــــوا بــــي مـــــا يُريبُهــــــــم |
مطلَــــعَ العيُّـــــوق من سَحَـــــرهْ إن تقــوى الشَّــــرِّ مــن حَـــذَرهْ([56]) |
ولأن الزمن ليل (وهو الزمن المحبب لدى أبي نواس في مغامراته) يسلك البطل ورفاقه الدروب المفضية إلى بيت الخمار :
مـــا زلتُ أمتحِـــنُ الدَّساكـــرَ دونَهُ فعرفتُـــه والليـــلُ ملتبـــسٌ بنـــا |
حتـــى دُفعــتُ إلى خفــــيِّ المنــزل برفيفِ صلعَتِـهِ وشيبِ المِسْحَل([57]) |
الحدث الموالي سيكون طرق الفناء، يعقبه قرع الباب ليظهر الخمار وقد تملكه الرعب والذعر مخافة أن يكون الطراق من الشرطة، لكنه بعد أ، يطمئن إلى أنهم فتية يطلبون خمره يسارع بفتح الباب لهم :
وأحْـــوَرَ، ذِمِّـــيِّ، طرَقْــــتُ فَنَــــاءهُ فلمـــا قرَعْنــــا بابَـــهُ هَبَّ خائفـــــًا، وقــال : “مـــن الطُّــرّاقُ ليلاً فنائنــا؟” فأطلــــقَ عن أبوابـــــه غير هائــــــبٍ |
بفتيــــان صِـــدْق، مــا تــرى منهمُ نكـرَا وبــادرَ نحــوَ البــابِ، ممتلئــــًا ذُعْــــرًا فقلتُ لهُ : “افتحْ فتيـةٌ طلبــــوا خَمْـــرا” وأطلـــع من أزراره قمـــراً بــــــــدرَا([58]) |
وبعد أن يتم التعارف بين الخمار والفتية، تأتي المساومة على الخمر :
فقلت “فمــاذا مَهْرُها“ قال مهرُها فلقتُ لـه: “خُذْهــا وهات نُعاطِها“ |
إليك” فسقنـــا نحـوَهُ خمسةً صُفرَا فقـام إليها قـد تملَّى بنــا بشْــرَا([59]) |
والآن إذ وفت الخمر لخاطبها، فهو يتملى طلعتها ويصف حسنها ـ على النحو الذي رأيناه سالفا ـ وبعدئذ يبدأ زمن إيروتيكي يتلازم مع فضاء جديد : إنه فضاء العربدة فيه يحتفي الشاعر ـ وصحبه ـ بالجسد وبالرغبات الموارة التي تسكنه إذ “بالرغبة يتحين الجسد، يهتز ويدرك نفسه باعتباره نبضا حيا”.
إن كل حركة لأبي نواس في اتجاه الخمر هي حركة لذوية بامتياز، فهي أم وهو رضيع يستحث الحبو في اتجاه صدرها الدافئ، تاريخيا وثقافيا وشمت العلاقة مع الأم في الذاكرة الإنسانية بالطهرانية الكاملة والتقديس المطلق، تستحيل الكأس عند أبي نواس إلى ثدي، والثدي مصدر للحياة:
فقُمتُ أحبـو إلـى الرِّضاع، كـمـا | تحامل الطـفلُ مسّـــه سَغَبُ([60]). |
إن هذه الإيماءات المعبرة عن الإثارة الجنسية اتجاه حضور الجسد الأمومي (وأمي العنب ترضعني درها وتلحفني بظلها) ([61]) سرعان ما تصبح صريحة في دلالاتها، فيتحول موضوع الرغبة إلى الجسد الآخر (ليس جسد الأم):
-هتــكتُ عنها والليـل معتكــرٌ | مهـَلْهَلَ النَّسْـــج، مـاله هُـدُبُ | |
من نسْج خرقـاءَ، لا تُشــَدُّ لهـا | آخِيَّــةٌ في الثرى، ولا طُنُــــبُ | |
ثـم تَوَجَّــأتُ خَصـْرَهـا بشبـاا | لإشفى، فجـاءتْ كأنهـا لَهــبُ([62]).
|
|
– فبــادروا لافتضاض عُذرتِـهــا | بناقد فـي شبـاتِه زَلَـــــقُ([63]). |
هكذا يؤشر معجم الجنس (توجأت، نفتض، افترعنا، جمشت) لتألق المكبوت في طقوس احتفالية –كرنفالية يتنازع فيها الشرب ماء الحياة، هنا يأتي دور الساقي ليتمم سيرورة الوقائع والأحداث:
يديرُهـا هاشميُّ الطَّـرْفِ، معـتدلٌ | أبهى إذا ما مشى من طـاقة الآس | |
حَثَّ المُـدامَ، وغَنَّانا علـى طـربٍ | “الآن طاب الهوى يا معشرَ النـاس” | |
حتى إذا ظنّ أنـى غيــرُ محتمـِلٍ | أشـار نحوي لأمر بيـن جلاســي | |
فقلـتُ أضـربُ في معروفـه مثلا | لعـادةٍ قد مضتْ مِنّي إلى الآسـي | |
“من يفعل الخيرَ لا يعدمْ جَوازيــه | لا يذهبُ العرفُ بين الله والناس”([64]). |
إن أوصاف الساقي واحدة كل قصص أبي نواس: جميل، أحور، لطيف، خنث.. وهي أوصاف ترقى به إلى مستوى الخمرة ليصبح ربيبها، إن لم يكن هو هي:
– يديرُها قمرٌ فـي طرفـِه حَــوَرٌ | كأنمـا اشتُقَّ منهُ سحرُ هـاروتِ([65]). | |
– نازعْتُهم قهـوةً صـفراءَ، صافيةً | بشادن خَنِـثٍ، كـالـغُصن ميّـاس | |
مُخَنَّـثِ اللفظِ يُسْـبينـي بمُـقلتِه | مُقَرْطَفِ، قُرَشيِّ الوجــهِ، عبـاسي | |
كــأن إكليلَهُ تاجُ ابـن مــاريةٍ | إذا راحَ معـتصِبـا بالـوردِ والآس | |
وقـد يغنيكَ من سكر ومـن طربٍ | والكأسُ تختالُ من ساق إلـى حاسي | |
لله دَرُّكَ قـد عـذبتَنـي حُـرَقــاَ | بالقرب والبعدِ والأطماع واليـأس([66]). |
ما يقارب بين الساقي والخمرة، إذا ما استحضرنا الطقوس الدينية أو شبه الدينية التي يخص بها أبو نواس مجلس الخمرة، هو هذه القداسة ونبل المحتد (قرشي الوجه عباسي/ كأن إكليله تاج ابن مارية/ اشتق من سحر هاروت) اللذين يجللانهما، كيف لا وهما قطب اللذة ومصدر المتع؟
يسقيكـا مــن بني العــبادِ رشاُ | منتسـِبٌ عيــدُه إلـى الأحـــدِ | |
إذا بنـى المـاءُ فوقهــا حَبَــباُ | صلَّـب الماءُ فوق الجبين بالزَّبَــدِ | |
أشـربُ مــن كـفّه شمولا، ومن | فيه رُضاباُ يجـري علـى بَــرَدِ([67]). |
حينما تجتمع حميا الكأس ووصال الساقي (الساقية) فتلك نشوة مضاعفة:
فالخمرُ يـاقوتةٌ والكـأسُ لـؤلـؤَة | مـن كـفِّ جـاريةٍ مَمْشوقـةِ الـقَدِّ | |
تسقيكَ من عينها خمراً، ومن يـدهاٌ | خمراً فمـالك مـن سُكْرَيْن مــن بُدِّ | |
لي نشـوتـان، وللـندمـان واحدة | شيءٌ خُصِصْتُ به من بينهمْ وحدي([68]). |
يتجانسان معا بوضعهما السني، هي بنورانيتها، وهو بجماله وغنائه الذي يشيع الفرح”.. إنه تعبير روحاني متجانس ومتلائم مع الخمرة و صادر عنها أو متولد منها في الوقت نفسه، يحمل سماتها التحويلية في تجاوزها للمتناقضات نحو المتعة”([69]).
ولا يتوقف دور الساقي هنا، صورة افتضاض عذرية الخمر في شعر أبي نواس توازيها ممارسة فعلية للجنس يكون موضوعها الساقي:
مَـزَجَ الكأسَ لـي غـزالٌ أديـبٌ | هامشيٌّ، أصـاب فيـهـا المزاجـا | |
فَـتَـحَسَّـيْتُها، وناولـتُ ظَبْيــاُ | فـاترَ الطًّرفِ، ســاحرا مـغناجاُ | |
قـال لي، والمُـدامُ تـأخذُ فيـه: | يـا أميـري إن كــنتَ بي مِلْهاجا | |
فقم الآن طائعاً.. فقلـتُ: عُجْ بـي | يا مليكِي إلـى الفراش…” فعاجَــا | |
فـحـلـلـنا هناك تِـكَّـةَ خــزٍّ | وحسـرنــا قبــاءهُ الديبـاجَـا | |
ثــم أرسلتُ بـاز صِـدْق، نشيطا | يقتُلُ الـوزَّ ثَــمَّ، والدُّراجـــا([70]) |
سيرورة الحدث في هذا المقطع يتوزعها السرد والحوار وفق النظام التالي: سرد ـ حوار ـ سرد. ففي البيتين الأولين نميز ثلاثة وقائع: مزج الخمر، تحسي الخمر، مناولة الخمر للظبي، أما في البيتين المواليين فالمحاورة تسجل فترة الانتقال من شرب الخمر إلى الشروع في ممارسة الجنس، ليعود السرد في الأخير واصفا بلغة كنائية([71])، هذا المشهد الذي غالبا ما يكون في نهاية المغامرة/ القصة/ القصيدة:
– وامتدَّ فوق سـرير كان أوفَــقَ | على تشعشُعه، من عَرْش بلقيــس | |
فقمـت أمشُق في قرطـاسه بيـدٍ | خطّاطَةٍ، ما يعاني في الـقراطيس([72]) | |
– وقمـتُ أسعى إليه مـبتـــدرا | والقلبُ، من سُخطه، على وَجـــل | |
حتـى اعتنقَنـا على الفراش وقـد | غَاصَ صقْري الجمُوحُ فـي الكَفل([73]) |
هذه التقنيات الحكائية نجدها في كل القصص الخمري لأبي نواس مع تغييرات بسيطة قد تطال الزمان أو المكان، البطل (الشاعر) وباقي الشخصيات، تسجل دوما حضورها مع اختلاف في ترتيب الأحداث، إلا أن ما يشد القارئ حقا، هو هذا الاتساق الذي يفرض نفسه في هذه النصوص القصصية مضفيا عليها حركية مشعة([74]).
ولا نملك إلا أن نقول مع إيليا حاوي إن “أبا نواس كانت له شبه هندسة فنية قائمة عبر القصيدة، فهو لم يعد يهذي بها هذيانا، كما شهدنا في شعر الأعشى والأخطل، وإنما باتت تجري ضمن أسلوب عام لا يتأدى فيها المعنى في البيت الذي خصص له، بل من الأبيات السالفة جميعا لأنه نتيجة لها”([75]).
إن هذا الاتساق الداخلي للقصيدة لا يتأتى فقط عن مزية وحدة الموضوع، أو من التسلسل السردي الذي تضمنه بنية القص، ولكن تعضده كذلك “بلاغة الغنائية المستنبطة من الملفوظات المتتابعة، هكذا يتشكل النص من دفق الدلالات، والإيقاع بقدر ما هو ناجم عن الكلمات الجارية في القوالب الوزنية، ناجم أيضا عن المعنى”([76]).
على هذا النحو تخلق القصيدة نظامها في حرية تامة، ولا تقتصر على علاقة التجاوز التي تلحم أبياتها، بل إنها تطمح للتزاوج مع أبيات من قصائد أخرى لتنشئ ما يسميه كيليطو علاقة الغياب([77])، هذه العلاقة هي فتح لأفق النص يعزز تجانسه فيما هو يغني دلالاته، إنها محور لقاء الإبداع الفردي بالذاكرة الشعرية، لقد جاوز أبو نواس في هذا الصدد الإشارات الخفية إلى تضمين قصائده أشطرا أو أبياتا كاملة لشعراء آخرين، كما هو الحال في هذه القصيدة التي يضمنها شطرا للأعشى وآخر للقطامي:
حيريَّةٌ، كشـعاع الشمـس، صافيةٌ | يحيطُ بالـكأس من لألائهـا شُعَـلُ | |
فقال: هات وأسمعـنا علـى طـربٍ | “وَدِّعْ هريرَةَ إن الركـب مرتحــلُ” | |
فـحسنتْ فيـه، لم تَخرَمْ مواقـعُه | والكأسُ في يدها، في جوفها خلـلُ | |
ثم استهشَّتْ إلـى صـوتٍ تملِّحُهُ | “إنا مُحَيُّوكَ، فاسلمْ أيها الطَّلَـلُ ([78])“ |
أو في هاته لتي يضمنها بيتا كاملا لأبي محجن:
فيا أيها اللاّحي اسقني ثـم غَنَّـني | فإني إلى وقـت الممـات شقيقهــا: | |
“إذا مـتُّ فادفني إلى جنـبِ كرمةٍ | تُروي عظامي بعد موتي عروقهـا”([79]). |
عموما يمكن القول إن جل قصص أبي نواس الشعري يتأطر فيه الكلام ضمن كلام الراوي، أي ضمن ما يسميه الأستاذ سعيد يقطين صيغة الخطاب المسرود، الذي تتخلله في بعض القصائد صيغة الخطاب المعروض المنتج من خلال الحوار([80])، والراوي دائما يحلل الأحداث من الداخل، إنه البطل الذي يروي قصته بضمير الـ “أنا” وهو بهذا المعنى راوٍ حاضر([81])، يقدم لنا طبيعة الزمن والفضاءات المتحكمة في أحداث ومسارات قصصه، وبذلك يكون م مهدا لما سيقع فيما بعد، بل يجر المتلقي (المروي له) إلى ضرورة متابعة هذه الأحداث قصد معرفة ما سيحدث في نهاية القصة.
يكتسي الزمن والفضاء أهمية بالغة في قصة أبي نواس الخمرية، إذ إن حضور الأول يولد حضور الثاني والعكس صحيح، ولم يكن اختيار أبي نواس (الراوي) لليل كزمن لمغامراته وللخمارة كفضاء لتجربته اعتباطا، ذلك أن الليل هو الزمن الحقيقي لكل فعل مرغوب فيه، أما النهار فيمثل عودة الرقابة وقوة القيم المجسدة فيما يسمى بالأنا الأعلى كمجموعة من الضوابط الأخلاقية والمعيارية المتحكمة في السلوك البشري.
إن فضاء الظلام الذي يعقبه فضاء النور ثابت أساسي من ثواب قصص أبي نواس، وإذا كنا سابقا قد اكتنهنا رمزية كل منهما([82])، فإننا نستنتج من خلال تحديدات باشلار أن الضوء في مكان مظلم يولد التأمل، بل يتحول هذا الضوء إلى مركز للعالم أو للكون ككل، وذلك ما نقف عليه في القصائد السابقة إذ العالم الخارجي/ خارج الخمارة يلفه الظلام، في حين أن العالم الداخلي/ داخل الخمارة يغمره النور، وهذا النور ليس سوى نور الخمرة وكاساتها ونور الساقي والملذات التي يختزنها [القد، الريق، الخنث، الغناء، الجنس].
على هذا النحو تتقدم الكلمات الدالة على الظلام: [الليل داج، الليل مرتكب الرتاج، مطلع العيوق من سحره، الليل ملتبس بنا، من الطراق ليليا، الليل معتكر]، وبالمقابل تتقدم عناصر الضوء والنور على الشاكلة التالية: [توقد كالسراج، تلمع في الزجاج، الصباح، فتية كمصابيح الدجى، السعود، سراجا، قمرا بدرا، كأنها لهب، يديرها قمر، تاج ابن مارية، الخمر ياقوتة، الكأس لؤلؤة، حيرية كشعاع الشمس، صافية، لألاتها].
هكذا يصبح مجلس أو فضاء الخمرة هو ما يحقق للراوي حلمه، ينقله من عالم اللاحركة إلى عالم الحركة، ولنلاحظ أن أفعال المضارع والأمر تنشط وتتقاطع ضمن حقول دلالية منتشرة في أعطاف كل القصائد [اسقني، أذقنيها، مِل، عاج يحنو، نتعاطى، دُفعت، قمت أحبو، خذها، هات تعاطها، يديرها، يغنيك، يسقيكها، تسقيك، قمت أمشق…]، ينقله أيضا من التوتر إلى الارتخاء، من الموات إلى الحياة [الليل +الدجى + التباس + اعتكار= الصباح +السعود +السرور+ البشر+ الرضاع+ الغناء+ النشوة+ الجنس].
ملاك الأمر إذن أن بنية القص في قصائد أبي نواس شرعت تجربته الإبداعية على آفاق جديدة حاولت الخروج من شرنقة نهج القصيدة القديمة من جهة، وسمحت له بمعانقة فضاء الحلم بما هو فضاء للمغامرة واللذة والتحرر من كل القيود، ولم يكن هذا الحلم سوى أداة هدف من خلالها أبو نواس إلى قهر الواقع وكل الأشكال المعيقة والمعرقلة لفعل الحياة، وهو بهذا يصعد تجربة كل من امرئ القيس والصعاليك وطرفة وابن أبي ربيعة وبشار، إذ ما يؤالف بينهم جميعا هو اصطناع الإطار القصصي في أشعارهم وخلع المجتمع لهم بسبب تمردهم وعصيانهم لما يقتضيه العرف والعادة، الشيء الذي جعل شعرهم يمضي في تأكيد مقاربتهم المتفردة للذات والعالم، المنتصرة أولا وأخيرا لمبدإ الحرية والحياة.
- المصادر والمراجع:
- بالعربية
- مراجع قديمة
- ديوان ابي نواس، تحقيق عبد المجيد الغزالي، دار الكتاب العربي –بيروت 1992.
- الديوان تحقيق وشرح إسكندر آصاف، دار العرب للبستاني، مصر 1992
3– أبو نواس، النصوص المحرمة، تحقيق جمال جمعة ط1ـ ، رياض الريس للكتب والنشر لندن 1994
4- أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، المجلد 18 و 20 تحقيق عبد الستار أحمد فراج دار الثقافة، بيروت 1959
5- ابن منظور، أخبار أبي نواس، تاريخه، نوادره، شعره ومجونه، شرحه وضبطه محمد عبد الرسول إبراهيم، عني
بجمعه ونشره عباس الشربيني، السفر الأول، مطبعة الاعتماد، مصر1924.
6- ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، الجزء الأول ، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، دار الرشاد الحديثة،
البيضاء. ب.ت.
7-مهلهل بن يموت بن المزرع ، سرقات أبي نواس، تحقيق وشرح محمد هدارة، ط. 1، دار الفكر العربي، مصر 1957
8 – القاضي الجرجاني،الوساطة بين المتبني وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- مطبعة عيسى البابي الحلبي
وشركاه، القاهرة 1945.
2-1- مراجع حديثة
1- أدونيس، مقدمة للشعر العربي، الطبعة الثالثة، دار العورد، بيروت 1979.
2-أدونيس، الثابت والمتحول، ج. 2، الطبعة الثالثة، دار العودة، بيروت،1982
3 – إيليا حاوي، فن الشعر الخمري وتطوره عند العرب، دار الثقافة –بيروت، ب.ت..
4- حسين الواد، تدور على غير أسمائها، ، الطبعة الأولى، دار الجنوب للنشر، تانسيفت مراكش 1995.
5- عمر فروخ،أبونواس، دار الكتاب العربي الطبعة الأولى بيروت 1988
6– عبد الفتاح كليطو، المقامات: السرد والانساق الثقافية، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر،
البيضاء 1993
7- كمال أبو ديب ، في الشعرية، الطبعة الأولى، مؤسسة الأبحاث العربية-بيروت 1987.
8- سامي سويدان، في النص الشعري العربي: مقاربات منهجية، الطبعة الأولى، دار الآداب، بيروت 1989.
9- ساسين عساف، الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نواس، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1982
10- سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي، البيضاء 1989
11- يمنى العيد، تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، ط1، دار الفارابي 1990
- بالفرنسية
1-Jean chevalier, Alain Gheerbrant,Dictionnaire des symboles, éd. Robert Laffont/Jupiter, Paris
2- Jamel Eddine Bencheikh, Poétique Arabe, éd. Anthropos –Paris 1975.
3- Jamel Eddine Bencheikh, Abu Nuwas, in Encyclopedia Universalis, France S.A. 1989.
4-Jean Yves Tadié Le récit poétique P.U.F, 1
([1]) عمر فروخ، أبو نواس، دار الكتاب العربي الطبعة الأولى بيروت 1988ص. 79.
([2]) الأصفهاني، الأغاني، المجلد العشرون تحقيق عبد الستار أحمد فراج دار الثقافة، بيروت 1959ص. 293 ـ 294.
([3]) ابن منظور، أخبار أبي نواس: تاريخه، نوادره، شعره ومجونه، شرحه وضبطه محمد عبد الرسول إبراهيم، عني
بجمعه ونشره عباس الشربيني، السفر الأول، مطبعة الاعتماد، مصر1924.ص. 54 و59.
([4]) المرجع السابق، نفس الصفحات.
([5]) أبو نواس، الديوان ، تحقيق عبد المجيد الغزالي، دار الكتاب العربي –بيروت 1992.ص. 111.
([6]) أدونيس، الثابت والمتحول، ج. 2، الطبعة الثالثة، دار العودة، بيروت، 1982، ص. 115.
([13]) سامي سويدان، في النص الشعري العربي: مقاربات منهجية، الطبعة الأولى، دار الآداب، بيروت 1989ص. 49.
([16]) الديوان تحقيق وشرح إسكندر آصاف، دار العرب للبستاني، مصر 1992، ص. 315.
([17]) ساسين عساف، الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نواس، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1982ص. 143.
([18]) الديوان، تحقيق الغزالي، ص. 118.
([21]) ابن رشيق، العمدة، ج. 1، م. س، ص. 207 (التسطير من عندي).
([23]) الديوان، تحقيق وشرح اسكندر آصاف.ص. 264.
([24])Jean chevalier, Alain Gheerbrant: Dictionnaire des symboles, éd. Robert Laffont/Jupiter, Paris 1982, Matière : « Lumière ».
([26]) الديوان، تحقيق الغزالي ، ص. 188.
([27]) لم يسلم أبو نواس من الاتهام بالسرقة خاصة في خمرياته، وفي هذا الصدد ألف مهلهل بن يموت بن المزرع كتابا أسماه “سرقات أبي نواس” وكان فيه شديد التعصب على أبي نواس إذ رماه بالسرقة في الألفاظ وفي تشابه موضوع الأبيات وفي أسماء الأماكن والبقاع وحتى في مجرد تشابه الكلمات. أنظر مؤلفه تحقيق وشرح محمد هدارة، ط. 1، دار الفكر العربي، مصر 1957.
([28]) أنظر رد الجرجاني على مهلهل بن يموت فيما يخص اتهام هذا الأخير لأبي نواس بسرقة هذا البيت، القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتبني وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة 1945ص. 211.
([34]) “في التقليد الإنجيلي الخمر هي بدءا علامة ورمز للفرح”، أنظر : Dictionnaire des symboles, op. cit., Matière : Vin.
([38]) أدونيس، مقدمة للشعر العربي، الطبعة الثالثة، دار العودة، بيروت 1979، ص. 39 و52.
([48]) حسين الواد، تدور على غير أسمائها، ، الطبعة الأولى، دار الجنوب للنشر، تانسيفت مراكش 1995 ص. 104.
([49]) “قال الحسن بن علي الرياحي : قال لي الرباشي ذات يوم وقد خلا مجلسه : أنشدني قصيدة أبي نواس التي أولها : أيا دارها بالماء حتى تلينها فقلت له : ما أحفظها. فقال : ويحك ! بصري، شاب، متأدب، متغزل، يسأل عن شعر شاعر مصره ورئيس عصره فيذهب عنه ؟ والله إني لفي سن جدك وإني لأفكه نفسي في اليوم مرات بها وبأشباهها من شعره” عن ابن منظور، أخبار أبي نواس، م. س، ص. 118.
([50]) نموذج هذا الإقصاء بامتياز الفقيه أبو بكر بن نطاحة في مساجلته مع ابن المعتز التي سيأتي ذكرها فيما سيلي.
([52]) Jamel Eddine Bencheikh, Poétique Arabe, éd. Anthropos –Paris 1975., p.163.
[60] – الديوان ص: 4-5.
[61] – المرجع السابق، نفس الصفحات.
[62] – المرجع السابق، نفس الصفحات.
[63] – نفسه ص:53.
[64] – نفسه ص:75.
[65] – نفسه ص39.
[66] – الديوان ص: 159-160.
[67] – نفسه ص:52.
[68] – نفسه ص:27.
[69] – سامي سويدان، في النص الشعري العربي، م.س ص59.
[70] – الديوان، ص163.
[71] – هذا النوع من الكناية يسميه المبرد: الرغبة عن اللفظ الخسيس، العمدة، ج1 م.س. ص313.
([72] )– النصوص المحرمة، تحقيق جمال جمعة ط1ـ 1994، رياض الريس للكتب والنشر لندن ص67و76.
([73] )– المرجع السابق، نفس الصفحات.
([74] )– على الرغم من حرص النقاد القدامى على استقلال البيت ووحدته، فإن من بينهم من انتصر لمفهوم القصيدة من حيث ترابط أجزائها كابن الأثير الذي رفض مأخذ التضمين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، جIII، تحقيق أحمد الحوفي وزميله، دار النهضة مصر 1926 ص 201)، وكذلك ابن رشيق الذي أظهر نوعا من المرونة بخصوص ترابط الأبيات الخاضعة للقالب الحكائي يقول: “ومن الناس من يستحسن الشعر مبنيا بعضه على بعض، وأنا أستحسن أن يكون كل بيت قائما بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها، فإن بناء اللفظ أجود هنالك من جهة السرد”، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، الجزء الأول ، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، دار الرشاد الحديثة، البيضاء. ب.ت.، ص261-262.
([75] )– إيليا حاوي، فن الشعر الخمري وتطوره عند العرب، دار الثقافة –بيروت، ب.ت. ص239-240.
([76] )– Jamel Eddine Bencheick, Abu Nuwas, in Encyclopedia Universalis, France S.A. 1989. P :72.
([77] )-عبد الفتاح كليطو، المقامات: السرد و الانساق الثقافية، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، البيضاء 1993ص115، وانظر كذلك كمال أبو ديب في كتابه، في الشعرية، الطبعة الأولى، مؤسسة الأبحاث العربية-بيروت 1987.ص 106-107
([80] )– سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي، البيضاء 1989، ص 169-200.
([81] )– يمنى العيد، تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، ط1، دار الفارابي 1990/ ص90، تعاملت الدراسات السردية الحديثة مع الراوي كمكون سردي شبيه بباقي المكونات، وهي بذلك تمارس القطيعة مع تصورات النقد القديم الذي كان يفسر بل يؤول العالم القصصي تأويلا مستمدا من الخارج، معبرا عن أن الراوي، يمثل الذات الحقيقية للكاتب، انظر مؤلف يمنى العيد، م.س ص:89.
([82] )– يرى جون يفز تاديي Jean Yves Tadié أن الشعر السردي شكل من أشكال الحكي، يأخذ قوة الشعر بفضل الرمز، إنه يهدي للرمز اتساع بينه فضاء وزنا، عن كتابه: Le récit poétique P.U.F, 1978, p :167.