شعر

جماليّة المعنى الأيروسي في ديوان “وشيء من سرد قليل”

كلما قرأت لفراس حج محمد أتأكد أنني أمام شخصية مبدعة، فكل عمل يقدمه يؤكد تألقه وتميزه، فبعد ديوان “وأنت وحدك أغنية”، وديوان “ما يشبه الرثاء” قلت لن يكتب فراس أفضل منهما، الديوان الأول لما فيه من تنوع وتعدد الأشكال والموضوعات والأسلوب، والثاني للتكثيف والصور واللغة التي استخدمها.


في هذا الديوان، ورغم أنه متعلق بامرأة واحدة، إلا أن لغته والطرق التي تناول فيها المرأة تجعله ديوان يُدرّس، فقدرات الشاعر فراس حج محمد على تقديم الفكرة/ الموضوع بأكثر من صورة وحالة، يعد ميزة لا نجدها إلا عند قله من الشعراء، واللافت في ديوان “وشيء من سرد قليل” أن الشاعر يتماهى مع القصيدة، وهي التي تكتبه.

من هنا  نجد مجموعة ألفاظ تشير إلى حالة التماهي بين القصيدة والشاعر، وهذا ما جعل الديوان مقنعا للمتلقي، فهو ليس مصنوعا صناعة، بل مخلوق خلقا، فالمتعة وجمالية اللغة والصورة الشعرية كلها شواهد على هذا الخلق في الديوان.


سنأخذ بعض القصائد من الديوان لتبيان ما جاء في المقدمة، يقول في قصيدة “شهية فعل الأمر”:

“ظلي هنا عندي وعندي ثرثري

سيلي على شفتي كالكأس مسكر

واطوي الحنين هناك سفر غواية

وتبتلي

وتعرفي

وتغربي

وفي ضلوعي غرغري” ص10


عندما يوجه فعل الأمر إلى الحبيب/ القريب فهذا يشير إلى رغبة واندفاع الشاعر نحو المخاطب، من هنا نجد زخم في استخدام الفعل: “ظلي، ثرثري، سيلي، اطوي، تبتلي، تعرفي، تغربي، غرغري” واللافت في هذه الألفاظ وجود تكرار للحروف فيها: “اللام في “ظلي”، الثاء والراء في “ثرثري”، التاء في “تبتلي”، الغين والراء في “غرغري”.

وهذا يشير إلى رغبة الشاعر الجامحة نحو المرأة، فمن خلال تكرار وتتابع هذه الحروف يشير إلى رغبته وحاجته إلى اللقاء/ التوحد مع الحبيبة، فالأفعال السابقة بشكلها المجرد تخدم فكرة الرغبة في المرأة والتلاقي معها، وهذا ما يجعلنا نقول إن القصيدة هي التي تكتب الشاعر، وأن الشاعر يتماهى مع القصيدة.


رغبة الشاعر المستعجلة لا تقتصر على تكرار الحروف في الالفاظ/ الأفعال فحسب، بل نجدها في الحركة السريعة أيضا:

“فاكهة الليل أناي

فجني

أنضجيني

مدي إلى يديك

تذوقيني

عرفيني مرة أخرى على طعمي

وكونيني

واختصري الطريق إلى جنوني” ص13

نلاحظ أن هناك سرعة في أفعال: “فجني، أنضجيني، مدي، تذوقيني، عرفيني، كونيني، اختصري” نلاحظ أن الأفعال متعلقة بالشاعر مباشرة، وليست كالأفعال السابقة المتعلقة بالمرأة، وهذا يشير إلى أن اللقاء تم بينهما، فأراد ان يأخذ حاجته المادية/ الجسدية من خلال: “مدي يديك، واختصري الطريق”، وحاجته الجمالية: “أنضجيني”.


وقبل المغادرة أنوّه إلى أن هناك (حشمة عند الشاعر، بحيث لم يتوغل في وصف اللقاء الذي تم بينهما، وهذا يعود إلى أنه اللقاء الأول، لكن سنجد لاحقا، كيف أنه (يتكيف) معها وينسجم، فيصف لنا مشاهد متعددة ومتنوعة عن هذه اللقاءات.

هناك أشكال أخرى تشير إلى  الرغبة والحاجة للحبيبة، تتمثل في استخدام صيغة المثنى:

“تعالي كي أعد أصابعك

عشرين مرة

ستا وعشرين سنة

وأزرع بين نهديك الصغيرين

بين كل خليتين

عبارتين


ووردة وقصيدة وحروف باء” ص16

نلاحظ صيغة المثنى في: “نهديك، الصغيرين، خليتين، عبارتين”، وهذا يعكس  رغبة الجمع بينهما، كما أن اللغة البيضاء: “أزرع، خليتين، وردة، قصيدة، حروف الباء” التي جاء بها المقطع يشير إلى حالة التماهي بين الشاعر والمرأة، فاستخدامه لعناصر الفرح الطبيعة: “وأزرع، ووردة” والكتابة: “عبارتين، حروف، الباء” يؤكد أنه يتماهى مع الحبيبة. كما أن استخدامه للصورة الشعرية والإيحاءات الجنسية تؤكد تلك الرغبة الجامحة عند الشاعر:

“…للصدى الممتد عند الدغدغة

واستقيمي في متون الآه عند إشباع الفراغ لتلك المحبرة

مبيضّة وحليب ماء” ص16

فالجميل في هذا المقطع أن الشاعر يستخدم لفظ “الدغدغة” الذي يعطي معنى الإثارة، وأيضا الشكل الذي قدمه فيه، وتلاقي وتتابع حرفي الدال والغين، يخدم المعنى الذي يريده الشاعر، وبهذا يمكن للمتلقي أن يصل إلى الفكرة بأكثر من طريقة، المضمون، وشكل اللفظ، وطريقة لفظ لفظه/”الدغدغة”.

وإذا ما عدنا إلى المقطع سنجد أن هناك إيحاء باللقاء الجسدي بينهما: “الآه، المحبرة، مبيضة، حليب، ماء” وهذا أحد الأشكال المتعددة التي سيتناول بها الشاعر اللقاءات التي تمت بينهما.

في قصيدة “مواجد في وحدتي البعيدة” يقدم الشاعر رغبته بطريقة جديدة:

“إن عدت لي عدت إليك

تلم الزهر عن كتفي

خمرتي معصورة في شفتيك

وينقر طيرك الذهبي سنبلتين من جسدي

تمسدني بدفء يديك

إن عدت أنبت من جديد غابة لتفيء فيّ

تجعلني كونا يفيء إليكِ

إن عدت لي عدت إليّ امرأة كونية

يروي كأسها ولهي عليكِ

إن عدت لي لن أعود سوى إليّ” ص29

نلاحظ أن هناك ألفاظاً مكررة: “عدت/ أعود” سبع مرات، وهذا الرقم لم يأت بتخطيط/ بقصد من الشاعر، وهذا ما يجعلنا نميل إلى أن عقله الباطن هو من (يُلقنه الألفاظ) ويكتبه، فتكرار اللفظ سبع مرات يشير إلى الرغبة المستديمة والدائمة التي يريدها الشاعر، كما أن تكرار “تفيء/ يفيء” بصيغة المؤنث والمذكر يخدم فكرة الرغبة باللقاء، ووجود معنى للمثنى في: “كتفي، شفتيك، يديك” وصيغة المثنى في: “سنبلتين، تمسدني، كلها تشير بطريقة غير مباشرة إلى الرغبة والحاجة للقاء.

يتقدم الشاعر  من المرأة أكثر، بحيث (يصرح) عن فحوى اللقاء بينهما في قصيدة: “الحب ليس هذا الذي في القصيدة”:

“يا جنة القلب الشهية قربي شفتي إلى شفتيك

تذوقي لغتي وغني لي

واعجني جملي برضاب شهدك

يا جنتي وحبيبتي عرفي شغفي إلى معراج عشقك

هناك الغيم يعصرني كؤوسا

تشتهيك ثمالة من طعم تغرك    


أتجدد في نهرك الرقراق مثل قطرة

فهلا جريت في دمي كشهوة مستفيضة؟

أحبك أبتها السائلة المرأة المرآة

أرى نفسي

أذوب في شفتيك قبلة من وجع

يمسني جلدك الشفاف

عطرك اللانهائي يحيي  شهقتي على بتلات وردك” ص101

إذا ما توقفنا عند هذين المقطعين سنجد أن هناك  حرف الشين  مكون أساسي في مجموعة ألفاظ: “الشهية، شفتي، شفتيك، شهدك، شغفي، عشقك، تشتهيك، كشهوة، شفتيك،  الشفاف، شهقتي” وهذه الألفاظ بمعناها المجرد تخدم فكرة الإثارة الجسدية، وتفتح باب الشهوة عند المتلقي، هذا من جهة، ممن جهة أخرى شكلها وطريقة كتابتها يثير الغريزة ويفجرها في القارئ، وإذا أخذنا المعنى العام للمقطعين، نكون أمام مجموعة مثيرات تخدم الفكرة التي يطرحها “فراس حج محمد”.

كما أن التواصل بين الألفاظ والمعنى يخدم فكرة حميمية اللقاء: “لغتي/ غني/  جملي/ رضاب” كل هذه الألفاظ متعلقة باللغة وطريقة لفظها، كما أن ألفاظ: “الغيم/ يعصرني/ كؤوسا/ ثمالة/ طعم” متعلقة  بما يُشرب، وهذا يخدم فكرة  كمال الوصال/ اللقاء الذي تم بينهما.


هذا فيما يتعلق بالمقطع الأول، أما بخصوص المقطع الثاني، فالشاعر يركز على حالة الرقة/ الشفافة/ الناعمة التي نجدها في ألفاظ:  “الرقراق، السائلة، أذوب، الشفاف، بتلات”، وأيضا نجد صفات/ حالات الماء في: “الرقراق، قطرة، جريت، مستفيضة، السائلة، الشفاف”، وهذا أيضا يخدم فكرة الحلول/ التماهي بين الشاعر والمرأة، فأراد من خلال استخدام حالات/ صفات الماء أن ينساح/ يمتزج بها ومعها، بحيث لا يفترق/ ينفصل عنها.

يتقدم الشاعر أكثر نحو التصريح/ متجاوزا (خجله) فيقدم قصيدة أيروسية. يقول في قصيدة “المس الجنوني للمعنى الدقيق من الكتابة”:

“… أشتهي رش عطر الياسمين على جذوعك

أتسلق أيمنك العرفجيّ

أشعل أيسرك العاطل من حمالة الصدر

أفتح ثغرة في السد

تغلغلها الألف الطليقة

وأحضن مثل زر الورد وردتك اللطيفة

وأمطر مثل غيم الله ماء كوثري الطعم في أرض شفيفة

وأكتب أسفل النهدين تحت السرة السراء


آياتي الطريفة” ص122 و123

في هذا المقطع نجد اللقاء الجسدي: “حمالة الصدر، أفتح ثغرة، تغلغلها الألف الطليقة، وأحضن زر الورد، وأمطر، تحت السرة” لكنه قدم ذلك بصيغة أدبية، وهذا ما أضفى عليه لمسة جمالية، فرغم أن الفكرة جنسية، إلا أن طريقة تقديمها لم تكن (فاجرة).

فالصبغة الشعرية  أبقت القصيدة محافظة على جمالها الأدبي، بحيث لا يشعر القارئ بالاشمئزاز من فكرة اللقاء الجسدي. فهذا المزج  بين فكرة (قاسية/ محرجة) واللغة وطريقة تقديمها تحسب للشاعر الذي جمع بين متناقضين، فكرة محرجة وصيغة أدبية.

وبهذا يكون الشاعر “فراس حج محمد” قد قدم أكثر من صورة وشكل  للقاء المرأة، فمرة نجده محتشما/ عذرياً، وأخرى يتجاوز خجله، وفي غيرهما أقرب إلى الإباحية، الأيروسية، كل هذا دون أن يفقد جمالية القصيدة، أو أن يتخلى عن  الشاعرية فيما يقدمه.


* الديوان من منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، الطبعة الأولى، 2021.

رائد الحواري

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى