تجارب في الإبداع والخلق والتفاعلي
انطلاقاً من طبيعة الأدب التفاعلي التشاركية يصبح الأدب مشاعاً دون مؤلف نهائي، وعبر هذه الخاصة استحدثت مسارات أخرى للعملية الإبداعية برمتها، من حيث عملية الخلق وكذا التلقي، فلم يعد النص موجّها في مسار واحد، فقد أخذ مع التفاعلية مسارات متعددة، والأدوار فيه اختلفت وتباينت، ولم يتمكّن هذا الشكل الجديد من العرض الأدبي من الوصول إلى خصائصه التفاعلية الإيجابية إلا عبر توظيفه/تأثره بالتقنيات الرقمية، وقد عملت عبر تسارع تطوّرها على منح الأدب أبعاداً مختلفة على مستوى إبداعه وكذا تلقيه.
فالتقنية الحاسوبية/الرقمية جعلت لغة الأدب تتعدّد وخياراته تزيد، وهو ما أثّر على البعد الجمالي في النص الأدبي بداية، ثم على عملية مروره للمتلقي، هذا إضافة لمنحه المتلقي إمكانات هائلة للإضافة والتعديل على النص التفاعلي خصوصاً في شكله المتفرّع الإيجابي. بناء على ما تقدّم نحن أمام طبيعة أخرى في الكتابة الأدبية في ظل التقنية الرقمية، فعبر البرمجيات يمكن جعل النص يتكلّم ويسبح في الألوان ويرقص على الإيقاعات المختلفة.
إن التقنية الرقمية بعثت روحاً جديدة في النص الأدبي لم يكن له سبيل قبلها. وسأحاول خلال هذه الأسطر تتبّع فعل الكتابة التفاعلية (أثناء الإنتاج) وأثر التقنيات الرقمية في بنائها بكيفيات خاصة، كما سأبحث في عملية تلقيها وإنتاجها مرة أخرى، لكون المسافة بين الإنتاج والتلقي أصبحت معدومة. سأنطلق في الدراسة من إشكالية عامة حول أثر التقنيات الرقمية الحاسوبية على عملية الإبداع في الكتابة الأدبية التفاعلية.
ستؤسس الدراسة مسارها على تجربة خاصة في الأدب التفاعلي من خلال مدونتي: الأدب والفن التفاعلي على الرابط:
https://www.litartint.com
حيث تحوي عدداً من الأجناس التفاعلية قمت بوضعها كأنْوية أولى (الرواية- الشعر- المسرح…) وعبرها أقوم بفعل الإبداع ورصد عمليات التفاعل وإنتاج النص المشترك.
- مدخل إلى عالم الأدب التفاعلي
ببساطة يمكن الانطلاق من أن الأدب المنتج والموجّه عبر الوسيط الإلكتروني، يعد أدباً تفاعلياً، وهو في جوهره أدب لكنه متّحد بالتقنيات الرقمية مما يتيح له الخروج عن البعْد اللغوي مستثمراً كل الطاقات التعبيرية والرمزية في العلامات غير اللغوية كالصور والأصوات والألوان.. وغيرها مما تتيحه الوسائل الرقمية كمساند للنص اللغوي، وأحياناً كعنصر رئيس في النص/العرض. بهذا يتكوّن العمل الأدبي في مجال التفاعلي/الرقمي من مكوّنات مختلفة تعتبر مقوّماته بعضها متعلق بالوسيط وبعضها بطبيعة بناء النص في حد ذاته والخيارات الجمالية، ويمكن إجمال مختلف المقومات البنائية للنص الأدب التفاعلي في المخطط الآتي:
تتفاعل مختلف هذه المقومات مقدّمة النص في حلّته التفاعلية الإيجابية التي تمكّن المتلقي من الإضافة والتعديل على النص النواة، وهنا يتم التركيز على شكل النص المفرع/ المترابط بنسقه الإيجابي لتحقيق أعلى درجات التفاعلية الإيجابية حيث يصبح المتلقي مشاركاً فاعلاً في البناء النصي وليس مجرّد متلقٍ سلبي.
ومن هنا ظهرت أهم ميزات الأدب التفاعلي في أنه يعطي المتلقي مساحة قد تفوق مساحة المبدع الأول للنواة، كما لا يعترف بالبدايات والنهايات، ويُسقط الملكية على النصوص، وجميع هذه الميزات رغم بريقها إلا أنها تشكل نوعاً من الخطورة عن ظاهرة الإبداع في عمومها وجمالية التلقي، حيث لا يمكن ضبط حدود تلك الحرية وعمّا ستسفر، لهذا فالأدب التفاعلي لا يزال يخطو بحذر في مجال البناء وبعْث النصي جمالية جديدة يحاول تشكيلها تدريجياً في مخيال العربي.
عبر قراءة الساحة الأدبية في مجال الإنتاج الأدبي التفاعلي يمكن رصد عدة مستويات لدراسة الموضوع، سأحاول التركيز في أحدها وهو آليات بناء هذا النص/الخطاب في ظل التقنيات الرقمية، لأن ما يهمنا في هذه المرحلة عمليات الإنتاج النصي ومقوّماتها وآليات تركيبها وإخراجها، وكل هذا سيجعلنا نتجاوز مرحلة التأسيس المصطلحي وصراع الترجمات والمفاهيم حول الأدب التفاعلي.
إن المرحلة التي نعيشها اليوم تحتاج فعلاً للتجربة في الميدان الإبداعي وما قد يرافق ذلك من تنظير وتأسيس لخطى هذا الفعل الإبداعي، وهو ما قمت به من خلال تجربتي حول الأدب والفن التفاعلي، حيث أنشأت مدوّنة خاصة حاولت -ولا زالت- تقديم أهم المعايير الإيجابية حول الإنتاج الأدبي التفاعلي، حيث قدّمت من خلالها أجناساً تفاعلية كثيرة، منها ما هو معروف من قبل ومنها ما قدّمته كتجربة أولى في المجال وقد جاءت الأقسام كالتالي:
الرواية التفاعلية- الشعر التفاعلي- المسرح التفاعلي- المقامة التفاعلية- الفيلم التفاعلي- أدب الأطفال التفاعلي..
وفي كل قسم قمت بوضع نواة أدبية تفاعلية من ذلك الجنس من تأليفي الخاص، لتكون لبنة أولى في الإنتاج النصي.
مثلاً: بعد الضغط على الرواية التفاعلية ندخل للتجربة الأولى:
بعد الضغط على أيقونة الرواية ندخل للفصول:
ومن خلال الاختيار الحر لأي فصل ندخل في لعبة النص، وتستمر العملية في التوالد عبر الدخول من رابط إلى آخر وتكون القراءة حرّة واختيارية كما تمنح المتلقي فواصل خاصة للإضافة كما سنرى.
أما عن عملية الإعداد فهي تزاوج بين العمل التقني والفني الأدبي، حيث قمت بكتابة الأنوية النصية ببرنامج (Word) وهنا عملية الكتابة مختلفة عن الورقي، فهي لا تضع في حسبانها ثنائية البعْد إنما كتابة وفق تعدد الأبعاد، وهي غير منتهية بنيّة دمجها في الكيان النصي/الخطابي الجديد. بعد هذه العملية يأتي دور البرنامج المستخدم في تقديم النص ودمجه بالوسائط المتعددة.
انطلاقاً مما تقدّم يظهر أن عملية إنتاج النص التفاعلي تضم مقوّمات محدّدة فيها الجانب اللغوي وغير اللغوي والبرمجي والتفاعلي (خاص بالملتقي/المنتج) وتعمل في مجملها على التفاعل الداخلي والبيني مقدّمة لنا نصاً منفتحاً وفي حالة إنتاج دائم ومستمر.
سأقدّم في ما يلي جانباً من تجربتي في المجال وهو خاص بأحد الأشكال التفاعلية وهو رواية (الزنزانة رقم 06) وهي منشورة مع غيرها من إنتاجي التفاعلي على الرابط التالي:
https://www.litartint.com/2018/11/blog-post.html
أثناء عملية الإنتاج بداية يظهر شكل البلوجر بعد فتح الحساب بالشكل التالي:
تظهر أيقونات كثيرة لكل منها وظيفة، منها ما هو خاص بالكتابة وأخرى بإضافة الصورة وثالثة للفيديو وأخرى للروابط التشعبيّة.. وهنا يضع المبدع في فضائه البرمجي كل المعطيات ويبدأ في عملية الربط وفق رؤية فنية محدّدة، ثم يعتمد المشاركة بحفظها، بعدها يقوم بعملية النشر لتستقل عن التحرير مؤقتاً وتسافر في الفضاء الأزرق، مثلاً في بناء فصول الرواية اعتمدت على هندسة معيّنة في الاختيار والربط كما اخترت أشكالاً خاصة تمت صناعتها ببرمجيات محددة (كالفوتوشوب/ Photoshop) لتظهر بالشكل المعروض في الصفحة.
كما يتم إنشاء الصفحات باعتبارها مشاركات جديدة، ثم أقوم بربطها تشعبياً مع مواضع محددة في النص لتصبح النصوص في شكل شبكي كل منها يمر إلى الآخر وبإمكان المتلقي البداية من أي منها، لأنه لا توجد بداية واحدة ولا نهاية للعمل.
إضافة لما تقدّم حول البناء نجد المدونة تمنحنا إمكانات كبيرة في التحكم والأمان والسرعة، مع معلومات إحصائية دقيقة لمختلف متغيّرات المتلقين مثلاً:
من خلال الصفحات الإحصائية يتم الكشف عن معطيات كثيرة تساهم في الترويج للنص التفاعلي، ومن جهة أخرى تقدّم صورة دقيقة عن الحركية التفاعلية في مختلف دول العالم، كما نشير إلى وجود مؤشرات برمجية أخرى كثيرة يمكنها الكشف عن طبيعة المتفاعلين من حيث، الجنس- العمر- الاهتمامات.. وغيرها من المعلومات التي تساعد على ضبط مسارات النص التفاعلي.
لكن رغم ما تمنحه المدوّنة من إمكانات هائلة للمتلقي في إثراء النص، وما توفّره للنص التفاعلي ذاته من وسائط متعدّدة إلا أن خطورة تحوّل البناء النصي من الورقي إلى التفاعلي تظل قائمة خصوصاً في الجانب الجمالي، فالذوق قد يتغيّر بتغيّر أنماط البناء، فبعْد أن كانت فضاءات النص ثنائية البعد في البناء وتلقيها وفق ذلك يسير في اتجاه واحد، أصبحت متعددة الأبعاد (البعد الثالث والرابع/الزمن) وهنا يُصبح التلقي الجمالي مختلفاً فلا يسير في اتجاه واحد، وهو ما سيولّد جماليات أخرى بالضرورة، ولا ندري مدى خطورتها على الذائقة العامة، لهذا لا بد من الحذر في التعامل مع النص التفاعلي، فهو نص موجّه للذائقة، وعبر انتشاره السريع وغير المحدود أو المشروط يُصبح أكثر فعالية وتأثيراً، مما يجعله سلاحاً ذا حدين.
د. حمزة قريرة: الجزائر