الاستثنائية الأمريكية ونشأة فكرة “الرسالة الحضارية”
شكّلت “الاستثنائية الأمريكية” إحدى الركائز الفكرية والسياسية التي بُنيت عليها مشاريع التوسع والهيمنة للولايات المتحدة منذ نشأتها. فهي ليست مجرد شعار سياسي، بل منظومة فكرية متجذّرة، تزعم امتلاك أمريكا لرسالة عالمية فريدة، تُخوّلها التدخل في شؤون الشعوب الأخرى، وقيادة العالم نحو نموذجها الخاص من “الحرية” و”الديمقراطية“.
تسعى هذه الورقة إلى تفكيك مفهوم الاستثنائية الأمريكية من حيث الجذور التاريخية والدينية والسياسية، وتحليل كيف تطورت هذه الفكرة لتبرير سياسات الهيمنة والتدخل، مستعرضة المسار الذي حول “الرسالة الحضارية” إلى عقيدة استراتيجية ذات امتدادات خطيرة في العلاقات الدولية.
- الجذور التاريخية والدينية لفكرة الاستثنائية
يُعزى ظهور مفهوم الاستثنائية الأمريكية إلى بدايات الاستيطان الأوروبي في القارة الأمريكية، خاصة مع خطبة القس جون وينثروب عام 1630 التي تحدث فيها عن “مدينة على جبل” (City upon a Hill)، في إشارة دينية توراتية تصور المجتمع الأمريكي كمجتمع مختار يُحتذى به.
وقد ترسّخت هذه الرؤية الدينية في العقل السياسي الأمريكي، مدفوعة بتقاليد البروتستانتية الإنجيلية، التي رأت أن “الخلاص” مرتبط بالحرية الفردية والسعي الاقتصادي، وهي مفاهيم ارتبطت لاحقا بالقيم الليبرالية.
- الاستثنائية في الفكر السياسي الأمريكي
في القرن التاسع عشر، بدأت فكرة الاستثنائية تأخذ بعدا سياسيا واضحا مع مبدأ مونرو (1823)، الذي أكد على استقلالية القارة الأمريكية عن التأثيرات الأوروبية، وتضمّن نَفَسا تفوقيا يُخوّل الولايات المتحدة قيادة نصف الكرة الغربي.
لاحقا، ظهرت “عقيدة المصير المُقدّر” (Manifest Destiny)، التي جسّدت القناعة بأن التوسع الأمريكي كان قَدَريا، بل “واجبا أخلاقيا”، ما مهد لغزو أراضي السكان الأصليين، وضمّ أراض من المكسيك، ثم الانخراط في الحروب الخارجية.
- التحول من “الرسالة” إلى استراتيجية هيمنة
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهور الولايات المتحدة كقوة عظمى، تم توظيف الاستثنائية لتبرير التدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة. أصبحت “الحرية” و”الديمقراطية” غطاء إيديولوجيا للسياسات التوسعية، وتم تصوير الحروب الأمريكية في فيتنام، وأفغانستان، والعراق، كـ”بعثات تحررية” لحماية العالم من الاستبداد أو الإرهاب.
- “عقيدة بوش” بعد أحداث 11 سبتمبر
جسدت خطابا استثنائيا واضحا، حيث وُصفت الولايات المتحدة بأنها “قوة خير”، تملك الحق في التدخل الوقائي، وتغيير الأنظمة بالقوة إن تطلب الأمر، ما مثّل إعادة إحياء للاستثنائية في ثوب عسكري-إمبراطوري صريح.
- نقد المفهوم في الفكر الغربي والعالمي
تعرضت فكرة الاستثنائية لانتقادات واسعة من مفكرين أمريكيين وغربيين، على رأسهم المؤرخ هوارد زن والفيلسوف نعوم تشومسكي، اللذان رأيا فيها أداة لشرعنة الإمبريالية. كما بيّن العديد من الدراسات أن الاستثنائية أدت إلى تجاهل القانون الدولي، وانتهاك سيادة الدول، وزرع أنظمة دكتاتورية موالية.
- خلاصة:
الاستثنائية الأمريكية ليست مجرد سردية ذاتية تفاخُرية، بل هي إطار فكري-استراتيجي شكّل مبررا طويل الأمد لسياسات الهيمنة الأمريكية. من المهم اليوم إعادة تفكيك هذه المنظومة، وفهم أبعادها الحقيقية، في ظل عالم يتجه نحو التعددية، ويبحث عن توازن يعيد الاعتبار لكرامة الشعوب واستقلالها.
- مصادر ومراجع:
-
Mead, Walter Russell. Special Providence: American Foreign Policy and How It Changed the World. Routledge, 2002.
- Lipset, Seymour Martin. American Exceptionalism: A Double-Edged Sword. W.W. Norton, 1996.
- Chomsky, Noam. Hegemony or Survival: America’s Quest for Global Dominance. Metropolitan Books, 2003.
- Zinn, Howard. A People’s History of the United States. Harper Perennial, 2005.
- Bacevich, Andrew J. The Limits of Power: The End of American Exceptionalism. Metropolitan Books, 2008.
-
Pease, Donald E. The New American Exceptionalism. University of Minnesota Press, 2009.