الولايات المتحدة والعالم: تاريخ الهيمنة والتدخل

الغزو الأمريكي لجمهورية الدومينيكان: بين “الردع الوقائي” ومأسسة الهيمنة

يشكّل الغزو الأمريكي لجمهورية الدومينيكان في أبريل 1965 واحدة من أبرز محطات التدخل العسكري الأمريكي في النصف الغربي من الكرة الأرضية خلال الحرب الباردة، ويكشف عن منطق “الردع الوقائي” الذي اعتمدته واشنطن في مواجهة المدّ الإصلاحي والوطني في أمريكا اللاتينية.

لم يكن هذا التدخل معزولا أو طارئا، بل امتدادا مباشرا لنمط استراتيجي يعود إلى بدايات القرن العشرين، حين أصبحت منطقة الكاريبي ساحة اختبار لسياسات الهيمنة الأمريكية، تحت ذرائع الاستقرار والأمن ومكافحة الشيوعية.

  • أول الاحتلالات: تأسيس النموذج (1916–1924)

دخلت القوات الأمريكية جمهورية الدومينيكان لأول مرة عام 1916، في سياق أزمة سياسية واقتصادية خانقة، وانهيار في مؤسسات الدولة، وعجز في سداد الديون الخارجية، خاصة للبنوك الأمريكية.

أهداف الاحتلال الأول:

  • حماية الاستثمارات والمصالح الأمريكية، خصوصا في قطاع السكر والمصارف.
  • الحيلولة دون تدخل القوى الأوروبية، في ظل التنافس الإمبريالي العالمي.
  • تأمين السيطرة البحرية على الممرات الاستراتيجية في البحر الكاريبي.

النتائج المباشرة:

  • حلّ البرلمان وتعيين حاكم عسكري أمريكي.
  • تأسيس جيش وطني جديد بإشراف أمريكي.
  • تعديل البنى القانونية والضريبية لخدمة الشركات الأمريكية.

مآلات الاحتلال:

انسحبت القوات رسميا عام 1924، بعد فرض نظام سياسي موال بقيادة هوراسيو فاسكيز، وبقي النفوذ الأمريكي متغلغلا في الهياكل السياسية والعسكرية.

لقد أرست هذه التجربة الأولى نموذجا أميركيا متكرّرا في التعامل مع جمهوريات الكاريبي: التدخل بالقوة لفرض الاستقرار على مقاس واشنطن.

  • السياق التاريخي للغزو الثاني: ما بعد تروخيو

بعد اغتيال الديكتاتور رافائيل تروخيو عام 1961، دخلت البلاد مرحلة انتقالية هشة:

  • شهدت أول انتخابات ديمقراطية عام 1963 فاز فيها الإصلاحي خوان بوش، الذي تبنّى برنامجا تقدميا يستهدف إصلاح الجيش، وتوسيع الحريات، وإعادة توزيع الثروة.
  • أُطيح ببوش في انقلاب عسكري بعد سبعة أشهر فقط، بدعم غير مباشر من واشنطن.
  • في أبريل 1965، اندلع تمرد شعبي مسلح يقوده “الدستوريون”، مطالبين بعودة بوش والدستور.

فوبيا كوبا ثانية:

أثار الوضع قلق إدارة ليندون جونسون التي رأت في الأحداث تهديدا استراتيجيا قد يُفضي إلى ظهور “كوبا جديدة”. وقد لخّص جونسون الأمر بقوله:

“لن نسمح بقيام كوبا أخرى على بعد 500 ميل من فلوريدا.”

  • تفاصيل الغزو الأمريكي: عملية “Power Pack”

في 28 أبريل 1965، أنزلت الولايات المتحدة أكثر من 22,000 جندي في سانتو دومينغو، في أكبر تدخل عسكري أمريكي في أمريكا اللاتينية منذ الحرب ضد المكسيك عام 1846.

الذرائع المعلنة:

  • حماية الرعايا الأمريكيين.
  • منع الفوضى وضمان سلامة المدنيين.
  • الحفاظ على “الاستقرار الإقليمي”.

الحقيقة الخفية:

لم يكن الهدف مجرد استجابة أمنية، بل منع القوى الإصلاحية من الوصول إلى الحكم، وتثبيت حكومة موالية لواشنطن. رغم أن قادة التمرد لم يكونوا شيوعيين، فإن وزير الدفاع روبرت ماكنامارا اعتبرهم تهديدا محتملا في إطار ما أسماه:

“منع ظهور فيدل كاسترو جديد.”

التداعيات والنتائج السياسية

رغم انسحاب القوات رسميا عام 1966، فإن التدخل الأمريكي أسفر عن:

  • فرض تسوية سياسية قسرية جاءت بـ خواكين بالاغير إلى السلطة، وهو حليف سابق لتروخيو.
  • إقصاء القوى الإصلاحية بالكامل وتصفية الحراك الدستوري.
  • إنهاء أي أمل في استئناف التجربة الديمقراطية القصيرة التي قادها خوان بوش.

وقد اعتبر المؤرخ Piero Gleijeses هذا التدخل:

“اغتيالا أمريكيا لفرصة نادرة لتحقيق الديمقراطية في الكاريبي.”

الإطار النظري: بين العقيدة والسيطرة

  • مبدأ مونرو (1823):

أُعيد توظيفه لتبرير التدخلات الأمريكية باعتبار أن أي نفوذ أجنبي في النصف الغربي يُعد تهديدا لأمن الولايات المتحدة.

  • عقيدة جونسون (1965):

أسّست لمنظور جديد للتدخلات الاستباقية، يبرر استخدام القوة لحماية “الاستقرار” حتى في مواجهة تهديدات افتراضية.

الهيمنة الإيديولوجية (أنطونيو غرامشي):

تم تسويق التدخل العسكري عبر خطاب “الدفاع عن الحرية” و”حماية المدنيين”، في حين جرى سحق الخيار الشعبي والديمقراطي تحت شعارات موجهة إعلاميا.

موضع الغزو في استراتيجية الهيمنة الأمريكية

يتكامل هذا التدخل مع نمط مستقر من سياسات واشنطن في أمريكا اللاتينية:

النمط أمثلة
الانقلابات تشيلي (1973)
التدخلات العسكرية المباشرة بنما (1989)
الحصار والعقوبات كوبا، نيكاراغوا

تحليل استراتيجي:

  • نموذج للإمبريالية الوقائية: يسعى لإجهاض أي مشروع سياسي بديل خارج الهيمنة الأمريكية.
  • يتقاطع مع مفهوم الهيمنة البنيوية (Robert Cox): إذ لا تكتفي أمريكا بالسيطرة العسكرية، بل تعيد هندسة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدول المستهدفة.

خلاصة:

منذ الاحتلال الأول عام 1916 إلى غزو 1965، تحوّلت جمهورية الدومينيكان إلى مختبر لسياسات التدخل الأمريكي في الكاريبي. كان الغزو الثاني تجسيدا حيّا لتحوّل الولايات المتحدة من قوة تدّعي الدفاع عن الديمقراطية إلى قوة تسحقها حين تتعارض مع مصالحها.

لقد شكّل هذا التدخل:

  • محطة مفصلية في تقويض مصداقية الخطاب الديمقراطي الأمريكي.
  • تأكيدا لاستعداد واشنطن لاستخدام السلاح ضد أي محاولة تحررية وطنية.
  • إعلانا عن ميلاد “عقيدة جونسون” كغطاء جديد لسياسات الهيمنة القديمة.

قائمة المراجع:

  1. Gleijeses, Piero. The Dominican Crisis: The 1965 Constitutionalist Revolt and American Intervention. Johns Hopkins University Press, 1978.
  2. Office of the Historian – U.S. Department of State – “Dominican Republic Intervention (1965)”
  3. Wikipedia – Occupation of the Dominican Republic (1916–1924)
    https://ar.wikipedia.org/wiki/احتلال_الولايات_المتحدة_لجمهورية_الدومينيكان_(1916-1924)
  4. Brands, H. W. Latin America’s Cold War. Harvard University Press, 2010.
    رابط عبر Harvard Press
  5. Rabe, Stephen G. The Most Dangerous Area in the World: John F. Kennedy Confronts Communist Revolution in Latin America. UNC Press, 1999.
    رابط مباشر
  6. وثائق أرشيف الأمن القومي الأمريكي (National Security Archive)
    https://nsarchive.gwu.edu/

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى