الغزو الأمريكي لـ”غرينادا” (1983م): نموذج على المصالح الجيوسياسية للهيمنة الأمريكية
Operation Urgent Fury
في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1983، أطلقت الولايات المتحدة عملية عسكرية أُطلق عليها اسم “الغضب العاجل” (Operation Urgent Fury)، وذلك ضد دولة غرينادا الواقعة في جزر الهند الغربية. مثل هذا التدخل لحظة مفصلية في السياسة الخارجية الأمريكية في مرحلة ما بعد حرب فيتنام، كما كشف عن تحولات استراتيجية في العقيدة الأمنية الأمريكية، وتوجهات إدارة ريغان في الصراع ضد ما وصفه بـ”التهديد الشيوعي” في محيط الولايات المتحدة المباشر. وقد مثل الغزو الأمريكي لغرينادا – التي لا تتجاوز مساحتها 344 كلم² – تدخلا عسكريا مباشرا في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة، وأسفر عن إسقاط الحكومة الثورية القائمة، وتعيين حكومة مؤقتة، تلاها إجراء انتخابات عام 1984.
- السياق السياسي والداخلي في غرينادا قبل الغزو
1. من الاستقلال إلى الثورة
استقلت غرينادا عن المملكة المتحدة سنة 1974، بقيادة رئيس الوزراء إريك غيري. إلا أن حكمه سرعان ما وُصف بالاستبدادي والفاسد، مما مهّد الطريق لانقلاب عسكري قاده موريس بيشوب، زعيم حركة الجوويل (Jewel Movement) اليسارية في عام 1979. عُلّق الدستور وتم تبنّي سياسة ثورية اشتراكية قريبة من كوبا والاتحاد السوفييتي، ما أثار مخاوف الولايات المتحدة من تحول الجزيرة إلى “قمر صناعي شيوعي” جديد في الكاريبي.
2. الأزمة الداخلية وإعدام بيشوب
شهدت البلاد أزمة داخلية متصاعدة في أكتوبر 1983، بلغت ذروتها باعتقال بيشوب وإعدامه مع عدد من قيادات الحكومة، على يد جناح متشدد داخل الجيش بقيادة الجنرال هدسون أوستين. هذا الانقسام الدموي وفر الذريعة المباشرة للولايات المتحدة للتدخل العسكري تحت مبرر “استعادة الاستقرار” و”حماية أرواح المواطنين الأمريكيين”، في إشارة إلى نحو 600 طالب طب أمريكي كانوا يدرسون في الجزيرة.
- تنفيذ العملية العسكرية
1. التحالف العسكري وهيكل القوة
تكونت قوة الغزو من نحو 7600 جندي أمريكي من مختلف الفروع العسكرية (المارينز، القوات البرية، قوات النخبة)، إلى جانب دعم رمزي من قوات تابعة لمنظمة دول شرق الكاريبي وبعض الدول الحليفة مثل جامايكا. بدأت العمليات بهجوم جوي على مطار بوينت سالينز، متبوعا بإنزال بري في مواقع استراتيجية.
2. أهداف العملية ونتائجها الميدانية
تمثلت الأهداف المعلنة في:
- حماية الرعايا الأمريكيين.
- استعادة النظام الديمقراطي.
- إحباط ما وُصف بـ”الاختراق الكوبي-السوفييتي”.
تم إسقاط الحكومة العسكرية خلال أيام قليلة، وأُعلن عن تشكيل حكومة انتقالية، تبعتها انتخابات عام 1984. وقد أسفرت العملية عن 19 قتيلا أمريكيا، وأكثر من 100 جريح، في مقابل 45 قتيلا غريناديا و25 قتيلا كوبيا، إلى جانب خسائر مدنية.
- مشروعية الغزو والتحدي القانوني الدولي
1. الادعاء الأمريكي وغطاء “الطلب الإقليمي”
برّرت واشنطن تدخلها بالاستناد إلى دعوة صادرة عن حاكم غرينادا العام، ودعم من منظمة دول شرق البحر الكاريبي. كما استشهدت بالمادة 28 من ميثاق منظمة الدول الأمريكية، معتبرة أن الوضع في غرينادا يُهدد السلام الإقليمي، مما يبرر التدخل تحت إطار “الأمن الجماعي”.
2. الرفض الدولي والإدانة الأممية
رفضت معظم دول العالم هذا التبرير، واعتبرت الغزو انتهاكا لسيادة دولة مستقلة. في 2 نوفمبر 1983، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 38/7 الذي اعتبر الغزو الأمريكي “انتهاكا صارخا للقانون الدولي”، بأغلبية 108 دول. كما أعاق الفيتو الأمريكي صدور قرار مماثل عن مجلس الأمن.
- أبعاد الهيمنة والاستراتيجية الأمريكية في الكاريبي
1. موقع غرينادا في الحسابات الجيوسياسية الأمريكية
يأتي الغزو في سياق الحرب الباردة، إذ كانت غرينادا تُعد بوابة استراتيجية مهمة في الكاريبي، خصوصا مع تشييد مطار جديد بدعم كوبي، أثار مخاوف الولايات المتحدة من استخدامه لأغراض عسكرية.
2. العقيدة الريغانية وتوسيع دائرة النفوذ
مثّل التدخل تجسيدا للعقيدة الأمنية لإدارة ريغان، والتي سعت إلى:
- منع أي حضور سوفييتي مباشر أو غير مباشر في “الحديقة الخلفية” لأمريكا.
- استعادة هيبة الولايات المتحدة بعد أزمة الرهائن في إيران و”عقد فيتنام”.
- استخدام “عمليات محدودة” لإظهار القدرة على الحسم السريع دون الغرق في حروب طويلة.
إرث الغزو وآثاره الداخلية والدولية
- داخليا: أدى الغزو إلى إنهاء التجربة الثورية في غرينادا، وأعيد تشكيل النظام السياسي تحت إشراف أمريكي.
- دوليا: شكّل الغزو سابقة لتدخلات لاحقة تحت مبررات “الاستقرار الإقليمي” أو “حماية المواطنين”، كما ساهم في دفع إصلاحات داخل الجيش الأمريكي لتحسين التنسيق بين فروعه، أبرزها قانون غولدووتر-نيكولز (Goldwater–Nichols Act) عام 1986.
خلاصة:
يُعد غزو غرينادا مثالا واضحا على استخدام الخطاب الإنساني والأمني كأداة لتبرير أجندة استراتيجية أوسع تتعلق بالهيمنة الإقليمية الأمريكية. وبينما رحّب قطاع من السكان المحليين بالتدخل، فإن مشروعيته القانونية كانت محل إجماع دولي على رفضه.
كما كرّس الحدث نمطا من التدخلات العسكرية الأمريكية في دول الجنوب العالمي تحت ذرائع متعددة، تخفي خلفها اعتبارات جيوسياسية واقتصادية.
- المراجع:
-
Dean Peter Krogh Foreign Affairs Digital Archives. Invasion of Grenada and Its Political Repercussions.
- Operation: Urgent Fury, Grenada – Naval History and Heritage Command.
- The 1983 Invasion of Grenada – U.S. Military Archives.
- Grenada: A 1984 Comic Book – Produced by the CIA for internal distribution.
- Michael Clough, Grenada: Anatomy of an Intervention, Foreign Affairs, Vol. 62, No. 1 (1983).
- Martha Honey, Hostile Acts: U.S. Policy in Costa Rica in the 1980s, Institute for Policy Studies, 1989.
- David Skidmore, Reagan’s War on Terrorism in Nicaragua: The Outlaw State, Westview Press, 1993.
- Thomas G. Paterson, Meeting the Communist Threat: Truman to Reagan, Oxford University Press, 1988.
- The United Nations General Assembly Resolution 38/7, 2 November 1983.
-
Goldwater–Nichols Department of Defense Reorganization Act of 1986.