العقيدة العسكرية الأمريكية: من مبدأ “مونرو” إلى “عقيدة بوش”
شكلت العقيدة العسكرية الأمريكية الإطار الاستراتيجي الذي نظّم تدخلات الولايات المتحدة في العالم منذ نشأتها كقوة ناشئة إلى تحوّلها إلى قوة عظمى عالمية. من مبدأ مونرو في القرن التاسع عشر، إلى عقيدة بوش بعد أحداث 11 سبتمبر، تطورت هذه العقيدة لتُعبّر عن تحولات عميقة في تصور أمريكا لدورها في العالم، ولتكون أداتها الفاعلة في فرض هيمنتها العسكرية والسياسية.
يتتبع هذا المقال تطور العقيدة العسكرية الأمريكية عبر الزمن، ويحلل كيفية توظيفها لتبرير الحروب والتدخلات الخارجية، مسلطا الضوء على البنية الإيديولوجية التي رافقت كل مرحلة، من خطاب الحماية والعزلة، إلى التدخل الوقائي وتغيير الأنظمة بالقوة.
- مبدأ مونرو وبدايات الهيمنة الإقليمية (1823)
في خطاب شهير ألقاه الرئيس جيمس مونرو عام 1823، أعلن سياسة تعتبر أن أي تدخل أوروبي في شؤون القارة الأمريكية يُعد عدوانا على الولايات المتحدة.
كان هذا تحولا جذريا في العقيدة الدفاعية الأمريكية، حيث رسّخ مبدأ الحماية الإقليمية، ورفض النفوذ الأوروبي في “النصف الغربي من العالم”.
ورغم الطابع الدفاعي الظاهري للمبدأ، إلا أنه كان إيذانا بتوسيع النفوذ الأمريكي، وتأكيدا على دور “الراعي الأكبر” لدول أمريكا اللاتينية، بما يفتح الباب لاحقا للتدخلات المباشرة.
- من “المصير المُقدّر” إلى النزعة الإمبريالية (نهاية القرن 19)
شهدت العقيدة العسكرية توسعا دينيا وقوميا مع بروز مفهوم “المصير المقدّر” (Manifest Destiny)، الذي اعتبر أن من واجب الولايات المتحدة التوسع غربا ثم خارج حدودها الطبيعية.
أبرز الأمثلة:
- حرب المكسيك (1846-1848): أدت إلى ضم كاليفورنيا وتكساس.
- الحرب الإسبانية-الأمريكية (1898): ساعدت على ضم الفلبين، وغوام، وبورتو ريكو، والتدخل في كوبا.
تحولت العقيدة العسكرية من الدفاع إلى التوسّع تحت شعار التحديث والتحرير، وهو ما يُعد الإرهاص المبكر للإمبريالية الأمريكية.
- الحرب الباردة وصياغة عقيدة الردع والاحتواء
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة في مواجهة أيديولوجية مع الاتحاد السوفيتي، مما أعاد تشكيل عقيدتها العسكرية بالكامل.
أبرز العقائد خلال هذه المرحلة:
🔹 عقيدة ترومان (1947):
- هدفها احتواء الشيوعية في أوروبا وآسيا.
- مهدت للتدخل الأمريكي في اليونان وتركيا، ثم كوريا وفيتنام.
🔹 عقيدة نيكسون (1969):
- تقييد التدخل العسكري المباشر، مع دعم الحلفاء لتدبير شؤونهم الأمنية.
- بداية لتوظيف الحروب بالوكالة.
🔹 عقيدة ريغان (1985):
- مواجهة الشيوعية في أمريكا الوسطى وأفغانستان.
- دعم الحركات المسلحة المعارضة للأنظمة اليسارية.
في هذه المرحلة، تأسست شبكة قواعد عسكرية أمريكية حول العالم، واستُخدم حلف الناتو كذراع عسكري لتثبيت التفوق الغربي.
- نهاية الحرب الباردة وبروز التدخلات “الإنسانية”
مع انهيار الاتحاد السوفيتي (1991)، لم تتراجع العقيدة العسكرية، بل أُعيد تشكيلها وفق مبررات جديدة.
- عقيدة كلينتون: التدخلات المحدودة لأسباب “إنسانية” (مثل الصومال ويوغوسلافيا).
- استمرار الحصار والضربات الجوية ضد العراق (1991–2003)، رغم غياب تهديد مباشر.
أصبح العالم أحادي القطبية، وتمحورت العقيدة حول “الشرطة العالمية” بدلا من التوازن.
عقيدة بوش والتحول نحو الحروب الاستباقية
أحداث 11 سبتمبر 2001 شكّلت نقطة تحوّل حاسمة. فأعلنت الإدارة الأمريكية بقيادة جورج بوش الابن تبني “عقيدة بوش“، التي تضمنت:
- الحرب الوقائية (Preemptive War): ضرب العدو المحتمل قبل أن يشكل خطرا فعليا.
- تغيير الأنظمة بالقوة: كما حدث في أفغانستان والعراق.
- منطق “من ليس معنا فهو ضدنا”: إقصاء أي حياد دولي.
تحولت العقيدة العسكرية من أداة استراتيجية إلى أداة “وجودية”، وأُعيد إنتاج خطاب “الرسالة الحضارية” في سياق الحرب على “الإرهاب”.
- خلاصة:
العقيدة العسكرية الأمريكية لم تكن يوما مجرد سياسة دفاعية، بل كانت دائما انعكاسا لأيديولوجية متغيرة تبرر مشروع الهيمنة العالمي. من مبدأ مونرو إلى عقيدة بوش، تَمدّد النفوذ العسكري الأمريكي تحت شعارات متبدّلة: من الحماية، إلى التحرير، إلى الردع، وأخيرا إلى الحرب الوقائية.
فهم هذا التطور يسمح لنا بقراءة السياسة الدولية من منظور القوة والمصلحة، أكثر من خطاب المبادئ والقيم، ويُبرز خطورة العقائد العسكرية التي تتخفّى خلف شعارات أخلاقية وإنسانية.
قائمة المراجع العلمية:
-
Gaddis, John Lewis. Strategies of Containment: A Critical Appraisal of Postwar American National Security Policy. Oxford University Press, 2005.
- Chomsky, Noam. Hegemony or Survival: America’s Quest for Global Dominance. Metropolitan Books, 2003.
- Bacevich, Andrew J. The New American Militarism: How Americans Are Seduced by War. Oxford University Press, 2005.
- Smith, Tony. America’s Mission: The United States and the Worldwide Struggle for Democracy. Princeton University Press, 1994.
- LaFeber, Walter. The American Age: United States Foreign Policy at Home and Abroad. W.W. Norton, 1994.
-
McDougall, Walter A. Promised Land, Crusader State: The American Encounter with the World Since 1776. Houghton Mifflin, 1997.
