هيمنة الدولار وصندوق النقد الدولي: سطوة العملة وإملاءات الدائن
سلسلة: الولايات المتحدة والعالم: تاريخ الهيمنة والتدخل
إذا كانت الحروب تُكسب بالنار، فإن الإمبراطوريات تُبنى بالنقود. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تعد القوة العسكرية وحدها تكفي لبسط الهيمنة، بل صار الاقتصاد العالمي نفسه أداة استراتيجية بيد القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي صلب هذا البناء تبرز أداتان مركزيتان: هيمنة الدولار الأمريكي والنفوذ الواسع لصندوق النقد الدولي (IMF)، وهما وجهان لعملة واحدة تسعى لإخضاع اقتصادات العالم لمنظومة متمركزة حول المصالح الأمريكية.
- كيف أصبح الدولار عملة العالم؟
في عام 1944، وخلال مؤتمر بريتون وودز، تم ترسيخ الدولار كعملة احتياط عالمية، من خلال ربطه بالذهب، وربط باقي العملات به.
أهم نتائج المؤتمر:
- اعتماد الدولار عملة مرجعية للتجارة العالمية.
- إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بإشراف أمريكي.
- تكريس التفوق المالي الأمريكي بعد الحرب.
ومنذ 1971 (حين ألغى نيكسون قاعدة الذهب)، أصبح الدولار عملة إيمان، تُدار فقط بثقة السوق، لكن بلا غطاء مادي، مما أعطى أمريكا قدرة غير مسبوقة على طباعة الأموال دون قيمة مادية حقيقية.
- نتائج هيمنة الدولار على العالم
1. حرية التمويل بلا رقيب:
الولايات المتحدة تستطيع تمويل حروبها وأزماتها الداخلية عبر الاستدانة بالدولار الذي تطبعه بنفسها.
2. ابتزاز الدول بالدين الخارجي:
بما أن معظم ديون الدول النامية مُقوّمة بالدولار، فإن تقلبات قيمته تُستخدم كسلاح ضدها (ارتفاع الفوائد، انهيار العملات المحلية، فرض الشروط…).
3. فرض العقوبات بسهولة:
أي دولة خارجة عن الطاعة (كإيران أو روسيا) تُقصى من نظام SWIFT ويتم تجميد أصولها الدولارية عالميا.
4. السيطرة على التجارة العالمية:
نحو 80% من التجارة العالمية تتم بالدولار، مما يُمكّن واشنطن من التحكم في مسارات المال والتجارة الدولية.
- صندوق النقد الدولي كأداة للهيمنة
رغم صبغته “الحيادية الدولية”، إلا أن صندوق النقد الدولي هو في الواقع مؤسسة ذات طابع سياسي واقتصادي منحاز بوضوح للولايات المتحدة، التي تمتلك حق الفيتو الفعلي داخله.
كيف يعمل الصندوق؟
- يمنح قروضا للدول التي تمر بأزمات اقتصادية.
- يفرض “برامج إصلاح” تُلزم الدولة بـ:
- خصخصة المؤسسات العامة.
- تخفيض الدعم الحكومي.
- تحرير السوق.
- فتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي (وخاصة الأمريكي).
النتيجة: إعادة تشكيل الاقتصاد الوطني وفق النموذج النيوليبرالي، بما يخدم الشركات متعددة الجنسيات والبنوك الكبرى الأمريكية.
- الهيمنة المقنعة أم الاستعمار المالي؟
يرى الكثير من الاقتصاديين أن صندوق النقد لا يساعد الدول على النهوض، بل يُبقيها رهينة لديون متراكمة وشروط تعجيزية.
أمثلة على ضحايا هذه السياسات:
- أمريكا اللاتينية في الثمانينات (أزمة الديون).
- الشرق الأوسط في التسعينات (مصر، تونس، المغرب).
- جنوب شرق آسيا في 1997 (انهيار العملات والأسواق).
- لبنان والأرجنتين وباكستان مؤخرا.
يقول الاقتصادي جوزيف ستيغليتز (الحائز على نوبل):
“صندوق النقد الدولي لا يُصلح، بل يُخضع. وهو لا يملك وصفات سحرية، بل يفرض أجندة سياسية واقتصادية باسم “الإصلاح”.”
- من الاستعمار الكلاسيكي إلى “القوة المالية الناعمة”
لم تعد السيطرة على الأراضي ضرورية، بل السيطرة على البنوك، والعملات، والمؤسسات الاقتصادية.
وتحوّلت هيمنة الدولار ووصاية صندوق النقد إلى أدوات لإعادة إنتاج تبعية عالمية ممنهجة، حيث:
- تُصاغ السياسات الاقتصادية في واشنطن لا في العواصم المحلية.
- تتحكم البورصات الأمريكية في مصير العملة المحلية.
- تُفرَض القوانين والضرائب وفق مقاييس المؤسسات المانحة.
خلاصة:
في عالم اليوم، لا تُسقط الأنظمة فقط بالطائرات، بل بالقروض المشروطة، وسوق العملات، ومؤشرات التصنيف الائتماني.
وهكذا، تمارس الولايات المتحدة هيمنتها ليس فقط من خلال سطوة الدولار كعملة، بل عبر مؤسسات مالية عالمية يبدو ظاهرها محايدا، لكنه في العمق يخدم مشروعا سياسيا إمبرياليا قائما على السيطرة الاقتصادية وتقييد سيادة الدول.
- قائمة المراجع العلمية:
-
Barry Eichengreen, Exorbitant Privilege: The Rise and Fall of the Dollar, Oxford University Press, 2011.
- Joseph Stiglitz, Globalization and Its Discontents, W.W. Norton & Company, 2002.
- Michael Hudson, Super Imperialism: The Origin and Fundamentals of U.S. World Dominance, Pluto Press, 2003.
- John Perkins, Confessions of an Economic Hitman, Berrett-Koehler, 2004.
- Ha-Joon Chang, Bad Samaritans: The Myth of Free Trade and the Secret History of Capitalism, Bloomsbury, 2007.
-
Susan George, A Fate Worse Than Debt, Grove Press, 1990.