الولايات المتحدة والعالم: تاريخ الهيمنة والتدخل

الاحتلال الأمريكي لكوبا: خلفياته وأبعاده وأثره على السيادة الكوبية

(1898–1902، 1906–1909)

شهدت كوبا في مطلع القرن العشرين فترتين من الاحتلال العسكري الأمريكي، تمثلان أحد أبرز وجوه الهيمنة الأمريكية المبكرة في أمريكا اللاتينية. جاءت هذه التدخلات تحت ذرائع حفظ الاستقرار ومنع الاقتتال الداخلي، لكن خلفها كانت تختبئ أهداف اقتصادية واستراتيجية، وامتدادٌ لسياسة الولايات المتحدة الإمبريالية التي تجلّت عقب الحرب الأمريكية الإسبانية.

يرصد هذا المقال السياق التاريخي والسياسي لاحتلال كوبا، ويحلل أبعاده القانونية والعسكرية، ويقيِّم تأثيره على تطور الوعي القومي الكوبي.

  • الخلفية التاريخية والسياسية للاحتلال الأمريكي الأول (1898–1902)

انتهت الحرب الأمريكية الإسبانية بمعاهدة باريس (ديسمبر 1898)، التي تنازلت فيها إسبانيا عن سيادتها على كوبا، واحتفظت الولايات المتحدة بالوصاية المؤقتة على الجزيرة. رغم إعلان الاستقلال الرسمي لكوبا، إلا أن الهيمنة الأمريكية كانت واقعا مفروضا على الأرض.

أنشأت الولايات المتحدة حكومة عسكرية في كوبا بقيادة الجنرال جون بروك، ثم خلفه ليونارد وود، واستمرت هذه الإدارة حتى عام 1902. ركز الاحتلال على إصلاح البنية التحتية، وتحديث الجهاز القضائي، ومحاربة الأمراض، لكنه أيضا فرض سلسلة من الشروط التي قيدت السيادة الكوبية لاحقا، وعلى رأسها التعديل الدستوري المعروف بـ”ملحق بلات” (Platt Amendment) الذي أقره الكونغرس الأمريكي عام 1901.

ملحق بلات: نصّ هذا التعديل على حق الولايات المتحدة في التدخل في الشؤون الكوبية لضمان “الاستقلال”، وفرض على كوبا قبول إقامة قاعدة بحرية أمريكية (قاعدة غوانتانامو لاحقا)، ما جعل الاستقلال الكوبي شكليا، وأرسى نموذج الوصاية المقنّعة.

  • الاحتلال الأمريكي الثاني (1906–1909): أزمة سياسية وتدخل عسكري مباشر

بعد انتخاب توماس إسترادا بالما رئيسا في 1902، بدأت كوبا أولى خطواتها كجمهورية مستقلة. لكن الانتخابات التالية عام 1905 شابها التزوير، مما أشعل تمردا قاده الليبراليون بقيادة خوسيه ميغيل غوميز عام 1906. مع تفاقم الأزمة، طلب إسترادا تدخل الولايات المتحدة، وهو ما أجّج الجدل داخل الإدارة الأمريكية.

أرسل الرئيس ثيودور روزفلت وزير الحرب ويليام هوارد تافت ومساعد وزير الخارجية روبرت بيكون في محاولة لحل الأزمة سياسيا، لكن فشل المفاوضات واستقالة إسترادا دفع تافت إلى إعلان نفسه حاكما مؤقتا لكوبا بموجب معاهدة 1903. تبع ذلك إنزال قوات أمريكية وتأسيس “جيش التهدئة الكوبي”.

تفاصيل الاحتلال:

  • أنشأت الولايات المتحدة حكومة مؤقتة.
  • لم تواجه القوات الأمريكية مقاومة من المتمردين.
  • ركز الجيش على ضبط الأمن، وبناء الطرق (92 كلم جديدة)، وإنشاء مراكز إدارية.
  • استخدمت قاعدة غوانتانامو كنقطة ارتكاز.
  • شهد الاحتلال إصابة أكثر من 10% من الجنود بأمراض منقولة جنسيا وأمراض المناطق المدارية.

انسحاب القوات في 1908 أُجريت انتخابات وفاز فيها خوسيه ميغيل غوميز، واعتبر المسؤولون الأمريكيون أن الأوضاع مستقرة، فسُحبت القوات في فبراير 1909.

  • الأبعاد القانونية والسياسية للاحتلالين

اعتمدت الولايات المتحدة على الصيغة القانونية التي وفرتها معاهدة العلاقات الكوبية الأمريكية لعام 1903، خاصة المادة الثالثة التي تنص على حق التدخل لضمان الاستقرار. لكن هذا الحق شكّل خرقا مباشرا لمبدأ السيادة الوطنية، وأثار نقاشا واسعا بين القانونيين والدبلوماسيين في أمريكا اللاتينية.

استنتاج:

  • شكل الاحتلال سابقة خطيرة في العلاقات الدولية بالقارة.
  • مهّد لنمط من التدخلات المماثلة لاحقا في نيكاراغوا، هاييتي، وجمهورية الدومينيكان.
  • بررته الولايات المتحدة بدوافع “نشر الديمقراطية”، لكنه خدم مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية بالدرجة الأولى.

أثر الاحتلال على كوبا والوعي القومي الكوبي

رغم أن الاحتلالين الأمريكيين أدّيا إلى بعض التحسينات في البنية التحتية والإدارة، فإن الأثر الأعمق كان في ترسيخ الشعور الوطني الرافض للتدخل الأجنبي. ساهمت التجربة المريرة للاحتلال في تشكيل نخب فكرية وثقافية رفضت التبعية، وظهرت أدبيات كوبية تطالب بإلغاء ملحق بلات، الذي أُلغي رسميا عام 1934.

مقارنة بالوصاية البريطانية على مستعمرات مثل مصر، التي اعتمدت صيغة “الحماية” غير الرسمية، فإن الاحتلال الأمريكي في كوبا تميز بكونه مباشرا وعسكريا، رغم غلافه القانوني. كما أن كوبا كانت الدولة الوحيدة في نصف الكرة الغربي التي خضعت لهذا الشكل من “الاستقلال المشروط“.

  • خاتمة:

يكشف الاحتلال الأمريكي لكوبا في مطلع القرن العشرين عن التناقض العميق بين شعارات التحرير والممارسة الاستعمارية الفعلية للولايات المتحدة. وبينما ارتدت واشنطن عباءة الديمقراطية، فرضت واقعا من الهيمنة المقنّعة عبر القوة العسكرية والتشريعات المفروضة. وقد أثبتت كوبا، رغم صغر حجمها، أنها قادرة على مقاومة هذه الهيمنة لاحقا، في مسار طويل بلغ ذروته بثورة 1959.

قائمة المراجع:

  1. Treaty of Paris, 1898. National Archives: https://www.archives.gov/milestone-documents/treaty-of-paris
  2. Platt Amendment Text, 1901. Library of Congress: https://www.loc.gov/law/help/usconlaw/constitutionday/pdf/platt.pdf
  3. Roosevelt’s Executive Order 518, 1906. Federal Register: https://www.federalregister.gov/
  4. Trask, D. F. “The United States Occupation of Cuba, 1906–1909.” Military Affairs Vol. 27, No. 1 (1963).
  5. Musicant, Ivan. Empire by Default: The Spanish-American War and the Dawn of the American Century. Holt, 1998.
  6. Pérez, Louis A. Jr. Cuba and the United States: Ties of Singular Intimacy. University of Georgia Press, 2003.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى