الحرب المكسيكية الأمريكية (1846–1848): المحطة المؤسِّسة للهيمنة الإقليمية الأمريكية
الولايات المتحدة والعالم: تاريخ الهيمنة والتدخل
في مسار بناء الهيمنة الأمريكية، تشكل الحرب المكسيكية الأمريكية (1846–1848) أول تجربة كاملة للولايات المتحدة في شن حرب توسعية إمبريالية خارج حدودها الأصلية. لقد مثّلت هذه الحرب أول تطبيق عملي لمعادلة:
القوة العسكرية + الأيديولوجيا العرقية + الرأسمالية التوسعية = التدخل والضم.
ليست هذه الحرب مجرد نزاع حدودي أو استجابة لانفصال تكساس، بل هي محطة تأسيسية في المشروع الأمريكي للهيمنة على العالم الجديد، وانتقال من نموذج “الاتحاد القاري” إلى نموذج “الدولة المتدخلة والمسيطرة”، الذي سيتكرّر لاحقا في كوبا، وبنما، والفلبين، وفي كافة تدخلاتها عبر أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.
السياق الأيديولوجي والاستراتيجي للتوسع الأمريكي
- أ. “القدر المتجلي”: عقيدة إمبريالية في ثوب لاهوتي
في منتصف القرن التاسع عشر، هيمنت فكرة “القدر المتجلي” Manifest Destiny على الخطاب السياسي الأمريكي، باعتبار أن للولايات المتحدة تفويضا إلهيا بنشر الحضارة البروتستانتية الأنجلوساكسونية. ومن هنا، لم يُنظر إلى غزو أراضي المكسيك كعدوان، بل كممارسة لحق طبيعي ومقدّس.
هذه الفكرة حملت نزعة استعلاء حضاري واضحة تجاه شعوب الجنوب، وساهمت في تأصيل منطق “التدخل من أجل التحضّر”، وهو نفس المنطق الذي ستُبنى عليه مبررات التدخلات في الفلبين والعراق وأفغانستان لاحقا.
- ب. الدولة المكسيكية كموضوع للهيمنة
نظر صانعو القرار الأمريكي إلى المكسيك بوصفها “دولة فاشلة“، تعاني من الفوضى السياسية وضعف الإدارة، ولا تملك القدرة على إدارة مواردها. هذه النظرة شبيهة تماما بـما سيُعرف لاحقا في أدبيات الهيمنة بـ”الدول القاصرة“، وهي التي يُبرَّر التدخل في شؤونها بحجة إنقاذها من نفسها.
الحرب كأداة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية
- أ. الحرب كإعادة هندسة جيوسياسية للمنطقة
أتاحت الحرب للمشروع الأمريكي إعادة ترسيم المجال القاري، عبر إزاحة قوة منافسة (المكسيك) من مناطق استراتيجية (كاليفورنيا، نيو مكسيكو)، وتحويل هذه المناطق إلى فضاء تابع اقتصاديا واستراتيجيا. هذا الترسيم الجغرافي الجديد كان أساسا لمستقبل الهيمنة الأمريكية في المحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية.
- ب. عسكرة السياسة الخارجية: الجيش بوصفه أداة للهيمنة
قبل هذه الحرب، لم تكن الولايات المتحدة قد استخدمت جيشها كأداة لإعادة تشكيل المجال السياسي خارج حدودها الأصلية. لكن مع حرب 1846، ظهرت معادلة القوة العسكرية كآلية مركزية لفرض الإرادة الأمريكية، وهو النمط الذي ستكرره الولايات المتحدة مرارا في القرن العشرين.
تحليل أدوات الهيمنة في سياق الحرب
- أ. الهيمنة من خلال السرد: المكسيك كـ”الآخر الهمجي”
لعب الإعلام والخطاب السياسي الأمريكي دورا جوهريا في شيطنة المكسيك وتصويرها ككيان عرقي وديني متخلف. جرى تأطير المكسيكيين بوصفهم “كاثوليك طائفيين”، غير قادرين على بناء دولة حديثة، ما جعل “نقل الحضارة” إليهم مبررا للحرب.
- ب. العرق والطبقية في منطق الضم
رغم ضم الملايين من سكان الأراضي المكسيكية الجديدة، لم يحصل السكان الأصليون ولا المكسيكيون على حقوق متساوية. لقد تعاملت الدولة الأمريكية مع هذه الشعوب بوصفها تابعة خاضعة للاستيعاب القسري، في تكرار لنمط السيطرة الاستعمارية القائمة على التمييز الطبقي والعرقي.
الحرب في السياق الأوسع لبناء الإمبراطورية الأمريكية
- أ. من الهيمنة الإقليمية إلى النزعة الكولونيالية
بنت الحرب أرضية نموذجية لـالتحول من الدولة الاتحادية إلى قوة توسعية خارجية. هذا التحول تُوّج لاحقا في نهاية القرن بغزو كوبا والفلبين وبورتو ريكو بعد حرب 1898. والحرب مع المكسيك كانت بروفة استراتيجية لبناء تلك الإمبراطورية المتعددة المستويات.
- ب. الرأسمالية التوسعية وضم الأراضي
كان العامل الاقتصادي حاسما في دفع الحرب، إذ كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى موانئ جديدة، أراض زراعية، موارد معدنية، وأسواق للتمدد. لقد شكلت الأراضي المنتزعة من المكسيك نقطة انطلاق لاندفاع رأسمالي باتجاه المحيط الهادئ، ومن ثم نحو الأسواق الآسيوية.
الإرث الاستراتيجي للحرب
- أ. استنساخ النموذج: من المكسيك إلى العالم
الأنماط التي جُرِّبت لأول مرة في حرب المكسيك—كاحتلال العاصمة، فرض معاهدة مذلة، رسم حدود وفق المصلحة الأمريكية، استغلال الموارد، ودمج السكان دون مساواة—أصبحت نموذجا أمريكيا مكررا من غواتيمالا إلى العراق.
- ب. ترسيخ الهيمنة عبر القوة والقانون
جاءت اتفاقية غوادالوبي هيدالغو لتكرّس منطق فرض المعاهدات بالقوة، وهو منطق ستتبناه الولايات المتحدة لاحقا في معاهدات السيطرة الاقتصادية والعسكرية، حتى في حالات لا تتضمن حروبا مباشرة، كما حدث مع دول أمريكا الوسطى خلال القرن العشرين.
- خلاصة:
الحرب المكسيكية الأمريكية لا يمكن اختزالها في صراع حدودي أو خلاف جغرافي، بل تمثل أول تجلّ مكتمل لمشروع الهيمنة الأمريكي في صورته المركبة: قوة عسكرية، تفوق ثقافي، تبرير ديني، وهدف اقتصادي. لقد دشنت الحرب نموذجا جديدا في التدخل والسيطرة سيظل يتكرر، بصيغ متطورة، طوال القرنَين التاليَين.
إنها الحرب التي حسمت هوية أمريكا كدولة إمبراطورية صاعدة، ورسمت حدودا جديدة للعالم الذي ستتدخل فيه لاحقا، على أساس القوة لا التفاوض، وعلى أساس العقيدة لا القانون الدولي.
- المراجع:
- Guardino, Peter. The Dead March: A History of the Mexican-American War. Harvard University Press, 2017.
- Reginbogin, Herbert R., and Christos Frentzos. The United States and the Legacy of the Mexican-American War: Historical Patterns of Empire and Intervention. Lexington Books, 2012.
- Horsman, Reginald. Race and Manifest Destiny: The Origins of American Racial Anglo-Saxonism. Harvard University Press, 1981.
- Smith, Justin H. The War with Mexico. Macmillan, 1919.
- Treaty of Guadalupe Hidalgo – U.S. National Archives
- PBS Documentary – The U.S.–Mexican War (1846–1848): https://www.pbs.org/kera/usmexicanwar