الدراسات الأدبيةنقد

قصيدة بوابة الريح .. وقفات أسلوبية

سمية غازي الطيب

يشكل الأسلوب الأدبي موضوعًا ذا أهمية للنقاد والدارسين، فمن سمات الدراسة الأسلوبية الكشف عن جماليات اللغة الصوتية والتركيبية والنحوية والمعجمية، فـــــ”المدخل الأسلوبي لفهم أي قصيدة هو لغتها، وهذا مبدأ لا يختلف عليه أي من الدارسين الأسلوبيين، لكن هذا المبدأ لا يقول شيئًا مُهِمًا من الناحية العملية، فكل قصيدة لها أسلوبها التحليلي الخاص بها، فبعض القصائد يُعنى بالأجزاء المميزة فيها كالعنوان أو المطلع، والبعض الآخر يُعنى فيه بحكم اختلافها عما يُقال عادة في مثل مناسبتها، ولا بد من جمع هذه الاعتبارات؛ لأن اتباع طريقة موحدة في قراءة القصيدة لا تكفي لاكتشاف سر دلالتها العميقة، لكن المهم دائماً هو البدء بإبراز السمات اللغوية علّها تضعنا على الطريق الصحيح لفهم أسلوب القصيدة”1.


عنيت هذه الدراسة بتحليل قصيدة بوابة الريح للشاعر الراحل: محمد الثبيتي -رحمه الله- من خلال تطبيق منهج التحليل الأسلوبي، وقبل البدء في تقديم الدراسة، أقف بين يدي هذه الكتابة من خلال عرض نبذة عن الشاعر:

محمد عواض الثبيتي وُلد في مدينة الطائف، ونشأ في بيئة شعرية فوالده وجده شاعران وقارئان محبان للقراءة شغوفان بها، وهذا الجو المحيط بالثبيتي أثر فيه ولاريب منذ نعومة أظفاره، إضافة لهذه البيئة الشاعرية فقد درس الثبيتي في مدارس مكة المكرمة المراحل الثلاث، ولعله نظم أول قصيدة له والتي كانت معارضة لقصيدة شوقي في نظمها وهو في السادسة عشر من عمره، وللثبيتي رحمه الله بصمة وتنظير في قضية التجديد في الشعر العربي الحديث؛ لذلك قال عن نفسه: اعتبر دخولي الصادق والحقيقي إلى عالم الشعر عندما اكتشفت القصيدة الحديثة، خاصة بعد قراءتي للسياب والبياتي اللذين وضعا قدمي على الطريق السوي للشعر، وتقديراً لشعره وشاعريته كُرِّم من عدَّة جهات فحصل على عدد من الجوائز منها: جائزة عكاظ، وجائزة نادي جدة الثقافي، وجائزة أفضل قصيدة عن قصيدة “موقف الرمال.. موقف الجناس”، وانتقل إلى رحمة الله تعالى عام 2011م، ودُفن بمكة المكرمة”2.

“بوابة الريح”

مضَى شِرَاعي بِمَا لا تَشتهِي رِيحِي

                 وفَـاتَنِي الـفـِجْـرُ  إذْ  طــالَــتْ  تَــرَاوِيحِــي

أَبْحَرْتُ  تَهوِي إلى الأعماقِ قَـافِيَتِي

                    ويَرْتقِي  في  حِـبـالِ  الـرِّيـحِ  تَسْـبِيحِـي

مُزمَّـلٌ فِي ثِيـــــَابِ النّـــــُورِ مُنْتَبـــــــــِذٌ   

                    تِلْــقَـــاءَ  مَــكَّــةَ  أَتْـــلُــو  آيَـــةَ  الـــرُّوحِ

واللَّيلُ  يَعْجَبُ مــنِّي ثُمَّ يَسْـــــــأَلُنِي

                    بـــــوابَـــةُ  الــرِّيـــــحِ!  مَا  بــوابةُ  الرِّيحِ؟

فَقُلْــــــتُ والسَّائِلُ  الليـــليُّ  يَرْقُبُنِي

                    والـــوِدُّ  مَا  بينَنَا  قَـبْـضٌ  مِنَ  الرِّيــــحِ

إلَيكَ  عَنِّي  فَشِعْرِي  وحْيُ فَاتِنَتِي

                 فَهْيَ  التي  تَبْتَلِي  وهيَ  التي  تُـوحِــي

وهيَ التي أَطْلَقَتْنِي فِي الكرَى3 حُلُماً                      

                 حـتَّى  عَبَــــــرْتُ  لهَا  حُــلمَ  المَصَـابِيحِ

فَحِينَ نامَ الدُّجَى جَاءتْ لِتَمْسِيَتِي

                وحينَ  قامَ الضُّحَى  عــــادَتْ  لِتَصْبِيحِي

مَا جَرَّدَتْ مُقلتاهَا غير سـيفِ دَمِي

                 ومَــــا  عَلَى  ثــغـــرِهَــا  إلاَّ  تَــبَـارِيــحِـي

ومَا تَيَمَّمْــــــــتُ شَمْساً غــيرَ صَادقةٍ

                    ولا  طَــــــرَقتُ  سَـمـاءً  غيرَ  مَـفْـتُـــوحِ

قَــــــصَـــائدِي أَينَـــمَا يَنْتـــَابُنِي قَـلَـقِــي

                    ومَـــنْزِلِي حَـيثُمَـا ألْــقِــي مَــفــاتـيــحِـي

فَأَيّ قَــــــــــولَيَّ أَحْـــلَى عنـــــدَ سيِّدَتِي

                      مَا قلتُ  للنَّخلِ  أَمْ مَا قُلْتُ  للشِّيحِ3

                          ******

1 – مدخل

نستشعر للوهلة الأولى من قراءتنا لما عنْوَن به الشاعر هذه القصيدة، حالة الاضطراب وعدم الاستقرار النفسي، وندرك من خلاله توارد بعض المنغصات والمكدرات، ليس هذا فحسب بل إن العنوان مليء بالإيحاءات الكثيرة  التي تكونت من الرمزية واصْطبغ بها العنوان؛ لذلك كانت بدايته قوية تعطي المتلقي انطباعًا بقوة نَفَسِ الشاعر وتجلّده واستعداده لمواجهة التحديات التي تعترض طريقه، باذلاً ما في وسعه لفك شفرة هذا الرمز، وهنا مكمن جمال الأسلوب، وقوة جذب المتلقي فأسلوب الأبيات كان متنوعًا إلّا أنه لم يبتعد عن عنوان القصيدة، ومن ذلك:

أولاً: توظيف الشاعر للحوار عن طريق الاستفهام: ما بوابة الريح؟.

ثانيًا: اتسام أسلوب الشاعر بالتحدّي والمواجهة والجرأة، وبالرغم من الرمزية الواضحة في القصيدة إلا أن ألفاظها رِخوة تغلب عليها السهولة في تناول الموضوع وطرحه، عدا كلمة منتبذٌ في البيت الثالث فقد لمست فيها الثِّقَل.

ثالثًا: ساهم تكرار الأساليب اللغوية والنحوية في تذليل صعوبة إدراك المعاني التي قصد إليها الشاعر، فعلى سبيل المثال: تكرار استخدامه لياء المتكلم بأسلوب بارز، حيث استخدمه الشاعر بصورة لا يكاد بيت من القصيدة يخلوا منه، فتكراره سمة لغوية بارزة في القصيدة لتتوافق مع أسلوب التحدي في القصيدة؛ ولتأكيد تبني الشاعر لقضيته، ثم يبرز أسلوبه كذلك مع تاء المتكلم ليناسب مقام الفاعلية التي يريدها الشاعر لمواجهة ما ينتابه ويحتاجه في معالجة الأمور ومقاومة الظروف.

رابعًا: يُلاحظ أن أسلوب الإضافة لديه من السمات البارزة: “حبال الريح – ثياب النور- بوابة الريح – حلم المصابيح – غير سيف…. “. كما يُلاحظ أسلوب العطف الذي بدا سمة واضحة في القصيدة، فقد استخدم الشاعر عطف جمل على جمل وذلك تأكيدًا لمعانيه، ولا ريب أن تأكيد المعاني يضفي جمالاً أسلوبيًا ممتعًا، فعلى سبيل المثال قوله في الشطر الثاني من البيت الأول : “وفاتني الفجر” إذ جاءت معطوفة على الشطر الأول، وكذلك في البيت الثاني “ويرتقي في حبال الروح” معطوفة على الشطر الأول منه، وفي البيت الرابع حين يقول : “ثم يسألني” معطوفة على “والليل يعجب مني”. كما يُلاحظ استخدام الفعل الماضي في إسناده للظروف المحيطة به، بجانب بروز صيغة تفاعيل وذلك في عدد من الأبيات.

خامسًا: من السمات البارزة في القصيدة تكرار كلمة “الريح” إذ وردت خمسة مرات، ولفظة الريح لها دلالات معنوية قوية، وأيضًا تكرار صوت حرف “الحاء” ستة وعشرين مرة، أضاف للقصيدة سمة الانسيابية وروح الطمأنينة والتي لا تأتي إلا عن ثقة وإصرار.

2 – تحليل الأبيات

ما سبق عرضه بمثابة مدخل للجو العام للأبيات أوجزت القول فيه بمثابة التمهيد لتحليل هذه الأبيات، إلا أنه من الأمثل قراءة الأبيات جملة واحدة، بيتًا تلو الآخر حتى نفرغ منها بتمامها؛ ليحصل الاندماج مع أسلوب الشاعر، وانتظام الأبيات وتسلسلها، فكل بيت آخذ بسابقه؛ حتى إذا ما فرغنا من هذه القراءة الإجمالية يمكن بعد ذلك التوقف بالتحليل بيتًا بيتًا على النحو الآتي:

الوقفة الأولى: بدأ البيت الأول بفعل ماضٍ يدل على انقضاء الأمر الذي كان يخوضه “مضى شراعي” واليأس الذي طاله بسبب ذلك “بما لا تشتهي ريحي” وهو مُضيّ شراع الشاعر بما لا تريده ولا تشتهيه ريحه، لذلك نجده في الوقت ذاته يعذر ويتعذر لنفسه أنه لا يريد أن يمضي الشراع على هذه الكيفية، ولكن تجري الرياح بما لا يشتهي السَّفِنُ على رواية البيت الآخر، فأحيانًا الريح تقود المركب بما لا يريده الرُّبان، وبروز ياء المتكلم في كلتاهما واضح، إذ يحيلنا إلى صورة من التضارب وعدم الاتفاق بين الشراع والريح العائدين للشاعر، ولعل الصورة في البيت هنا مقتبسة من قول الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ثم عطف الشطر الثاني “وفاتني الفجر إذ طالت تراويحي” على الشطر الأول، وهو أسلوب عطف الجملة على الجملة تأكيدًا معنويًا لخسارته التي ذكرها في الشطر الأول، مُصدِّرًا هذه الجملة بفعل ماضي “مضى”، ومُصدِّرًا الشطر الثاني بفعل ماضي “فاتني”، ومضى وفات بينهما علاقة ترادفية ازدان بها أسلوب الشاعر وكأنه عمد إلى انتقاء هذين الفعلين. ثم يعمد الشاعر إلى توظيف ياء المتكلم في الشطر، إذ يُشير هنا إلى فوات البدايات، بداية الأشياء إذ أنها الأساس، فلفظة الفجر لها عّدة دلالات فربما يُقصد بها وقت الفجر وهذا بدوره يفتح أبوابًا من الدلالات لدى الـمُتلقي: البركة – الرزق- الأمان…، وربما دلَّ على الفريضة وهي صلاة الفجر، يريد أن يقول قد فاتني الأهم بسبب المهم، وياء المتكلم برزت في التنفل “تراويحي”، ولم نرها في الفرض “الفجر” ومجيئها على وزن تفاعيل فيه ارتباط بالكثرة، وكأن الشاعر يريد أن يُثبت أنه أخفق حين اهتم كثيرًا بالأمور الثانوية وقدَّمها على الأمور الأساسية، وكما هو معلوم أن الفرض أولى من النافلة.

الوقفة الثانية: وظف الشاعر في البيت الثاني الفعل المضارع المستمر ” تهوي إلى الأعماق قافيتي”، فالإبحار يدل على المضي قُدُمًا والتوغل في دخوله للبحر، واستخدامه لهذه الكلمة “أبحرتُ” دلالة على الـمُضي والتحدي، فهو لم يبحر على السطح بل ذهب إلى الأعماق، ويَقْصِدُ بذلك قافية شعره التي مازالت مستمرة في التعمق حين إنشاءه لنصه الشعري، وياء المتكلم هنا دلت على ذلك “قافيتي”، ثم يقول: “ويرتقي في حبال الريح تسبيحي” هنا عطف على الجملة السابقة ” أبحرت تهوي”، وحين ننظر للكلمتين “يرتقي – تهوي” نلحظ التضاد بينهما واشتراكهما في نفس نوع الفعل وهو المضارع المستمر، ثم الإضافة الموجودة في “حبال الريح” التي خلقت معنىً جديدًا وهو التسبيح الذي جاء ملحوقًا بياء المتكلم” تسبيحي”، وقد يكون قصده من لفظة “تهوي” تعرّض قافيته لكثير من العقبات والشدائد والمخاطر إلا أنه بفضل الله ومنته، وجمال روحه جعل من تلك القافية المعرضة للخطر بسبب تشتت الفكر تأثراً بالظروف المحيطة قائلاً: أرتقي بشعري رغم الريح التي تعصف به.

الوقفة الثالثة: يُلاحظ في البيت الثالث ظهور أسلوب الروحانية وهو يكرّس المعنى السابق في البيتين قبله، “الفجر- التراويح- التسبيح”، وكأني به يستحضر قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) النجم الآية: 1-2.، ثم يستمر الأسلوب الروحاني بجانب بروز توظيف الشاعر مفردات تدل على الألم الذي شعَر به: “مزمل في ثياب النور منتبِذٌ ….تلقاء مكة أتلو آية الروح” معتزل عن الناس وحيدًا أدعوا متوجهًا تلقاء مكة، والنور مضافة لثياب، وأيضًا أسلوب الإضافة في “تلقاء مكة”، ثم استخدام الشاعر لفظة “مزمل” التي تحيل المتلقي مباشرة إلى حادثة النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ونزول جبريل عليه السلام بالوحي عليه أول مرة، وعودته لأهله وهو يردد “زملوني زملوني”، وتجعله يتساءل ما علاقة حال الشاعر بحال النبي صلى الله عليه وسلم؟ العلاقة روحية حيث استحضر الشاعر فيها حال النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يخلوا وحيدًا في مناجاته لربه، إلا أن الشاعر لا يدع المتلقي يتوه في الدلالات التي تتوارد عليه، وهذا يقود لأسلوبية البيت الرابع.

الوقفة الرابعة: يأتي البيت الرابع لافتًا نظر المتلقي لأمر مهم وهو عنوان القصيدة، مستخدمًا أسلوب الحوار عن طريق الاستفهام، واستخدام هذا أسلوب الحوار مع الليل معروف منذ القدم عند أغلب الشعراء “والليل يعجب مني ثم يسألني” وجملة “ثم يسألني” معطوفة على الجملة التي سبقتها “والليل يعجب مني” وجاء العطف هنا مفيدًا التمهل والتأني والاندهاش؛ فالليل تعجّب ثم سأل: “بوابة الريح! ما بوابة الريح؟” الإبداع في هذا الشطر أن الشاعر ذكرها خبرًا ثم أكدها بتكرار الكلمة، مرة بإضافة علامة التعجب، والمرة الثانية بإضافة علامة الاستفهام، واستخدم أداة الاستفهام “ما” لمناسبتها للمقام، فالسؤال عن غير العاقل هنا، كما أنه يبرز لدينا أسلوب الإضافة والذي كما قلنا قد تكرر” بوابة الريح”.

الوقفة الخامسة: يجيب الشاعر عن السؤال المطروح في معية تلك المخاوف، وتلك المراقبة الغير مريحة للشاعر، لا سيما وأن الفعل المضارع يدل على استمرار هذه المراقبة “يرقبني” التي أظهرت مشاعره المتبرمة حين يصف علاقتهما “والوِدُّ ما بيننا قبض من الريح”، أي ليس بيني وبين الليل مودة بل أن ما بيننا قبض من الريح، حين تقبض الريح هل تقبض شيئًا ؟ وهل ترى شيئًا حين تفتح قبضتك؟ فالمودة بيننا لا توجد؛ كما أن الريح التي ليس لها عين قائمة نستطيع أن نلمسها، فكذلك المودة ليس لها وجود بين السائل الليلي والشاعر. وتشخيص الشاعر لليل، وجعله سائلاً لا يكن له مودة، أراد به أن يدفع عن نفسه الحزن والوحدة واليأس، إذ أن المخاطبة مع الليل غالبًا ما توحي بالوحدة.

الوقفة السادسة: يعزز الشاعر هذا التبرُّم في العلاقة بينه وبين الليل، بالأسلوب الذي وظفه من خلال إدراج اسم فعل الأمر “إليكَ عنِّي” والذي يدل سياقه على الزجر بطلب الابتعاد عنه، ثم يقول بأسلوب فيه عذوبة “فشعري وحيُ فاتنتي” برزت ياء المتكلم في هذا الشطر، وكلمة “فاتنتي” لها دلالات كثيرة فالمعنى القريب هو: المحبوبة، والمعنى البعيد هو: الإلهام والخيال الذي تهبه إياه ربَّة الشعر، وهو الأقرب؛ لأنها متعلقة بالقافية التي تنشأ عنها القصيدة، بل إنها لا تكتفي بذلك “فهي التي تبتلي وهي التي توحي”، وأسلوب العطف بالجملة تكرر مرتين، “هي التي تبتلي”، “وهي التي تُوحي”.

الوقفة السابعة: يستمر أسلوب العطف على الجمل “وهي التي أطلقتني”، “حتى عبرت لها حلم المصابيح” عطفٌ مشبّع ببلوغ الغاية وهو: الوصول إلى تعبير للحلم يحمل تفاؤلاً، حيث أضاف للحلم المصابيح كناية عن نور قافيته ووهجها وجمالها، ولاريب أن أسلوب الإضافة زاد هذا البيت بهاءً، وقد تم الذكر سلفًا أن الإضافة سمة بارزة لديه؛ لإظهار التماسك والقوّة.

الوقفة الثامنة: يستمر الشاعر في الوصف مستعينًا بأسلوب المقابلة مع العطف بين الجمل “فحين نام الدجى جاءت لتمسيتي ….. وحين قام الضحى عادت لتصبيحي”، والمقابلة بين : نام- قام، الضحى-الدجى، تمسيتي-تصبيحي، مع ملاحظة أسلوب الشاعر في إبراز ياء المتكلم، واستخدامه الفعل الماضي :نام الدجى، قام الضحى، وكذلك  استخدامه لمصدر الفعل الرباعي: تمسيتي – تصبيحي، واستخدام الشاعر لهذه الأساليب دلالة على أن فاتنته ملازمة له طوال مسيرته الشعرية، بل وفي جميع أوقاته وهذا يجعله أكثر تصديًا وقوةً وصلابة.

الوقفة التاسعة: استخدام الشاعر لأسلوب الفعل الماضي يدل على الحيوية والتي نلحظها في القصيدة، ففاتنة الشاعر لها النصيب الأكبر في إضافة هذه الحيوية على بناء القصيدة، “ما جردتْ مقلتاها غيرَ سيفِ دمي” فكتابة شعري بأسلوبي الخاص قد عارضني عليه الكثير، ووقف ضدّ أسلوبي في كتابة الشعر وانتقاء الألفاظ الكثير، لكنِّي مضيت رغم ما أواجه من شدّة ومعاناة “وما على ثغرها إلا تباريحي”، واستخدامه أسلوب الإضافة غلب على البيت، “غير سيف – مقلتاها”، مع استخدامه صيغة تفاعيل التي تدل على الكثرة في آخر البيت حين قال: “تباريحي”، وهذا ما دلّ على الارتباط بين الشاعر وربة الشعر فكأنهما واحدًا، إذ أن فاتنته وهي القافية شأنها ليس كشأن أي محبوبة، فقد أعملت فيه عملها، فنتج عن تجريدها للسيف نزْف الشاعر للشعر الراقي، إضافة إلى أن هذه القافية لم يكن لها شغلٌ غير إثارة الأشواق وتوهجها في نفسه.

الوقفة العاشرة: يعود الثبيتي مرة أخرى لأسلوب العطف “وما تيممت شمسًا غير صادقة…. ولا طرقت سماءً غير مفتوح” فظهور تاء المتكلم هنا “تيممت- طرقت” يثبت أنه تمسك بقافيته الصادقة معه، وأنها لم تخذله بل إنه يجد في كل مرة سماءها واسعة الفضاء، فيّاضة الإبداع لم تُغلق بابها دونه، وأنها كانت ومازالت مُشْرَعَةً أبوابها لكل من أراد أن يلج إلى الإبداع في الشعر بما يناسب العصر الحديث، وهذا البيت يدل على ثقة الشاعر بقافيته وأنها تُسْلِمُه القياد في آخر الأمر، ولا تستعصي عليه بل تقف معه بصدق ملبية مجيبة إذا ما طرق بابها؛ لأنها في دمه وداخل وجدانه، اختلط بها واختلطت به.

الوقفة الحادية عشر: يصل الشاعر إلى آخر القصيدة ليثبت لنا أنه كان يتحدث عن شعره سابقاً فيقول: “قصائدي أينما ينتابني قلقي… ومنزلي حيثما ألقي مفاتيحي” استخدام أسلوب ياء المتكلم واضح جدًا، إذ أن هذا الأمر منوط به وحده، مؤكدًا أنه لن يدع ما يريحه حين كتابة قصائده كما يحلو له، “قصائدي – ينتابني – قلقي – منزلي – مفاتيحي”، ومفاتيح جاءت على وزن تفاعيل دلالة على المبالغة والكثرة، وانتقاؤه لكلمة مفاتيحي المقصود منها: أنه مطمئن لما توصل إليه مهما عارضه المعارضون. واستخدامه لفظة المنزل تُحيل القارئ للشعور بطمأنينة الشاعر التي وصل إليها، فالإنسان لا يجد الراحة إلا في منزله، وهذا ما توصل إليه الشاعر مع شعره، فهي معه في حالتيْ القلق والطمأنينة.

الوقفة الثانية عشر: بعد تجلية الشاعر للعلاقة الحميمية بينه وبين قافيته وتلبّسه بها وتلبّسها به حتى أصبحا كيانًا واحدًا، لا يمكن لأحد التعدّي عليه وتمزيقه وفصل مزيجه، وجدناه يختم القصيدة بسؤال لربّة الشعر يحمل نبرة تقديرية فيقول لها: سيدتي ثم يطلب منها توجيهاً وإرشادًا لاختيار الأفضل من قصائده” فأيُّ قوليَّ أحلى عند سيدتي…. ما قلت للنخل أم ما قلت للشيح”، وهنا مقابلة بين نوعين من فصائل النبات، يرمزان إلى القوة والصلابة والاستمرارية، ووجود منافع طبية في كلٍّ منهما.

إن نغمة التقدير في السؤال تجعل المتلقي معجبًا بأدب الشاعر وتقديره لقوافيه وأشعاره، كما أنها تجعله في رحابٍ واسعةٍ غير محدودة ولا ضيّقة، إلى غير ذلك من الإيحاءات المترتبة على السؤال بـ”أي”، والختام بـ”ما – أم “هذه الصيغ توحي بآفاقٍ واسعة من الإجابات، فيصل في آخر المطاف إلى أن الشاعر كان صلبًا بما يكفي لمواجهة المعارضين، وأنه أبدع بأشعار تشهد له بالقوة والمكانة الشعرية التي احتلها بين أقرانه من الشعراء، فرحمه الله وغفر له.

٭٭٭

3 – الخاتمة

في ختام هذه النظرات والوقفات على أسلوب قصيدة” بوابة الريح” للشاعر الراحل: محمد الثبيتي، أوجزُ دراستي الأسلوبية بما  يلي:

أولاً: يمكن توزيع القصيدة على أربعة مقاطع:

-المقطع الأول الأبيات (1-3) وغلبت عليها الروحانية واستحضار الحدث التاريخي العظيم الذي وقع للنبي صلَّى الله عليه وسلم، وتوظيف ما اكتنفه من الرموز المبجّلة عندنا لبيان قضيته “النور – مكة”.

-المقطع الثاني: الأبيات (4-8) تصاعد نبرة الشاعر في الحديث، وظهور ياء المتكلم بشكل واضح، وأسلوب عطف الجمل على الجمل، مما أضفى على المقطع كثيرًا من الإجابات على أسئلة لم تطرح بعد.

-المقطع الثالث: الأبيات (9-10) هدوء نبرة الشاعر والطمأنينة والثقة في هذه الأبيات واضحة جدًا.

-المقطع الرابع: الأبيات (11-12) إثبات قوة شعره، وصولاً إلى إجابة السؤال الذي كان يدور حول العنوان: بوابة الريح، واستخدامه لفظة الريح بدل الرياح له أبعادٌ دلالية، ففي اللغة الريح هي الريح العنيفة القوية التي لا يوقفها شيء، وكذلك في الشعر البنّاء والقوي يُسهم في مسيرة التجديد والإحياء للألفاظ والمعاني الراقية.

ثانياً: غلب الأسلوب الخبري على القصيدة، وكان متنوعًا على النحو الآتي:

-الإخبار بالفعل الماضي في ثلاث عشرة موضع، منها: “مضى شراعي – فاتني الفج….”.

-الإخبار بالفعل المضارع في تسعة مواضع، منها: “تشتهي ريحي – يرتقي…”.

-الإخبار بالجملة الأسمية، وقد تعدد في القصيدة، منها: “مزمَّلٌ في ثياب النور”، وقد سبق بعض الجمل واو الاستئنافية مثل: “والليل يعجب …”، وبعضها سُبق بفاء السببية مثل: “فهي التي تبتلي”.

ثالثًا: ورود أسلوب إنشائي بصيغة اسم فعل الأمر في قوله: إليك عني.

رابعًا: توظيف الشاعر للحال، فقد وظّفه مفردًا، مثل: “أطلقتني في الكرى حُلُمًا”، ووظّفه مرة جملة فعلية: “تهوي إلى الأعماق” وهي جملة حالية للتاء في: “أبحرت”، ومرة اسمية في: “السائل الليليُّ” وهي جملة حالية لضمير التاء في “فقلت”.

خامسًا: توظيف الشاعر لأسلوب الاستثناء:

-الاستثناء بغير، ومنه: ولا طرقت سماءً غير مفتوح.

-الاستثناء الذي يمكن أن يفهم منه أسلوب القصر، حيث يصف قافيته الشعرية بأنه يغلب عليها توهج الأشواق والشدائد وذلك في: “وما على ثغرها إلا تباريحي”.

سادسًا: استخدم الشاعر أسلوب الاستفهام مرتين، مرة كانت الإجابة عنه مفتوحة، ومرة ثانية  كانت الإجابة عنه يُكتفى فيها بنعم أو لا.

سابعًا: توظيف المصادر الرباعية مثل: تسبيح من فعله سبّح، تصبيح من فعله صبّح …

ثامنًا: ظهور أسلوب الحذف في بعض الأبيات مراعاة للوزن أو تحلية لشعره في قوله:

ولا طرقت سماءً غير مفتوح، فالتقدير هنا: ولا طرقت باب سماءٍ، بدليل وصفه في آخر البيت مفتوح، ولو أراد السماء لقال: مفتوحة.

المصادر والمراجع

1 – الثبيتي، محمد – ديوان محمد الثبيتي الأعمال الكاملة- النادي الأدبي بحائل، 2009م.

2 – الشمري، زيد دبيان، محمد الثبيتي شاعراً، جامعة مؤتة، 2014م.

2 – عياد، شكري، علم الأسلوب مدخل ومبادئ، بيروت،2013م.

3 – ابن منظور، محمد، لسان العرب، بيروت، 1414هـ.


خاص لمجلة فكر الثقافية

سمية غازي الطيب

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى