الدراسات الأدبية

حجاج الإقناع: بين أرسطو والنظريات البلاغية المعاصرة

 

  • ـ مدخل عام

لقد ارتبط الحجاج منذ نشأته بالإقناع، فوظيفته الأولى والأساسية هي الإقناع ونجد هذا الطرح عند أفلاطون ومن جاء بعده ـ وبشكل واضح ـ عند أرسطو في كتابه ” الخطابة ” الذي قدم فيه مجموعة من طرق الإقناع التي تتعلق بالخطيب ( المتكلم ) والتي يُتوجه بها إلى مُحاطَب ( متلقي ) وذلك عبر خطاب ( رسالة ) وهو ما عبَّر عنه أرسطو بمصطلحات (الإيطوس، والباطوس، واللوغوس)،

وتتوزع هذه المفاهيم ـ بحسب أرسطو ـ على ثلاثة أنواع من الخطابات، وهي: ( المشاوري، والمشاجري، والتثبيتي )، إذ يقول أرسطو في هذا الصدد: ” فمن الاضطرار إذا يكون الكلام للريطوري ثلاثة أجناس: مشاوري، ومشاجري، وتثبيتي ” ، فالمقصود بالمشاوري ما يُعرف الآن بالخطاب السياسي، أما المشاجري فيعني الخطاب القضائي، في حين يُقصد بالتثبيتي الخطاب الاحتفالي، فقد انطلق أرسطو من الخطابات التي كانت سائدةً في عصره وحاول أن يضع قواعد للإقناع تميز كل نوع من هذه الأنواع الخِطابية، فالإقناع عند أرسطو هدفه تأسيس حوار بين مؤسسات الدولة وفئات الشعب وتنظيم الحياة الاجتماعية كما سعى أرسطو من خلال الإقناع إلى إعادة النظر في مجموعة من الأمور التي كانت تعتبر يقينية وذلك وَفق تصور جديد يقوم على النسبية، إذ يشتغل حِجاج الإقناع في دائرة الرأي والممكن ” حيث لا نُحاجج الآخرين في الحقائق العلمية الصحيحة أو القابلة للبرهنة الحاسمة، لأن مدار الحجاج على الرأي المحتمل الذي لا يمتلك دقة الحقائق العلمية ” ، فحجاج الإقناع لا يعني البرهان الذي لا يقبل النقاش وإنما الرأي والدعوى التي تقبل تعدد الآراء، وعليه ـ وتبعا لهذا التصور ـ يمكن أن نصوغ تعريفا للإقناع يقترب من هذا الطرح لصاحبه ” فيليب بروطون “، حيث يقول: ” يعد الإقناع إحدى جهات القول الأساس للتواصل، الذي يكون القصد منه إما التعبير عن إحساس أو عن حالة أو عن نظرة فريدة إلى العالم أو إلى الذات، أو يكون القصد منه الإخبار؛ أي وصف موقف معين على نحو أكثر موضوعية، أو يكون القصد منه أيضا الإقناع بواسطة أدلة تحمل المتلقي على الانخراط في رأي ما ” ، يتضح من خلال هذه الفقرة أن أساس الإقناع التواصل، غير أن هذا التواصل يختلف من خطاب إلى آخر ومن خطيب إلى آخر وذلك بحسب الغرض الذي يريده الخطيب من خطابه، حيث يتم استمالة المتلقي وَفق تقنيات حجاجية معينة يفرضها الموقف التواصلي الذي يتحدث من خلاله الخطيب.

يقوم حجاج الإقناع على دعوى من الخطيب يحاول إقناع المتلقي بها، وغالبا ما تكون هذه الدعوى نسبية ومحتملة وممكنة بحيث تقبل تصورات وأفكار متعددة فهي قضية متنازَع عنها، لذلك يُوظف الخطيب مختلف التقنيات الحجاجية من أجل التأثير في المُخاطَب وجعله ينخرط في دعواه، وينقسم هذا التأثير أو الإقناع إلى ثلاثة أقسام: إقناع بالإيطوس (الخطيب)، وإقناع باستهداف عواطف المتلقي ( الباطوس )، وإقناع باللوغوس (العقل )، وإذا انطلقنا من حجاج الإقناع لدى أرسطو نجده يركز ـ بشكل أساس ـ على الإقناع بالإيطوس حيث اكتشف مجموعة من الشروط والمعايير التي يجب أن يعتمدها الخطيب من أجل التأثير في المتلقي، لكن مع عدم إهمال المكونين الآخريْن، وهما: ( الباطوس واللوغوس ) إذ يدخلان ضمن عناصر التأثير بالإيطوس الذي بعتبر مسيطراً.

ـ مكونات الإقناع بالإيطوس

يمكن تقسيم مكونات الإقناع بالإيطوس إلى ثلاثة رئيسية مع العلم أنها في الأصل خمسة إلا أن الرابع والخامس ليسا بدرجة أهمية المكونات الثلاثة الأولى، وهي:

أولا: الإيجاد، ويعني تحضير ما يُقال من قِبَلِ الخطيب إذ قبل الخوض في الموضوع من الضروري التحضير له قبليا، فالموضوع يختلف وعليه يجب على الخطيب أن يختار الخطة المناسبة للموضوع المُختار فهذا الإجراء يكون في مرحلة الإيجاد الذي يُعرفه “هنريش بليت” بأنه ” فن اكتشاف المواد الحقيقية والمحتملة القادرة على جعل موضوع الخطاب ممكنا ” ، فالإيجاد بمثابة مرحلة التجربة حيث يجرب الخطيب التقنيات والخطوات التي يمكن أن تناسب موضوعه، ويتم استخراج هذه المواد التي تتماشى مع الموضوع من خلال ما يسمى بـ ” المواضع ” التي يجب على الخطيب أن يراجعها بانتظام، وتمثل هذه المواضع مقدمات عامة للحجاج، إذ ينطلق المُحاجج من معطيات مشتركة بينه وبين المتلقي لكي يجذبه منذ البداية، كأن يبدأ الخطيب بإيراد معلومات تاريخية تمثل هوية مشتركة بين المتكلم والمُخاطَب، ونجد مثل هذه الطريقة في كتاب ” مستقبل الثقافة في مصر ” لطه حسين الذي ذكر معلومات تاريخية قديمة تؤكد انتماء ثقافة مصر إلى الثقافة الغربية وهي الدعوى التي حاول ” طه حسين ” أن يقنع بها المتلقي المصري.

ثانيا: الترتيب، ويدخل في نطاق نموذج الإنتاج النصي، فهو فن التنظيم الفعَّال للمواد ( الحجج ) في مجموع الخطاب ، إن الترتيب خطوة أساسية للخطيب ففيها يُنظم حججه وَفق طبيعة الموضوع، وقد قسم أرسطو حجج الإقناع المرتبطة بالخطيب إلى قسمين:

حجج صَناعية ( فنية ) وأخرى غير صَناعية ( غير فنية )، فالأولى ( الصناعية ) تشكل ” بطارية حجاجية ” وهي التي يجب على الخطيب اختزالها واستخراجها ليقنع، وقد سُميت صناعية لكونها من صنع الخطيب فهو الذي يكتشفها، والثانية ( غير الصناعية ) تتمثل في الحجج الجاهزة الموجودة سلفاً، مثل: ( الوثائق، والشهود، والقوانين…) وقد ربط أرسطو هذا النوع من الحجج بالتشاجر؛ أي بالخطاب القضائي بمفهومه المعاصر، حيث يقول: ” وقد ينبغي أن نتبع ذلك من قولنا بالقول في التصديقات التي تسمى غير صناعية. فإن هذه خاصة بالتشاجر ، ويرتبط الترتيب عند أرسطو بأنواع ثلاثة من الخطابات فقط، وهي: ( الخطاب المشاوري، الخطاب المشاجري، الخطاب التثبيتي )، لكن في النظريات الحجاجية المعاصرة تم توسيع هذا المفهوم ليشمل أنواعا أخرى من الخطابات كالرسائل والمواعظ على سبيل المثال، وقد اشتقت قواعد بناء الرسائل والمواعظ من الخطابة، لكن وَفق تصور جديد يتماشى مع نوع وطبيعة الخطاب، فالموعظة ليست هي الخطابة والرسالة ليست هي الموعظة…، وعليه فإن قواعد الترتيب تختلف باختلاف نوع الخطاب.

ثالثا: العبارة ( الأسلوب )، ويضم ثلاثة مجالات: مبادئ الأسلوب، أنماط الأسلوب، ومستويات الأسلوب، إن الأسلوب مرتبط بالخطيب أيضا بوصفه المنتج الرئيسي للإقناع في حجاج الإقناع، وتعتبر هذه المجالات الثلاثة للأسلوب مرتبطة ترابطا شرطيا، ويمكن تمييز أربعة مبادئ للأسلوب في البلاغة المعيارية الكلاسيكية، وهي: المناسبة بين الأسلوب والمقام النصي ( الكاتب، المتلقي، المادة )، ثم الدقة؛ أي مناسبة الأسلوب للاستعمال اللساني المعتمد في عصر معين، ثم الوضوح؛ أي استبعاد تعدد المعاني النصية، بالإضافة إلى الزخرفة؛ أي تزيين الخطاب الطبيعي بالصور الأسلوبية ، هذا فيما يتعلق بحجاج الإقناع الكلاسيكي، أما ما يرتبط بنظريات الحجاج المعاصرة فقد أخذت منحى آخر حيث سعت إلى جعل الأسلوب حجة وليس مكونا تزيينيا للخطابات الأدبية فحسب، ونلمس هذا عند مجموعة من البلاغيين المعاصرين، أمثال: ” أوليفيي روبول ” الذي حاول أن يستدل على حجاجية الأسلوب في الخطابات، لكن يجب الإشارة إلى أمر مهم هنا وهو أن أرسطو تحدث عن الأسلوب بوصفه حجة للإقناع وليس مكونا تزيينيا فقط لكن الذين جاءوا بعده أساءوا فهم تصور أرسطو للأسلوب، لذا فإن جهود البلاغيين المعاصرين لإثبات حجاجية الأسلوب ما هي إلا إعادة بناء لطرح أرسطو، إن هذه العناصر الثلاثة (الإيجاد، الترتيب، الأسلوب) أساسية للإقناع لدى الخطيب فهي شروط وقواعد تهتم بطرق إنتاج الخطاب وكيفية إقناع المتلقي إلى جانب عنصرين آخرين يعتبران مكملين للإقناع، وهما: الإلقاء، والذاكرة، هذا ويمكن إضافة عناصر أخرى منها: ( الحكمة، والفضيلة، والعطف ) فإقناع المتلقي يستوجب من الخطيب أن يكون حكيما وموثوقا فيه بحيث يكون فاضلا، كما يجب أن يكسب عواطف المخاطَب.

ـ الإقناع بالباطوس

إن الإقناع في هذه المرحلة يكون باستهداف عواطف المتلقي من قِبَلِ الخطيب، فهناك دائما حضور للمتكلم فهو يمارس التسلط على المتلقي وذلك بإثارة مشاعره وأحاسيسه، وقد تطرق أرسطو لهذا الأمر في مقال له بعنوان ” كيف نؤثر في نفوس الحكام ” ، فقد حاول أن يبين طرق الإقناع العاطفي في الأنواع الخِطابية الثلاثة التي ذكرناها مع التركيز ـ بشكل كبير ـ على نوعين: المشاوري والمشاجري، فالخطيب في هذين النوعين يكون بإزاء خطاب جماهيري تحضر فيه مختلف فئات المجتمع من عالم وعامي وشيخ وشاب…، لذا لا يمكن الاعتماد في مثل هذا الموقف على العقل ( اللوغوس )، بل إن الرهان الأساسي هو الباطوس ( العواطف ) والإيطوس أيضا خاصة في الخطاب المشاوري السياسي حيث يكون الخطيب رهانا أساسيا للإقناع، إن الهدف من توظيف الخطيب للباطوس،هو ” تحويل الجمهور من حالة نفسية إلى أخرى على النحو الذي يخدم القضية التي يدافع عنها ” ، من خلال هذه الفقرة يتضح لنا أن الباطوس ـ بوصفه حجة إقناعية ـ لا يحضر بنفس النمط في كل الخطابات بل يختلف من خطاب إلى آخر، فقد يلجأ الخطيب إلى رفع حدة العاطفة إلى أقصى درجة في المواقف التي تستدعي هذا الإجراء، وبالمقابل قد يُقلل من هذه العاطفة، إن الباطوس أو ” مقصدية التهييج ” تكمن في البحث عن الانفعالات العنيفة ( الحقد، الألم، الخوف… ) التي تسيطر على الجمهور، إنها لا تمثل مثل الإيطوس انطباعا قاراً ( حالة نفسية )، بل هي تهييج وقتي ( انفجار عاطفة ما ) ، من خلال هذا النص لا يجب أن نفهم الباطوس على أنه تحريك لأحاسيس ومشاعر المتلقي فحسب، بل هو حجة للإقناع يلجأ إليها المتكلم في حالات معينة، ويظهر الباطوس بشكل واضح ـ بحسب أرسطو ـ في جنسين من الخطابات: الخطاب السياسي والخطاب القضائي غير أن نظريات الحجاج المعاصرة وسَّعت لائحة الخطابات التي يحضر فيها الباطوس، مثل: الخطاب الوعظي والخطاب الإشهاري.

ـ الإقناع باللوغوس

يعتمد هذا الإقناع على تقنيات حجاجية عقلية وقياسات منطقية، ويتمثل هذا النوع من الإقناع في جعل موضوع الخطاب ممكنا بالعودة إلى العقل، ويتحقق الإقناع باللوغوس بنوعين من الحجج: الحجة المادية ( غير الصناعية) التي تعتمد على الوقائع الموضوعية، مثل: ( الشواهد، والعقود… )، والحجة المنطقية وشبه المنطقية ( الصناعية )، ويمكن لهذه الحجج إما أن تسير من الخاص إلى العام ( الاستقراء ) أو من العام إلى الخاص (الاستنباط) وما يجب الإشارة إليه هنا أن الإقناع العقلي لا يعني البرهان الذي لا يقبل الجدال، فالحجاج يشتغل في دائرة الرأي والممكن، لذا فإن اللجوء إلى الحجاج العقلي الغرض منه جعل غير المحتمل محتملا، وغير الأكيد أكيدا وذلك نظرا لقوة الحجاج العقلي ونظرا للمصداقية التي يمنحها للخطيب في سعيه إلى إقناع المتلقي، وتجدر الإشارة أيضا إلى أن البلاغة الجديدة تنظر إلى هذه العناصر الثلاثة في الإقناع: ( الإيطوس، الباطوس، اللوغوس ) على أنها متعاضدة ومتداخلة فيما بينها إذ لا يمكن فصل بعضها عن بعض، لكن في عملية تحليل النصوص والخطابات يطغى عنصر عن العناصر الأخرى نظرا لنوعية الخطاب.

ـ سلطة الخطيب في حجاج الإقناع: بين أرسطو ونظريات الحجاج المعاصرة

يشكل الخطيب في ” نظرية الحجاج ” القديمة ـ ونقصد هنا أرسطو بشكل أساسي ـ محورا للإقناع، فكل مولدات الإقناع تعتمد عليه، حيث يتحكم في المتلقي سواء بشخصيته كأن يظهر فاضلا وموثوقا فيه فيكسب المتلقي ويجذبه إليه، وإما أن يثير عواطف الجمهور ومشاعرهم من خلال ترهيبهم كما نلمس في الخطابات الوعظية، وإما أن يستهدف المتلقي بالاعتماد على العقل وعلى قياسات منطقية توهم المتلقي فتجعله يعتقد أن ما يُقَدم إليه حقيقة، فالمسؤول عن هذه الإمكانات الثلاثة للإقناع هو الخطيب عند أرسطو الذي كان في كتابه “الخطابة ” يُعلم الخطباء طرق الإقناع، إذ ركز بشكل كبير على المُرسِل ( الخطيب )، وعليه ـ وتبعا لهذا الطرح ـ يكون المتلقي خاضعا للخطيب فهو لا يمتلك حق الاختيار كأن يقبل أو يرفض، فما فعله أرسطو أنه ابتكر لائحة من القواعد والشروط التي تجعل الخطيب أهلا للإقناع، وقد لخَّصها ” ديل كارنيجي ” في كتابه ” فن الخطابة ” في ما يلي:

( تنمية الشجاعة والثقة بالنفس، فن تحضير الخطاب، تحسين الذاكرة، ثم العناصر الأساسية للخطاب الناجح، سر الإلقاء الجيد، ثم ماله صلة بنبرة صوت الخطيب: كرفع سرعة الصوت في الكلمات المهمة وخفض الصوت في الكلمات غير المهمة…، أن يمتلك الخطيب فوق المنبر حضورا وشخصية، ثم طرق افتتاح الخطاب: كأن لا يبدأ الخطيب بقصة مرحة أو بالاعتذار…، هذا إلى جانب طرق إنهاء الخطاب، ثم كيف يكون الخطيب واضحا في كلامه، وكذلك طرق إثارة الجمهور، بالإضافة إلى طرق تحسين الأسلوب ) ، لقد أخذنا هذه الشروط من فهرس الكتاب، وواضح من خلال هذه المعايير سلطة الخطيب في علاقته مع مُخَاطَبيه، فالأسبقية هي دائما للخطيب لذا يكون في أغلب الأحيان هو المسيطر، وينطوي تحت هذا الإجراء تسلط وسلب للإمكانات الاختيارية للمتلقي. يظهر الخطيب في البداية أنه لا يفرض على المتلقي رأيه، لكنه في العمق يمارس عليه نوعا من العنف غير المباشر، حيث يجذب المتلقي إليه بتوظيف حِيل ماكرة تجعله ( المتلقي ) مقتنعا فيتحول من الإقناع إلى الاقتناع، غير أن هذا الاقتناع لا يكون اختياريا بل إجباريا.

ـ موقف نظريات الحجاج المعاصرة من سلطة الخطيب في الإقناع

ـ كشف المضمر في حجاج الإقناع

لقد تناولت نظريات الحجاج المعاصرة الإقناع من زاوية جديدة فحاولت أن تكشف عن ما وراء الإقناع من خلال التركيز على الشكل الذي يتم بواسطته الإقناع من قبل صانعه، وهو الخطيب، ومن الذين قاموا بهذا الإجراء ” فيليب بروطون ” الذي اعتبر الإقناع نوعا من العنف المضمر على المتلقي، حيث يقول في هذا الصدد: ” يُعد فعل الإقناع غالبا موضعا لعنف معين. فالتطويع النفسي الذي استعمل على سبيل المثال بشكل عريض لأجل الإقناع في بعض أساليب البيع، ينطوي على عنف يُمارس على الآخر ” ، ففي هذه الفقرة يظهر لنا كيف يتم إقناع المتلقي من خلال ممارسة العنف عليه بطريقة غير مباشرة؛ أي من دون أن يعلم، حيث يلجأ المتكلم إلى استخدام حِيل من أجل الإطاحة بالمتلقي، وقد أوضح فيليب بروطون طرق ممارسة الإقناع بمفهوم العنف إذ أورد تقنية ” الإغراء ” كمثال دال على هذا النوع من الإقناع، يقول: ” فالإغراء يُستعمل غالبا لحمل الآخر أو حتى الجماهير بأسرها، على مشاطرة وجهة نظر ما، وعلى هذا النحو تحملنا جاذبية الخطيب إلى التفكير مثله ” ، وغالبا ما يُستعمل الإغراء في الخطابات السياسية حيث يلجأ الخطيب السياسي إلى إغراء الجماهير بمجموعة من الأمور التي تتعلق بمستقبلهم، لأن الرهان الزمني في الخُطب السياسية، هو ” المستقبل “، فمن خلال الإغراء يتمكن الخطيب السياسي من إقناع مخاطبيه بصدق ما يقول مع عدم تحقق قوله في الواقع، وهنا يكمن العنف حيث يتم تحويل الكذب إلى حقيقة فيصدق المتلقي الكذب ويعتبره حقيقة.

يظهر حجاج الإقناع في البداية على أنه يبتعد عن قمع المتلقي؛ بمعنى جعله يقتنع برأي ما من خلال القوة لا المادية وإنما الحجاجية التي لا تقل خطورتها عن القوة المادية، فممارسة الترهيب ـ مثلا ـ من قِبل الخطيب يعني سلب حرية المتلقي في الاختيار، ويمكن أن نمثل لهذا النوع من السلوك الحجاجي بخطب ” الحَجَّاج ” الذي كان يمارس القوة والقمع في خطبه الوعظية من خلال ترهيب المتلقي وجعله يقتنع ” قسراً “، فهنا الإقناع يصبح مرادفا للتسلط والقمع، مع العلم أن أصل الحجاج ” الرأي والاحتمال ” وهو ما نجده في نظرية الحجاج المعاصرة متمثلة في أحد مؤسسيها ” فيليب بروطون ” الذي يقول في هذا الموضوع: ” يبتعد الحِجاج، الذي يُعد وسيلةً متينة لإشراك الآخر في الرأي( الذي يمكن أن ينتج عنه فعل ما) عن ممارسة العنف الإقناعي، كما يبتعد عن الإغراء أو البرهنة العلمية.”


الهامش

1)ـ أرسطو طاليس، الخطابة، حققه وعلق عليه، عبد الرحمن بدوي، دار القلم، بيروت، لبنان، ص: 16 ـ 17

2)ـ فيليب بروطون، الحجاج في التواصل، ترجمة، محمد مشبال وعبد الواحد التهامي العلمي، المركز القومي للترجمة، ط1، 2013م، ص:10

3)ـ نفسه، ص: 18

4)ـ هنريش بليت، البلاغة والأسلوبية: نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، ترجمة محمد العمري، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1999م، ص:36

5)ـ نفسه، ص: 44

6)ـ أرسطو طاليس، الخطابة، ص: 71

7)ـ هنريش بليت، البلاغة والأسلوبية، ص: 49

8)ـ أنظر، محمد العُمري، البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 2012م

9)ـ أرسطو طاليس، الخطابة، ص: 80

10)ـ عبد المالك خلف التميمي وآخرون، مجلة عالم الفكر، المجلد40، العدد2، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2011م، ص:241

11)ـ هنريش بليت، البلاغة والأسلوبية، ص: 27

12)ـ نفسه، ص: 25 ـ 26

13)ـ ديل كارنيجي، فن الخطابة، الأهلية، الطبعة العربية الأولى، 2001م، ص: 173 ـ 176

14)ـ فيليب بروطون، الحجاج في التواصل، ص: 24

15)ـ نفسه، ص: 25

16)ـ نفسه، ص: 26


صلاح الدين أشرقي – طالب باحث في سلك الدكتوراه في جامعة محمد الأول بالمغرب

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page