رباعيات الخيام .. روعة الانتشاء ولوعة الفناء
غدونا لذي الأفلاك لعبة لاعـــب
أقول مقالا لست فيه بكــــــــاذب
على نطع هذا الكون قد لعبت بنا
وعدنا لصندوق الفنا بالتعاقــــب
عمر بن إبراهيم الخيام
إذا كان المعري في الشعر العربي هو “شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء” ذلك أنه ضمن شعره آراءه الفلسفية في الحياة وخلاصة تأملاته وقراءاته في الفكر الفلسفي وقد جمع ذلك كله في “اللزوميات”، فحق لشاعر نيسابور وعالمها عمر الخيام أن يدعى شاعر العلماء وعالم الشعراء، فقد جمع بين العلم الدقيق والفن الأصيل وزاوج بين التأمل في العدد والتأمل في الوجود، فجاء في شعره كما جاء في علمه فرادة إبداع وأصالة فكر وصدق فراسة وحرارة وجدان، وحق لزبدة إبداعه الشعري المعروفة بـ “الرباعيات” أن تنال مرتبة الخلود ومرتبة العالمية، ذلك أنها خير ما أبدعته فارس من الشعر الجامع بين عمق الفكرة وجمال العبارة وصدق الشعور وحق لعمر الخيام أن يستوي بين شعراء فارس شاعرا فذا من كبار شعراء الإنسانية وأن تكون رباعياته زادا فكريا وجماليا وإنسانيا خير ما تهديه فارس إلى العالم .
وحياة الخيام غامضة لا نعرف عنها الكثير وأول شك ينتاب الباحث هو تحديد تاريخ ميلاده وقد تضاربت الروايات في ذلك ومن المرجح أنه ولد في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وقد عاش في زمن السلاجقة.
وهو عصر تميز بالإحن والدسائس والاغتيالات،وأما لقب الخيام الذي اشتهر به فقيل أن والده كان صانع خيام، ولقد عرف الخيام منذ حداثة عهده بالألمعية والذكاء، فحفظ القرآن الكريم وأتقن علوم اللغة والدين وآنس من نفسه الميل إلى الرياضيات والفلك فأبدع فيهما وبهما طار ذكره في البلاد الإسلامية وقربه الملوك والرؤساء وكان السلطان ملك شاه السلجوقي ينزله منزلة الندماء والخاقان شمس الملوك ببخارى يعظمه ويجلسه معه على سريره، وأما أصدقاؤه في شبابه فهما “نظام الملك”
و”حسن الصباح” الداعية الفاطمي الذي فر إلى “ألموت” وهي قلعة أسس فيها حكم” الإسماعيليين” الذين قضى عليهم “هولاكو” عام 1256 م ولما استوزر ” نظام الملك ” جعل لصديقه عمر عشرة آلاف دينارا من دخل نيسابور إجلالا لمقامه وتقديرا لعلمه، ووفاء لميثاق الصداقة بينهما ، ثم اغتيل نظام الملك وانقطع دخل الخيام وقدحت العامة في دينه ورمته بالزندقة فلزم التقية، واختلف مؤرخو زمانه في عقيدته وسيرته قال فيه البيهقي: ” أنه تلو ابن سينا في أجزاء علوم الحكمة وعرفه بالإمام وحجة الحق غير أنه أضاف أنه كان سيء الخلق ضيق العطن وكان يتخلل بخلال من ذهب، أما ابن الأثير في الكامل فذكر أنه أحد المنجمين عملوا الرصد للسلطان ملك شاه السلجوقي سنة 467 هـ وقال عنه القفطي في تاريخ حكماء الإسلام :” إمام خراسان وعلامة الزمان يعلم علم يونان، ويحث على طلب الواحد الديان، بتطهير الحركات البدنية لتنزيه النفس الإنسانية” وأما وفاة الخيام فمنهم من يجعلها سنة 515 هـ الموافق لـ1121 م ومنهم من يجعلها سنة 526هـ الموافق لـ 1132 م ومن مآثر الخيام العلمية ” شرح ما يشكل من هندسة إقليدس” و”مقالة في الجبر والمقابلة”، إضافة إلى أرصاده وأزياجه الفلكية.
وقد قامت شهرة الخيام على الرباعيات وهي تلك المقطوعات الشعرية المقسمة إلى أربعة أبيات ضمنها فلسفته في الوجود والملاحظ في الرباعيات هو اتفاق البيت الأول والثاني والرابع في الروي واستقلال البيت الثالث برويه وهو ما يشبه كثيرا الدوبيت الرباعي الفارسي الأصل.
ولئن اختلف نقاد الأدب ودارسو حياة الخيام في صحة نسبة الرباعيات إليه أو بعضها، فمن قائل أنها ليست لعمر الخيام الرياضي، وإنما لشاعر آخر بهذا الاسم، إلى ناقد آخر يزعم أن بعضها تصح نسبتها إليه، وبعضها الآخر مدسوس عليه خصوصا ما تعلق بالإشارة إلى الغيب والقدر والإيمان والبعث، وقد تعمد كثيرون تشويه صورة الخيام غيرة وحسدا فنظموا شعرا ونسبوه إليه حتى تثور عليه العامة وينتهي أمره إلى الحاكم الذي سيأمر بقتله رميا بالزندقة، وفي أدبنا نظير لذلك، فالمعري دس عليه الكثيرون شعرا لم يقله يثور فيه على الأديان بل يسفهها وينتقد الرسل ويشكك في عالم الغيب غير أن المعري برئ من ذلك ، ومن قائل أن كثيرا من محبي الخيام والمتحمسين له كلما وجدوا شعرا على شاكلة الرباعيات وخفي عليهم قائله نسبوه إليه عن حسن نية.
ولاشك أن استقصاء الأمر صعب وتتبع مسارب التاريخ المظلمة في ظل غياب الوثائق التاريخية التي تنير حلكاته يجعل من الأمر شبه مستحيل !
ولقد رأى نقاد الأدب عندنا وشعراؤنا المحدثون الرأي الأول أي صحة نسبة بعض الرباعيات إلى الخيام وإنكار البعض الآخر وتحمسوا لها تحمسا منقطع النظير، والحق أن الرباعيات تحفة فنية وكنز أدبي حقيق بالخلود وحقيق بالعالمية لأن مضمونها إنساني، على الرغم من تأخر اكتشاف ذلك ولسكوت فيتزجرالد Scott Fitzgerald الإنجليزي دالة على الخيام فهو الذي اكتشفها ودرسها وتحمس لها وترجمها إلى الإنجليزية فأحدثت دويا كبيرا تجاوز إنجلترا إلى أروبا وأمريكا ، بل أسس فيتزجرالد ناديا في لندن سماه ” نادي الخيام ” ضم كل محبي الخيام وشعره ، ولم يكتف بذلك بل سافر إلى مسقط رأس الخيام وزار قبره وأحضر معه زهرة من الزهور الحافة من حول القبر وغرسها في ناديه بلندن حتى تنفحهم بأريج الشاعر وأريج رباعياته ، ودعك من الأسطورة التي روج لها الكثيرون من محبي الخيام والتي تزعم أن الخيام تنبأ في حياته بنمو نوع معين من الزهور حول قبره ، وهذا اللون من القصص نعرف المغزى منه، فالشخصية التاريخية يخلق محبوها أساطير حولها حتى يستلوا مشاعر الإعجاب من الناس ويخلقوا هالة من القداسة لأن النفس المحبة تنزع إلى أن تشاركها الأنفس مشاعرها ، غير أن الناقد الحصيف لا يفوته ذلك ،وباكتشاف فيتزجرالد للخيام وترجمته لرباعياته تنبه أدباؤنا ونقادنا إلى قيمة الرباعيات ومضمونها الإنساني وغناها الشعوري وقيمها الفنية والجمالية وتحمسوا لنقلها إلى لغة الضاد ومنهم من عربها عن الإنجليزية كمحمد السباعي ومنهم من عربها عن الفارسية كالشاعر المصري أحمد رامي الذي سافر إلى باريس لدراسة اللغة الفارسية عامين منقبا وباحثا في الأدب الفارسي ورباعيات الخيام تحديدا ، وعقب عودته عين أمينا بدار الكتب المصرية وكان قد تهيأ له زاد أدبي فأسقط كثيرا من الرباعيات وعرب ما وثق أنه تصح نسبته إلى الخيام وقد شاعت هذه الترجمة بعد أن غنت أم كلثوم بعضا منها .
وربما كان في ترجمة رامي بعض التصرف غير أنه سعى جهده حتى لا يتقول على الخيام ما لم يقله وأن يخرج عن روح الرباعيات ساعيا جهده في ذات الوقت أن تكون الرباعيات في العربية تحفة بيانية وإنسانية وغير السباعي ورامي من الذين ترجموا الرباعيات الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي وأحمد الصافي النجفي وقد عرباها عن الفارسية، ووديع البستاني والشاعر البحريني إبراهيم العريض الذي توفي حديثا وقد عرباها عن الإنجليزية ، وليست هذه هي كل الترجمات إنما المشهور منها وستبقى بسحرها ومضمونها الإنساني وحيرتها الوجودية مصدر إغراء للأدباء العرب على مر الأجيال وكر الدهور بنقلها كرة أخرى إلى العربية إمعانا في الدقة والقرب من روحها وروح مبتكرها .
فرباعيات الخيام إذا ترنيمة حزينة تنعى إلينا زوال الإنسان وهيمنة الزمن وقهره للموجودات وانقلاب لحظات المتعة شقوة وهيمنة الزمن وقهره للموجودات وانقلاب لحظات الإنسان مجرد ذكرى شأن الجذوة تشع نارا ونورا ثم تخبو رمادا والإنسان لا حول له ولا قوة أمام هذا القهر الكوني المتجلي في الموت الذي يطال بسيفه الإنسان ثمرة الوجود ومكمن العبقرية وسر الحياة ومستودع المشاعر فيغدو ذلك الكائن رهين اللحد والدود والظلام الأبدي كأن لم يكن بالأمس ذلك الشاعر أو العالم أو الحاكم أو الفقيه أو الثري الذي ملأ الأسماع والأبصار، وتغدو لحظات صفوه
وأنسه مجرد ذكرى، فما الذي ينقذ الإنسان من هذا المأزق الوجودي؟ لا شيء غير طلب النشوة التي تهيؤها الخمرة والبهجة التي ينشرها مجلس أنس وذلك عزاؤه وذريعته إلى تناسي فجيعة الموت مادام ليس في الإمكان تفادي قبضته . قال الخيام (من ترجمة إبراهيم العريض من المتقارب):
فهات حبيبي لي الكأس هــــات
سأنسى لــــــها كـل ماض وآت
غــدا ويح نفسي غدا قد أعــود
وأعرقهم في البلى من لداتــي
ويقول أيضا:
أفق يا نديم استهل الصبـــــاح
و باكر صبوحك نخب الملاح
فمكثك بين الندامى قليــــــــــل
ولا رجعة لك بعد الـــــــرواح
وليست فجيعة الزوال مشاعر حوم حولها الخيام لوحده فطرفة بن العبد الشاعر الجاهلي الذي قتل في سن السادسة والعشرين تناول ذلك في
شعره :
ألا أيهذا الزاجري أن أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي ؟
فإن كــنت لا تستــطيع دفــع منيتـي
فـــدعني أبــادرها بما مـــلكت يدي
ويقول كذلك :
لعمرك إن الموت ما أخـــطأ الفتى
لكـــالطول المرخى وثنياه باليــــــد
متى مــــا يشــأ يومـــا يقده لحتـــفه
ومــن يــك في حبل المنية ينـــــــقد
غير أن الخيام يمتاز عن طرفة وغيره ممن تناولوا فجيعة الرحيل بإبداع معمار فني ضمنه فلسفته الوجودية من المقطع الأول إلى المقطع الأخير دون أن ينصرف إلى أشياء أخرى أو يتناقض مع نفسه وذلك هو امتيازه الكبير.
وللخمرة حضور قوي في الرباعيات بل هي محورها الأساسي أليست مهوى القلوب ومطلب الأنفس الشاعرة وملجأ المعذبين يتوسلون بها عرائس الشعر علها تجود عليهم بآيات العبقرية بل حتى المتصوفة وهم رهط من الناس انقطع إلى العبادة والتأمل والمجاهدة طلبا للعرفان وقد عرف هذا الرهط بالتقوى وقيام الليل وما ذاقوا خمرة في حياتهم قط، لم يجدوا غير الكرمة والخمرة والكأس يكنون بها عن الحب الإلهي والانتشاء به، متناسين دنياهم منقطعين عن العالم متوحدين في الأباطح والقلل،ألم يقل ابن الفارض مكنيا بالخمرة عن الحب الإلهي:
شربنا على ذكر الحبيب مدامـــــــة
سكرنا بها من قبل أن تخلق الكـــرم
صفاء ولا مــاء ولطف ولا هـــــــوا
ونـور ولا نــــار وروح ولا جسم !
وقــالوا شربت الإثم كلا وإنمـــــــــا
شربت التي في تركها عندي الإثــم !
أما خمرة الخيام فهي بنت الكروم وقعيدة الدنان، هي خمرة حقيقية وليست مجازية هي سلوى الراحل وعزاؤه وذريعته إلى النسيان بها تقر عينه وتنتشي نفسه، ويسكن رأسه فلا جرم أن يطلبها ملحا في طلبها قبل ساعة الرحيل:
سيحيا لحبك قلبي المــــــــعنى
لـجورك مادام وعدك مــــــــــنا
لطرفك يسقي مع الخمر خـــمرا
فـيبدع فــــــــــــــنا وأبدع فـــنا
ثم يضيف:
فـــــجدد مع الكأس عهد غرامك
وحــــــــل مرارتها بابتسامــــــك
وعجل فجوقة هذي الطــــــــــيور
قد لا تطيل الطواف بجامــــــــــك
وأما المقاطع التي تغنت بها سيدة الغناء العربي وكوكب الشرق الراحلة السيدة أم كلثوم ومن ترجمة صديق عمرها الشاعر الكبير أحمد رامي فمن البيت الأول يبدأ حديث الخمرة والزوال غير أن أم كلثوم وصاحبة العصمة كما كانت تدعى، والتي كانت تتمنع عن الغناء في مكان تدور فيه الصهباء وهي المعروفة بعفافها وتقواها وحرصها على أداء الصلاة، وقد تميزت عن جل المغنيين في زمنها بثقافة أدبية عريقة، وذوق فني عالي غذته بقراءة دواوين فحول الشعراء وأمهات كتب الأدب كالأغاني والعقد الفريد وخزانة الأدب وغيرها من كتب الأدب، ولم تشأ أن تذكر الخمرة فيما تغنت به من شعر الخيام فغيرت كلمة” الحان” إلى كلمة “الغيب” وعدلت عن كلمة “الطلى” إلى “المنى” فغنته وفقا لسلوكها وشخصيتها .
قال الخيام من ترجمة رامي من بحر السريع كما تغنت به أم كلثوم:
سمعت صوتا هاتفا في الســــــحر
نادى من الغيب غفاة البشــــــــــر
هبوا املأوا كــأس ا لمنى قبل أن
تفعم كأس العـــــــــــمر كف القدر
وأما ترجمة العريض عن النص الإنجليزي لهذا المقطع بالذات فجاءت هكذا (من المتقارب):
لقد صاح بي هاتف في السبات
أفيقوا لرشف الطلى ياغفـــــــاة
فما حقق العـــــمر مثل الحباب
ولا جدد العمر مثل الســــــــــقاة
وبين المقطعين اختلاف في إصابة المعنى الذي أراده الخيام والراجح أن رامي الأقرب إلى إصابة المعنى باعتباره عربه عن الفارسية رأسا، غير أن هذا يخلق إشكالية في الأدب تذهب حد اتهام الترجمة بالخيانة أي خيانة النص الأصلي والخروج عن معانيه الدقيقة وذلك راجع لاختلاف روح اللغة المترجم عنها والمترجم إليها، وقد كان الجاحظ يرى أن الشعر لا يترجم بهذا المعنى !
لقد كان الخيام إذا عقلا باحثا في علة الوجود ونفسا لا تركن إلى يقين، وأراد أن يتجاوز في فهمه للوجود النصوص الدينية معتمدا على تفكيره الحر وثقافته الفلسفية التي استمدها من الفكر اليوناني وربما الهندي وهو من الذين يحق عليهم قول أبي الطيب :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وفي الرباعيات إشارة إلى مكابدة المعرفة وجحيم الشك والمجاهدة في سبيل اليقين لولا أن العمر لا يفي بذلك (من السريع):
أحس في النفس دبيب الفــــــــــــناء
ولـــــــــم أجن من العيش إلا الشقاء
يا حسرتا إن حان حيني ولم يتـــــح
لعقلي حل لـــــــــــــــــغز القضاء
وهو في شعره يسمح لعقله بأن يوغل في التفكير في مسائل الغيب وتقليب الأمر على وجوهه كمجيء الإنسان إلى الدنيا اضطرارا والغاية منه، لكن التفكير لا ينتهي بالشاعر إلى يقين:
قال الخيام( من ترجمة رامي من السريع):
لـــــبست ثوب العيش لم أستــــــــــشر
وحــرت فيه بــــين شتى الفــــــــــــكر
وسوف أنضو الثوب عني يوما ولــــم
أدرك لـماذا جئت، أين الـــــــــــــمفر؟
فليطلب الشاعر شيئا من العزاء في حضرة الكأس، ألا إن لحظات النشوة بدل من خلود فما أغلاها من بدل والخمرة تثير في النفس قابليات صوفية، فقد نص وليم جيمس على أن قوة الكحول راجعة بلا شك إلى قدرته على إثارة القابليات الصوفية وهي ذلك المد من الطوفان الذي ينبثق من الدفء الداخلي والنشاط الحي وهي مستعصية في أوقات الصحو لارتباطها بالمتطلبات والشكوك والانطباعات الذاتية وقوة الكحول تأتي من قدرته على شل هذه الديدان الماصة للحيوية، تاركة الحرارة الحيوية لتتجمع وتشكل نوعا من الخزان الداخلي الذي هو في مضمونه تركيز للطاقات للوصول إلى لحظة “الذاتية الداخلية” .
والخيام الشاعر كما يحتفي بالخمرة يحتفي بالجمال ذلك أن قدرة الخمرة في إحداث التركيز تتيح للشاعر طرح كل همومه وأحزانه ووساوسه والتأمل في الجمال والإحساس به وتذوقه في الطبيعة والإنسان، وقد عشق الخيام الفتاة” نسرين” والتي اقتبست من الزهر اسمه وشذاه وجماله لولا أن عصفت بها ريح المنون في مقتبل العمر فأورثت الشاعر حسرة وعمقت فيه الإحساس بجبروت القدر وقهره وعدم استجابته لرغائب النفس وأحلامها، وفي أحضان الجمال يسهو الشاعر قليلا عن لوعة الفناء ومن ترجمة العريض من (المتقارب) يقول الشاعر :
ويا ليت شعري أ تلك الزهــور
عرائس نعمى جلتها الســـتور
فمن قبلة الشمس هذا الحـــياء
ومن لؤلؤ الطل ذاك السرور؟
وجوهر الجمال هو النزوع إليه وتعشقه تعشق الفراش للنور والهيام به لأن في الحب سلوى عن زوال الموجود:
قال الخيام من ترجمة رامي (من السريع):
أولى بــهذا القلب أن يخــــــفقا
وفي ضـــرام العشق أن يحرقا
مــا أضيع اليوم الذي مــــربي
من غير أن أهوى وأن أعشقا !
وفي الرباعيات ظاهرة لا يمكن إغفالها تتعلق بنقد الناس والتنديد بالنفاق وتعلق الناس بالمظاهر مهملين الجوهر، ويبدو أن الشاعر عانى من ألسنة الناس وخاصة عوامهم كما عانى من مطاردة الفقهاء له الذين ربما رموه بالمروق عن الدين والفسق والعربدة، ولذا صب الخيام جام غضبه على هؤلاء الناس متهما إياهم بالنفاق، واقرأ ذلك كله في هذين البيتين من ترجمة جميل صدقي الزهاوي( من الخفيف):
قال شيخ لــمومس أنت سكرى
كل آن بصاحب لك وجـــــــــد
قال إني حـــــــقا كما قلت لكن
أنت حقا كما للناس تــــــــبدو؟
ومع تصريح الشاعر بطلب المتعة والنشوة تناسيا لأوصاب الوجود وجحيم الشك وعذاب الفكر وسلاطة ألسنة الناس ظل في عقله الباطن يحمل تبعة الإحساس بالذنب وهو المسلم الذي يتلو من القرآن آيات تنص على حرمة الخمر واعتبارها من الموبقات، وعن العذاب الذي أعده الله لمتعاطيها إن لم يكفوا عنها،غير أن الشاعر سيجازف بطلبها إلى آخر رمق من حياته معتمدا على إيمانه بالله وبوحدانيته وعلى فعله المعروف وإحسانه إلى الفقراء ليسلم من النقمة وفوق ذلك كله ملتمسا عفو الله الذي أوصى عباده أن لا يسرفوا على أنفسهم لأن الله يغفر الذنوب جميعا.
قال الخيام من ترجمة مصطفى وهبي التل( من الطويل):
إلــــــــهي قل لي من خلا من خطيئة
وكيف ترى عاش البرئ من الذنب ؟
إذا كنـت تــــجزي الذنب بمـــــــــثله
فـمـــا الــفـرق بـيـنـك وبـيـني يا ربي؟
فليسع الشاعر إلى الحان طالبا لحظات الصفو مع ندمائه، ملتمسا السعادة من دنان بنت الحان وليشفع له إيمانه بالله ووحدانيته، كما قال من ترجمة العريض (من المتقارب):
لئن قمت في البعث صفر اليدين
وعطــــــــل سفري من كل زين
فيشـــفع لـــي أنـــني لم أكــــــن
لأشرك بالله طرفة عيـــــــــــــن
وذلك ما حدا بالشاعر إلى اختتام رباعياته بتلك الأبيات التي تنم عن حرارة إيمانية وتسليم بوحدانية الله وأمل في عفوه متوسمة عطفه ورحمته:
يا عـــــالم الأسرار علم اليقين
يا كاشف الضر عن البائسين
فئنا إلى ظلك فــــــــاقبل عن
عـــبــــادك تــــوبة التـــائبين
وهي عودة إلى شاطئ الإيمان بعد التيه في أقيانوس التفكير وفيافي التأمل والبحران وما يلقى صاحبه من مكابدة ومجاهدة وعذاب نفسي كبير ولربما استعان الشاعر بيقين الرياضيات على شكوك الإنسانيات ولربما أعطته نتائج الرياضيات بعض الراحة والعزاء فأوغل في هذا العلم إيغالا منقطع النظير فتوصل إلى نتائج قيدت باسمه كحل معادلة من الدرجة الثالثة بواسطة قطع المخروط، وطبق الرياضة على الفلك ذلك العلم الذي يعني في لاوعيه المطلق والسامي والعالم الحر بلا حدود وهي مفاهيم يتعشقها الخيام، وله في الفلك بحوث جديرة بالإعجاب والتقدير، ولربما استعان الشاعر بالخمرة كما يرى وليم جيمس حتى يصل إلى مرتبة الذاتية الداخلية ويشل في نفسه وعقله كل الديدان الماصة للحيوية فيندغم بنشوة الخمرة في الوجود فتصبح الذات والموضوع واحدا، خاصة إذا رأى الإنسان أن المعرفة لا تنتهي بالإنسان إلى معرفة كل ما يجهله لأن العمر ذاته قصير ألم يقل المتنبي ذات مرة:
ومن تفكر في الدنيا ومهجــــته
أقامه الفكر بين العجز والتعب !
ومن ثمة يغدو الإحساس بالوجود وبمحاولة الاندغام فيه ومعالجته بالذوق خير ما يسعف المتأمل إذا استعصى عليه تحويل الوجود إلى موضوع يشبعه بحثا ودرسا واستقصاء .
كذلك كان الخيام في علمه وفي شعره وفي سيرة حياته عقلا جبارا لايني يفكر ويدرس ويستقصي، وقلبا إنسانيا رقيقا انطوى على أنبل المشاعر، ونفسا إنسانية كذلك رهيفة نأت عن النفاق والأنانية والكذب والحسد والشره وهي من أرذل الصفات التي ندد الخيام بها.
ولقد أهدى إلينا فتى نيسابور” الرباعيات” وهي في رأينا أجود آثاره وأجل أعماله، ذلك أن العلم الرياضي والفلكي اللذين مارسهما الشاعر تجاوزهما العلم الحديث ولم تعد لهما من قيمة- اللهم إلا تتبع تاريخيهما وآلية تطوريهما – ولقد أهدى إلينا شعراؤنا وأدباؤنا رباعيات الخيام في حلة عربية قشيبة فكانت في العربية كما كانت في الفارسية آية من آيات البيان والفكر والشعور .