ما بعد البنيوية
بدأت البنيوية في الانهيار في أوائل السبعينات من القرن العشرين، وظهر مكانها في فرنسة ما اصطلح على تسميته “ما بعد البنيوية”. وكان رولان بارت وجاك دريدا أهم فلاسفتها.
وكان بارت قد تحول عن البنيوية إلى ما بعد البنيوية، وانتقل في دراسته من أهمية الكاتب في تركيب النص الأدبي باعتماد معايير وبنى جاهزة الصنع إلى دور قارئ النص في توليد معاني جديدة لا نهاية لها.
وجاء هذا في مقالته «موت كاتب» (1968) La mort d’un auteur التي أعلن فيها استقلالية النص وحصانته ضد أي تقييد له بمعايير أو بحدود مضمونة أو بحدود ما قصده الكاتب منه، فيصبح القارئ بهذا هو المنتج للنص ولمعان متجددة فيه.
يؤكد بارت في كتابه «متعة النص» (1975) Le plaisir du texte أنه في غياب الكاتب تصبح عملية إيجاد تأويلات للنص عملية عبثية لا نهاية لها، لكنها ممتعة، وتأتي المتعة من امتلاك النص لإمكانات «اللعب» بالمعاني. ولكن هذا لا يعني تخلياً فوضوياً عن كل القيود، وإنما تفكيكاً وهدماً منظمين لإنتاج معان أخرى، وكأن القارئ يعيد كتابة النص، فيصبح منتجاً له وليس مستهلكاً، وهذا أساس المذهب التفكيكي، الذي طوره ديريدا، وهو أساس «مابعد البنيوية».
كان لمقالة ديريدا الشهيرة «البنية والدال واللعب في خطاب العلوم الإنسانية» (1966) أكبر الأثر في الخطاب ما بعد البنيوي، إذ شكك فيها بأسس البنيوية بقوله: «لكي لا تنهار يجب أن يكون لها مركز خارج هذه البنى»، ووجود هذا المركز يدحض فكرة البنيوية ويظهر تناقضها من الداخل.
وهو يرى أن هذا المركز غير ثابت، فمثلاً إذا نظرنا إلى المتضادات الثنائية على أنها الأحجار التي تشكل البنى، نرى أنها تعمل بصورة نسقية هرمية إذ تسيطر واحدة على الأخرى وتتمايز عنها (مثل ثنائية ذكر/ انثى)، ولكن إذا قلبت علامة التمايز هذه يتولد منطق تفكيكي يهدم البنية ويهز استقرارها ليعيد خلق معان جديدة دائمة التغير.
وإضافة إلى ديريدا كان فوكو Foucault ولاكان Lacan، في مجال التحليل النفسي، ناشطَين في حركة مابعد البنيوية على الرغم من أنهما كانا في البداية بنيويين، إذ طرح فوكو في كتاباته نظريته بأن أي نظام علاماتي لا يمكن أن يعمل بمعزل عن علاقات السيطرة التي تربط المفاهيم ببعضها، وطرح لاكان أن اللاوعي وليد اللغة وليس العكس.
وفي حين يرى البنيويون أن الإنسان لا يملك وسيلة للوصول إلى الحقيقة إلا عبر اللغة وبنيتها وليس العكس، فإن ما بعد البنيويين يرون أنه من المستحيل الوصول إلى الحقيقة، حتى عبر اللغة، فكل شيء تابع «لميتافيزيقية الوجود» والدال الكلامي مائع يسبح دائماً بعيداً ومتحرراً عن المدلول.
وبهذا تصبح اللغة مائعة قابلة «للانزلاق» و«للانسكاب»، والعلامات تتركب عشوائياً، لأنها تملك ديناميكية لا تظهر إلا في النص المكتوب، حيث تعيد تشكيل وخلق معان جديدة ضد المعنى الظاهر، ولاسيما أن النص يبقى بعد موت الكاتب، فيعمل النص ضد ذاته.
وهكذا لا يمكن لمعاني الكلمات أن تكون ثابتة، فالكلمات مشوبة بعكوساتها، مثلاً: لا يمكن إدراك «الليل» إلا بالرجوع لمفهوم «النهار». وقلب العلامة بين المتضادات يؤدي إلى عدم استقرار اللغة الذي هو أساس فلسفة «ما بعد البنيوية» التي تركز على قراءة النص ضد نفسه، والبحث عن «لاوحدته» بدل وحدته، وعما كتب فيه في «اللاوعي» بدل الظاهر السطحي.
وقد تأثر ما بعد البنيويين بفلسفة نيتشه وهايدگر وفرويد الذين رأوا فقدان «المركز» في عالمنا الفكري، بالمقارنة مع عصر النهضة الذي كان الإنسان فيه هو المركز به يقاس كل شيء؛ فإنسان القرن العشرين فقد هذا «المركز» في عملية عدم تمركز، بسبب الأحداث السياسية مثل الحرب العالمية التي كانت نهاية الوهم بأن أوربة هي مركز الحضارات والثقافات، أو بسبب ثورة الاكتشافات العلمية مثل التوصل إلى نظرية النسبية التي قضت على مفهوم أن الوقت والزمان مطلقان مركزيان، أوبسبب الثورة الفكرية والفنية مثل حركة الحداثة في الفن والأدب التي رفضت الانسجام في الموسيقى والسرد الزمني ووحدة النص في الرواية.
ففي عالم ما بعد البنيوي؛ لا يوجد مركزية ثابتة للأشياء ولا نقاط ثابتة مطلقة، فالكون الذي نعيش فيه لا تمركزي ونسبي في طبيعته، وهذا يعطي حرية «اللعب» بخلق مراكز جديدة متغيرة باستمرار إلى مالا نهاية. وهكذا لا توجد حقائق أكيدة، وإنما تفسيرات وتأويلات، لا يمكن لأي منها أن يدعي الصحة أو السيطرة أو الثبات. ولا يزال هناك جدل كبير حول إذا ما كانت ما بعد البنيوية امتداداً للبنيوية أم ثورة عليها، ومع أن ما بعد البنيوية سيطرت وتفوقت على البنيوية إلا أنها يمكن أن تُعد مجرد مراجعة وصياغة جديدة لها.