وفُتحت القسطنطينية .. هكذا صوّر ياقوت الحموي ياقوتة الحضارات
عندما يقترن اسم القسطنطينية بياقوت الحموي يزداد البهاء بهاء، فهذه عاصمة الحضارات وذلك الجغرافي الأديب، وهذه مدينة السحر والجمال الأخاذ، قيل عنها ليت جمالها شعر يكتب، وذلك الرحالة الشاعر والخطاط اللغوي، وزد في كليهما وصفا ومديحا.
- “حُباشة”.. المجهولة التي صنعت شهرة المدائن
هنا مدينة القسطنطينية، وهناك الكتاب الذي يُعدّ واحدا من أهم الموسوعات العلمية في وصف المدن والبلدان، ودرّة من درر التراث العربي، وهذا هو المؤلف شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي البغدادي الرومي، أصله رومي ولد في الأناضول، وأُخذ أسيرا في عمر السادسة.
بيع ياقوت إلى تاجر حموي في بغداد، فقام بتعليمه وتدريسه وأتاح له فرصة لتحصيل العلم، وبعد ذلك شاركه تجارته وعمل في أماكن عدة كجزيرة الشتاء وخليج البصرة وفي سوريا ومصر وخراسان، وتجوّل في إيران، يقول أستاذ الحضارة الإسلامية جاسم أوجي: اقترن اسم ياقوت الحموي بحماة نسبة إلى سيده عسكر الحموي، لكنه عاش في بغداد.
أكسبته أسفاره موسوعة معرفية خاصة أثناء مكوثه في مَرو التي كانت عاصمة الخلافة في زمن الخليفة العباسي المأمون، وعُرفت بعظمتها وكثرة مكتباتها، وذكر ياقوت أن فيها عشر مكتبات تزخر بالكتب.
أما سبب تأليفه كتاب معجم البلدان فهي قصة ظريفة، إذ أنه أثناء مكوثه في خراسان في مجلس علم، ذُكر اسم “حُباشة” وهي منطقة بين مكة واليمن، وكانت سوقا قبل الإسلام، فاعترض المحدّث على ياقوت، وقال له حَباشة بفتح الحاء لا بضمها، ورأى ياقوت الحموي أن عليه أن يقوم بتأليف كتاب يسد هذه الثغرة، فقام بتأليف معجم البلدان.
المستشرقون يقولون: حُق للمسلمين أن يفخروا بموسوعة ياقوت الحموي
- معجم ياقوت.. أعظم موسوعات الجغرافيا
رتب ياقوت معجمه حسب الحروف الأبجدية، وأكثر ما وقف عنده أسماء المدن، فكان يذكر المصطلح الجغرافي وعند عنوان كل مادة يجعل الموضوع الأول والأكثر أهمية هو كيفية لفظ اسم المدينة.
وقد ذكر في كتابه كل مظاهر الطبيعة، يقول البروفيسور رمضان شيش إن ياقوت أنهى كتابة معجمه بين عامي 1224 و1225 الميلاديين، والكتاب عبارة عن مجموعة جغرافية لا مثيل لها في التراث العربي.
فقد كتبه بلغة علمية ورتبه أبجديا، وضم الكتاب بين جلدتيه نحو 12900 موقع ومكان، وكان يذكر عند كل مكان موقعه على خطوط الطول والعرض، ثم يشرح ما يتعلق بموقع الدولة وتاريخها باختصار، ويدوّن مواقع وأسماء الأبنية الموجودة هناك.
حقق كتابه -المكوّن من خمسة مجلدات إضافة إلى مجلديْ فهارس- شهرة في بلاد الإسلام وخارجها، وتوجد منه طبعات مختلفة تتضمن المحتوى الأساسي، وهو أكبر كتاب موسوعي متخصص ألّفه عالم مسلم.
ويصفه الدكتور سعيد الصباغ الباحث في معهد فؤاد سيسكن بإسطنبول: يُعد معجم البلدان من أهم كتب التاريخ والجغرافيا العربية، فقد كانت الجغرافيا عند المسلمين تختلف عن الجغرافيا في يومنا هذا.
وكان يجب على الجغرافي أن يكون عالم فلك ودارسا للرياضيات، وعليه أن يتمتع بالكثير من المواهب، وقد احتوى الكتاب على الكثير من العلوم واللغة والأدب والتاريخ، وهو موسوعة شهد لها المستشرقون إذ يقول أحدهم: يحق للإسلام أن يفخر بهذه الموسوعة.
وقد اكتشف أول مخطوطاته أحد المستشرقين الألمان واسمه “هنري”، وقد أخذ يبحث عن أجزائه وسافر إلى إنجلترا وباريس والعديد من الدول، وجمع 12 نسخة للمعجم. واهتم الغرب بالكتاب كثيرا، وقد طُبع للمرة الأولى عام 1880 على يد المستشرق “ويستنفلد”، ثم طُبع في “مارغوليوس” وبعدها طبع في مصر ولبنان.
تمثال لقسطنطينيوس مؤسس المدينة وهو يمتطي حصانا ويحمل بيده اليسرى كرة معدنية
- قسطنطينيوس.. الفارس الذي بنى عاصمة الحضارات
أما المدينة، فهي إسطنبول حاضرة الحواضر وعاصمة الحضارات، يقول عنها الحموي في كتابه: هي القسطنطينية ويقال القسطنطينة بإسقاط الياء الثانية.
وهنا يقول الدكتور جاسم أوجي: لقد ذكر الحموي القسطنطينية وذكر إسطنبول، والملفت أنه لم يبحث فقط في الأماكن التي حكمتها الدولة الإسلامية، ولكنه بحث أيضا في الأماكن التي لم تكن تحت الحكم الإسلامي، والتي كانت آنذاك تحت الحكم البيزنطي، ويشرح الحموي كيفية لفظ كلمة القسطنطينية، وفي بعض الأحيان يقول قسطنطينة ليوضح سبب التسمية.
لقد ذكر المدينة وأبعادها وجهاتها الأربعة ووقوعها بين درجات الطول والعرض، وتحت أي برج من الأبراج الفلكية الـ12، وإلى جانب ذلك حدد موقعها الجغرافي وتضاريسها.
ويؤكد بعض المتحدثين بأنه عند البحث عن إسطنبول التاريخية القديمة داخل السور وفقا للوصف الذي قدمه ياقوت، فإننا سنكتشف أن الحديث يدور عن شبه جزيرة، لأنه يؤرخ عن الخليج وعن إحاطته بثلاث جهات، كما يؤرخ لأسوار المدينة وكيف أنها حصنتها، ويصفها بأنها كانت تشبه الشراع، ويبلغ ارتفاع أسوار مرمرة نحو 10 أمتار والشيء نفسه بالنسبة لأسوار الخليج.
ويقول إنها بُنيت على رتل واحد وفي خطوط مربعة ومستطيلة ودائرية وقطرية وسداسية وثمانية، لكن أسوار البر مختلفة، وكانت تُعد من أقوى التحصينات العسكرية في العالم آنذاك.
وذكر الحموي في معجمه الحلبة، وسماها الميدان، ويعني مكان السباق، وهي من بقايا آثار اليونان الذين عرفوا بتنظيم سباقات الأحصنة كجزء من الترفيه والمرح وممارسة الرياضة.
وهناك أيضا تعرض لذكر عمود قسطنطين، ويقصد به العامود الكبير، ولفت الانتباه إلى الهيكل الموجود في الحلبة، وهو واحد من الهياكل المهمة ويعود إلى قسطنطينيوس مؤسس مدينة قسطنطينوس وهو يمتطي حصانا ويشير بيده اليمنى الى بلاد المسلمين واليد اليسرى تحمل كرة معدنية.
ويمكن تفسير ذلك بأنه حجاب أو طلسم لحماية المدينة من أعدائها ومن كل مكروه، وهناك المِسلّة التي تشبه مِسلّة مصر، ولقد بقيت هذه الأشياء قائمة حتى الآن.
اختراق أسوار المدينة أو حصارها كان أمرا مستحيلا بسبب السلاسل الحديدية التي كانت تغلق المضيق المؤدي لها
- “لتفتحن القسطنطينية”.. وعد لم يتخلّف
يقول الدكتور أحمد صفا إنه كان من المستحيل اختراق أسوار المدينة أو حصارها، وكان رأس المضيق مغلقا بالسلاسل الحديدية التي تربط الأماكن المعروفة مثل منطقة “أمينونو” بالقرب من “سكرجي” وهي المنطقة المقابلة لـ”غالاطا”.
كانت هذه السلاسل تقطع الخليج من الشمال إلى الجنوب ويبلغ طولها 600 متر، وكل حلقة فيها تزن 15 كيلوغراما وطولها 30 سنتيمترا لكل حلقة ترتيب وتنظيم، وكلها على شكل رقم، وبعد 7 حلقات توجد حلقة دائرية مفرغة.
وبالتالي فإن كل من يحاصر إسطنبول لا يستطيع كسرها، لذا يبقى طرف الخليج في أمان. وقد بقيت هذه السلاسل موجودة حتى فُتحت المدينة على يد محمد الفاتح -وكان ذلك بعد وفاة ياقوت الحموي- وقد وُجدت هذه السلاسل في أماكن عدة مثل باب الأمواب.
يقول أستاذ التاريخ محمود أولقاج: كانت إسطنبول ولا تزال تتمتع بموقع استراتيجي، وقد أولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية كبيرة لفتحها “لتَفتحنّ القسطنطينية، فلَنِعمَ الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها”، وإن تحوّل هذه المنطقة إلى الإسلام يثبت قدرة الدين على الانتشار في نطاق واسع.
المؤرخ “أوسيفيوسون” يقول بأن الملائكة هي التي رسمت طرق السور، تعبيرا عن قدسية الأسوار وحصانتها
- سور القسطنطينية.. هندسة ترسمها الملائكة
في عام 49 هجري الموافق 669 ميلادي قام الخليفة معاوية بن أبي سفيان بإرسال فضالة بن عبيد وسفيان بن عوف قائديْ الجيش إلى الأناضول، وجعل عاصمة بيزنطة هدفا لها، فوصلت الجيوش الإسلامية إلى مشارفها لكنهم أدركوا صعوبة تلك المدينة واستعصاءها.
فطلبوا مددا من الخليفة معاوية بن أبي سفيان فأرسل ابنه يزيد على رأس جيش ضم العديد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بينهم أبو أيوب الأنصاري الذي كان بلغ حينها عامه الثمانين، ورغم ذلك حرص على المشاركة لتشمله بشرى رسول الله، لكنه أصيب بالمرض فأوصى أن يدفن بجانب السور، ولما مات دفن هناك، ولا يزال قبره مزارا شاهدا على ذلك حتى اليوم، ثم أُرسلت العديد من البعثات والجيوش الإسلامية بعد ذلك، لكنها لم تتمكن من فتح القسطنطينية.
ذكر المؤرخ “أوسيفيوسون” أن الملائكة هي التي رسمت طرق السور، وهو نوع من التعبير المعنوي يعطي قدسية للأسوار، إذ كلما كانت مقدسة أكثر، بُذل جهد مضاعف في حمايتها، كما أنهم وضعوا رمز الأم مريم لحمايتها عند حصار العرب المسلمين لها.
وفيما يذكره الحموي أنه عندما بدأ قسطنطين بإصلاح إسطنبول، قام ببناء السور، وجلب الماء من غابات بلغاريا وأماكن أخرى، وشق قنوات صُنعت بإتقان فصمدت طويلا، وبعده صنعها إمبراطور روما “فالنيس” بالحجارة وبنى القنوات “يميت فالنيس”، فكان الماء يجري فوقها، كما أنها كانت توصل المياه للأماكن العالية، ولذا حظيت بمكانة تاريخية.
كما توفرت لديهم شبكة مياه تنقل الماء من إحدى البحيرات في الشمال إلى الجنوب، ثم تُنقل إلى داخل المدينة، حيث منطقة الفاتح في وقتنا الحاضر، كذلك كان ينقل الماء تحت الأرض ليصل إلى “البازليك”، وكانت المياه موزعة بآبار وتوصل لجميع السكان في المدينة، وفي حال حوصرت المدينة لا يتأثر الناس في داخلها، وهذا كان أحد أسرار هذه المدينة الساحرة.
مسلمة بن عبد الملك يحاصر مدينة القسطنطينية لمدة عامين من 716 -718 لكنه لم يستطع فتحها
- مسلمة بن عبد الملك.. مسجد القسطنطينية
كلف الخليفة سليمان بن عبد الملك أخاه مسلمة بحصار القسطنطينية، وكان مسلمة من خيرة القادة العسكريين ومشهود له بالانتصارات، فحاصرها عامين من سنة 716 إلى سنة 718 الميلادية، وطلب مسلمة من الإمبراطور بناء مسجد فسمح له بذلك.
وكان يصلي فيه المسلمون القادمون إلى إسطنبول وأصبح مركزا لهم، ومن أشهر من أحيوا هذا المسجد صلاح الدين الأيوبي الذي قام بعمل اتفاقية مع “أندريكولسا” إمبراطور بيزنطة على إعادة فتح المسجد وإمداده بالأئمة والسجاد وكل ما يلزم.
استمرت محاولات الحصار لكنها لم تفلح في فتح المدينة، يقول الدكتور سعيد الصباغ: عند النظر إلى الفاتحين الأوائل أو من حاول فتح القسطنطينية، نجدهم أبطالا وكان المدافعون عنها كذلك أبطالا، حتى أولئك المدافعون الذين جُلبوا من إيطاليا، فقد قاوموا غزو المدينة ببسالة.
في عام 1453 وبعد حصار طويل تحققت نبوءة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفتحت القسطنطينية على يد محمد الفاتح
- 50 يوما من الحصار.. يوم أطل عصر الفاتح
لم تزل القسطنطينية عصية على كل الغزاة إلى أن جاء عصر السلطان العثماني محمد الثاني الذي تولى الحكم في سن صغيرة، وعندما بلغ عامه الحادي والعشرين فتح القسطنطينية، وقد كان ناضجا بما يكفي فكان صاحب علم، وكان يُجيد عدة لغات، لقد كان رجلا يليق به العرش والحكم.
كان هدف السلطان وغايته فتح القسطنطينية، وكان أكبر عائق أمامه اجتياز سورها الحصين، ومن أجل ذلك قام بصب كرات معدنية مستفيدا من المهندسين، وقام بجميع التحضيرات بشكل تقني، وأعد العتاد والجيش وانطلق بهم نحو هدفه وغايته.
أنشأ الفاتح العديد من السفن في المكان الذي أقام فيه باتجاه “غلاطا” المسماة بـ”قباطاش”، ومنطقة “غالاطا” تُعرف اليوم “طوبهانة” وإليها نقلت السفن، وفي إحدى الليالي قام بإنزالها إلى البحر، وآزره شيوخه وأساتذته ودعموه معنويا، وخاصة آق شمس الدين.
وبعد خمسين يوما من الحصار، وفي يوم 29 مايو/أيار 1453 فتحت القسطنطينية على يد السلطان محمد الذي لقب بالفاتح، هذا القائد العظيم الذي ساهم في نشر الإسلام ووصوله إلى أوروبا.
وعندما دخل السلطان القسطنطينية ذهب ليصلي صلاة الشكر كأول عمل يقوم به بعد الفتح، وتوجه إلى كنيسة آيا صوفيا، وحين رأى أحد الجنود يحمل حجر مرمر، عرف أنه انتزعه من آيا صوفيا، التي لم يكن قد زارها من قبلُ لكنه درس التاريخ ويعرف المكان جيدا من خلال قراءاته، فقال وقتها مقولته: “هذا المكان لي لا يمكنكم أن تمسوه”، وقام بتحويلها إلى مسجد.
كنيسة آيا صوفيا التي بُنيت عام 360 الميلادي على يد الإمبراطور “قسطنطيوس”
- آيا صوفيا.. أعظم كنائس ال
- تاريخ
كان لفتح مدينة القسطنطينية بالغ الأثر على أكبر مبنى في التاريخ وقتها، لقد حُولت الكنيسة إلى جامع عظيم. ولم تكن آيا صوفيا على هذه الشاكلة يوم دخلها المسلمون، فقد قام المعماري سنان بتعديلها وترميمها،
فقد انهارت القبة أثناء الفتح الإسلامي، كما أنها تعرضت لزلزال فيما مضى، فقام سنان بوضع دعامات لم تكن موجودة في البناء الأصلي، وبعد ذلك قام ببناء مسجد السلطان أحمد الذي يتفوق على آيا صوفيا.
ومما هو معروف أن كنيسة آيا صوفيا بُنيت عام 360 الميلادي على يد الإمبراطور “قسطنطيوس” ابن “قسطنطين”، وقد هُدمت ثلاث مرات، وعندما تعرضت المدينة لحريق في عام 404 احترقت الكنيسة، فقام الإمبراطور “ثيودوسيوس” ببناء كنسية في نفس المكان، ثم هُدمت وفي عهد الإمبراطور “جستينياس” أثناء عصيان “نيكا” قرر بناء أكبر معبد في العالم.
وفي الختام يقول ياقوت الحموي: والله المعين إلى ما اعتمدناه والمرشد إلى سلوك ما قصدناه من غير حول لنا ولا قوة إلا بالله وحده، وسميته معجم البلدان اسم مطابق لمعناه وحسبنا الله ونعم الوكيل، وكان الشروع في التبييض في ليل 21 من محرم عام 625، والله نسأل المعونة على اتمامه بمنه وكرمه.
لقد أوكل الحموي إلى صاحبه ابن الأثير أن ينقل تراثه، كما أوصى ياقوت بأن تكون كتبه وقفا يستفيد منها المسلمون، وبالفعل أرسل ابن الأثير كتبه إلى الموصل، لذا بقي معجم البلدان حيا وسيّارا حتى يومنا هذا.
المصدر : الجزيرة الوثائقية