اعتماد اللغة الإنكليزية في الجزائر لا مفر منه في عصر العولمة
احتدم الجدل في السنوات الأخيرة في الجزائر في مسألة اعتماد اللغة الإنكليزية لغة أجنبية أولى بدلاً من الفرنسية. الجدل ليس جديدا وما هو في واقع الأمر إلاَّ انعكاس للأزمة اللغوية التي تتخبط فيها البلاد منذ استقلالها عام 1962.
فبينما ينظر المجتمع برمته إلى الفرنسية على أنها “لغة احتلال” لا طائل منها، فإنّ فئة قليلة تابعة إلى التيار الفرانكفوني الناطق بها، تعدُّها “غنيمة حرب” لابد من الحفاظ عليها.
- هزيمة أولى
في القرن التاسع عشر، بسطت فرنسا سيادتها على أنحاء شاسعة في شمال ووسط وغرب افريقيا، حيث عمد الاحتلال إلى محاربة اللغات واللهجات المحلية وبسط سيادة لغته الفرنسية.
من هذه البلدان الجزائر التي دخلتها فرنسا يوم 5 حزيران/يونيو 1830 حيث بادر الاحتلال إلى شنّ هجوم على اللغة العربية، وازدادت الحملة شراسة في مطلع القرن العشرين حيث اتخذت فرنسا إجراءات صارمة كمنع فتح مدارس التعليم باللغة العربية (24 كانون الأول/ديسمبر 1904).
وبلغت الحملة ذروتها بإصدار مرسوم “شوتون” نسبة إلى كامي شوتون، رئيس وزراء فرنسا آنذاك، في 8 آذار/مارس 1938 القاضي بمنع استعمال اللغة العربية الأم واعتبارها لغة أجنبية، فضلا عن تشكيل نخب ثقافية فرانكفونية موالية لها.
اللافت للانتباه أن فرنسا تمكنت بسهولة من بسط سيادة لغتها في مستعمراتها السابقة كالكونغو والسنغال والنيجر حيث أصبحت الفرنسية اللغة الأولى لهذه الأمم، وفشلت في تحقيق ذلك في الجزائر، أقدم مستعمراتها! فبعد 130 سنة من الاحتلال وما صاحبه من إجراءات وتضييق وضغط، لم توفق فرنسا في حربها على اللغة العربية.
وبعد الاستقلال، فقدت الفرنسية مكانتها مع مر الزمن، واستعادت العربية نفوذها شيئا فشيئا، لتصبح اليوم اللغة الرسمية الأولى للجزائر بغير منازع. وانحسر استعمال الفرنسية ليقتصر اليوم على فئة مثقفة ضئيلة.
- الحراك اللغوي
وبعد فشلها في مواجهة اللغة السامية، ها هي الفرنسية اليوم تسير نحو هزيمة ثانية ثقيلة أمام العملاق العالمي، اللغة الإنكليزية. والجزائر التي تحيا اليوم حراكا سياسيا يدعو إلى استبدال النظام القديم بنظام جديد، تعيش في الوقت ذاته حراكا لغويا يطالب باستبدال الفرنسية بالإنكليزية.
والحراك اللغوي سابق للحراك السياسي، أطلقته النخبة المثقفة قبل سنوات طويلة. ففي عام 2016 دعت المبادرة الجزائرية، وهي هيئة غير رسمية، تضم عددا من المنظمات والنقابات وشخصيات سياسية وأكاديمية، السلطات العليا الممثلة في رئيس الجمهورية والوزير الأول، إلى التدخل العاجل لتعزيز اللغات ذات الحضور العالمي النوعي واعتماد الإنكليزية لغة أجنبية أولى بدلاً من الفرنسية.
إنها ثورة جديدة عارمة يطبعها تأييد يكاد يكون مطلقا للغة شكسبير، وكيف لا وقد أكد استطلاع للرأي أجرته الوزارة أن 94 في المئة من الطلبة يفضلون استخدام اللغة الإنكليزية في الجامعات على اللغة الفرنسية، وهي نسبة ساحقة! هذه النتيجة ليست من باب المصادفة،
فقد أكدت نتائج استطلاع الرأي لـ “أخبار اليوم” أيضا أن الإنكليزية تستحق أن تكون اللغة الأجنبية الأولى بالجزائر. فقد صوّت الجزائريون للإنكليزية بنسبة ساحقة 88.1 في المئة مقارنة باللغة الفرنسية التي لم تتجاوز 11.9 في المئة! وها هي منصات التواصل الاجتماعي تشتعل مطالبة باعتماد الإنكليزية.
نشطاء جزائريون يطلقون حملة افتراضية عبر منصتي توتير وفيسبوك عبر هاشتاغ #الفرنسية_ليست_رمز_التقدم، منتقدين المنظمة التربوية والتعليمية الجزائرية، ومطالبين باستبدال الفرنسية بالإنكليزية.
- الحاجز الفرانكفوني
أنصار التيار الفرانكفوني من إعلاميين ورؤساء تحرير صحف فرنسية وأساتذة وكُتّاب سارعوا منذ البداية إلى الدفاع عن مكانة اللغة الفرنسية بالجزائر وهم حماتها. قال رئيس المركز الوطني البيداغوجي لتعليم اللغة الأمازيغية عبد الرزاق دوراري: “استبدال الفرنسية بالإنكليزية جريمة في حق الأمة وشتيمة للنخبة الفرانكفونية”.
وقال البروفيسور الجزائري جمال ضو: “لو كانت الإنكليزية مفتاح التقدم العلمي لكانت بقية الدول العربية والافريقية التي تعتمدها لغة تعليم، نهضت من كبوتها وتخلفها” وهو أيضا ما ذهب إليه الكاتب الجزائري أمين الزاوي الذي قال: “لقد فات هؤلاء بأن هناك العديد من الدول الافريقية الغارقة في التخلف تعتمد اللغة الإنكليزية لغة رسمية ولغة التربية والتعليم مثل نيجيريا، السودان، كينيا، أوغندا، غانا، مدغشقر، الكاميرون، زمبابوي، رواندا، سيراليون، ليسوتو، بوتسوانا”.
وذهب إلى حد تشبيه مشروع اعتماد الإنكليزية في الجزائر بمشروع التعريب في السبعينات قائلا: “إحلال الإنكليزية محل الفرنسية هي دعوة مُغامرة سياسياً وبيداغوجياً، تشبه تلك التي أطلقها في سبعينيات القرن الماضي أصحاب التعريب الفوري والذين كانوا سبباً في ما لحق المدرسة الجزائرية اليوم من كوارث”.
- أجواء ملائمة للإنكليزية
ما يخفى على هؤلاء هو أنَّ الوضع في الجزائر اليوم يختلف عن واقع سبعينات القرن الماضي حيث كانت نسبة الأمية عالية، وكانت اللغة الفرنسية تهيمن على المنظومة التربوية. ومقارنة مشروع نشر اللغة الإنكليزية بمشروع نشر التعريب في غير محلها بحكم الفرق الشاسع بين اللغتين.
فالأمر اليوم يتعلق بأعظم لغة في العالم، الإنكليزية، لغة المعارف والعلوم والتكنولوجيا والتطور والتعامل بامتياز في عصر العولمة.
- نماذج عالمية ناجحة
اللافت للانتباه أيضا أنّ أنصار التيار الفرانكفوني في الجزائر يذكرون نماذج افريقية “غارقة في التخلف” لكن ثمة علامة استفهام كبيرة عن صحة هذه المعلومات! فنيجيريا التي ذكروها، من أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم بإنتاج يقدر بمليوني برميل يوميا،
وتُعدّ أكبر اقتصاد في افريقيا، تقدر قيمته حسب إحصائيات البنك العالمي بـ 397 مليار دولار، متفوقة بذلك على العملاق جمهورية افريقيا الجنوبية المتطورة والتي تستخدم أيضا اللغة الإنكليزية، وقد توخّى هؤلاء عدم ذكرها! كما أخطأ هؤلاء في الحكم على إثيوبيا،
وكيف لا إن كانت تعدُّ الاقتصاد الأسرع نموا جنوب الصحراء الافريقية بنسبة نمو تعادل 8.5 في المئة. والظاهر أنه قد غاب عن هؤلاء أن دولا افريقية ناطقة باللغة الفرنسية كمالي والنيجر وجمهورية افريقيا الوسطى وتشاد وبوركينافاسو تُعدّ من أفقر الدول الافريقية،
فهل أنقذتها الفرنسية من “التخلف”؟ ولست أدري لماذا لم يذكر هؤلاء نماذج عالمية معروفة أتاحت لها اللغة الإنكليزية فرصة النمو والتطور كماليزيا أو سنغافورة التي تعد اليوم الاقتصاد الأكثر تنافسا في العالم مسجلة رقما قياسيا متفوقة على الولايات المتحدة.
وقد فات هؤلاء أيضا أن في الوطن العربي، دول خليجية تحتل اليوم المراتب الأولى في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا من حيث معدل دخل الفرد والناتج القومي، وحققت تقدما كبيرا في البنية التحتية، وقطعت أشواطا في تشييد المدن الذكية، وهي كلها تستخدم الإنكليزية!
- لغة السفر
يتحدث سكان العالم أكثر من 7100 لغة وهم في حركة متواصلة، ففي عام 2018 سجلت السياحة في العالم رقما قياسيا حيث بلغ عدد المسافرين حسب منظمة السياحة العالمية 1.4 مليار شخص. هؤلاء السياح تجمعهم لغة واحدة هي الإنكليزية، لغة التعامل الأولى في العالم.
ويحتاج المسافرون إلى وثائق مترجمة إلى اللغة الإنكليزية بداية بجواز السفر الذي عادة ما يكتب بالإنكليزية إضافة إلى اللغة الأولى لكل بلد. وجواز السفر الجزائري لم يخرج عن هذه القاعدة. وتشترط الجامعات الأجنبية ومصالح الهجرة وغيرها في بريطانيا ودول أخرى ان تكون الوثائق المطلوبة مترجمة إلى الإنكليزية.
ففي الوقت الذي يقتصر فيه استخدام الوثائق المكتوبة بالفرنسية على عدد قليل جدا من الدول، فإن الوثائق المطبوعة بالإنكليزية تقبل في كل أنحاء الدنيا. وهو ما يبرر قرارات دول العالم تدريس هذه اللغة، ويبرر حاجة الجزائر اليوم إلى اعتماد هذه اللغة.
- لغة إلكترونية عالمية
ولا تقتصر هيمنة الإنكليزية على الرحلات والأسفار فحسب، بل تمتد إلى نشاط شبكة الإنترنت حيث تمثّل مواقع التجارة الإلكترونية باللغة الإنكليزية نسبة 96 في المئة من مجموع مواقع التجارة الإلكترونية، وهي نسبة ساحقة تؤكد أنّ لغة التجارة والتسويق الإلكترونية العالمية هي الإنكليزية بغير منازع.
ويعود ذلك إلى عدد من المتغيرات كتفوق العالم الأنكلوسكسوني في العلوم والتكنولوجيا وكون الإنكليزية أكبر لغة في مجال البحث العلمي والتجاري، فضلاً عن نشأة الإنترنت في كل من بريطانيا والولايات المتحدة حيث كان جل المحتوى المعرفي والعلمي منشورا بهذه اللغة، وما زال إلى يومنا هذا.
ورغم تزايد استخدام اللغات المحلية في التواصل، فإنّ الإنكليزية تبقى اللغة الأولى في النت التي تسمح بوصول المنشورات إلى أكبر عدد من المستخدمين في العالم مقارنة بلغات أخرى مثل الفرنسية.
- هزيمة ثانية
إن ما يردده معارضو اللغة الإنكليزية اليوم مجرد تخمين لا يستند إلى أي معطيات علمية أو أدلة ملموسة. وما يعرضونه علينا من أمثلة مجرد مغالطات بحكم وجود ما لا يحصى من النماذج الإنكليزية الناجحة في العالم.
واليوم، مع تواصل الجدل اللغوي في الجزائر، فإنّ السؤال لم يعد ما إذا كانت الإنكليزية ستحل محل الفرنسية وإنما متى سيتم ذلك؟ وبعد الهزيمة التي منيت بها الفرنسية في مواجهة العربية، ها هي اليوم محاصرة، على وشك هزيمة جديدة، هذه المرة أمام قوات إنكليزية وأمريكية مدججة بأحدث الوسائل العلمية والتكنولوجية.
ويبقى التساؤل الآن: إلى متى سيستمر عناد أنصار الفرانكفونية ودفاعهم عن لغة ميتة في الجزائر؟ ولمَ لا يتقبلون قرار الأغلبية المؤيدة لاعتماد الإنكليزية وفق قواعد اللعبة الديمقراطية التي يؤمنون بها؟!.