ألوان من الحُب في ثقافات الشعوب
الحب هو أحد أكبر الدوافع والفضائل الإنسانية، كان وما يزال حاضرًا بأشكاله المختلفة في حياة الإنسان، وهذا الحضور ترافق بفكر يعبر عنه في شتى مجالات الوعي والاعتقاد والثقافة، من الدين إلى الفلسفة والأدب والفن وسواها؛ ولأننا اليوم في عالمنا المعاصر الغارق في العنف والاستهلاك وضياع القيم والمثل الإنسانية أحوج ما نكون إلى الحب بمفهومه الشامل فكرًا وفعلاً، سأحاول في هذه المقالة تقديم الحب في بعض من صوره المتعددة عبر التاريخ الإنساني وعند الشعوب المختلفة.
- 1 – في العالم القديم:
ربط القدماء الحب بالخصب والحياة والوجود، ورؤوا في الكون ككل ثمرة حب كبرى بين العناصر والعوامل المكونة للكون، وقدسوا هذا الحب الذي يشكل أساس الوجود، وسحبوا هذه القداسة إلى حياة الإنسان، ليضموا الحب بين الرجل والمرأة بصفته شكل الحب المقترن بالزواج والإنجاب واستمرار الجنس البشري إلى هذا المجال المقدس، ليعطوا بذلك -رغم وعيهم البدائي- صورة متكاملة مقدسة للحب على كل من المستوى البشري والطبيعي والكوني.
- 2 – في الحضارة اليونانية:
تحدث المفكرون الأغارقة بشكل رئيس عن أربعة أشكال من الحب هي:
فيليا (philia): وهي تدل على حب الأصدقاء، ويمكن أيضًا أن تدل على حب الكائنات الحية أو الأشياء، فهي مثلاً تدخل في تركيب مصلح (فيلوسوفيا) أي “الفلسفة”، ويعني حب الحكمة.
أيروس (eros): وهو يدل على العشق الجنسي بين الرجال والنساء بصورته الرغبوية، وليس العاطفية والرومانسية.
أغابي (agape): وهو يدل على المحبة الإنسانية بمفهومها الشامل النبيل.
ستروغي (stroge): وتدل على الحب المتبادل بين الأقارب على غرار حب الآباء والأبناء.
ويضيف البعض أحيانًا شكلاً خامسًا من الحب هو “كسينيا” (xenia) ويعني “محبة الغرباء”، وهو يمكن أن يفهم ككرم الضيافة.
كما يضاف إلى ذلك أيضًا شكل آخر من الحب تحدث عنه بشكل خاص أفلاطون في فلسفته، فصار يسمى باسمه “الحب الأفلاطوني”، وهو يدل على العشق أو الحب الصافي للجمال، المجرد من الرغائب والشهوات، وهو عادة ما يوضع في تضاد مع “الحب الأيروسي”.
ومن الملفت للنظر غياب مصلح خاص بالحب العاطفي أو الرومانسي عن لغة قدماء الإغريق، مما يدل على أن ثقافتهم لم تكن تتميز بحضور مميز لمثل هذا الحب، وهي بذلك تشبه إلى حد ما ثقافة الغرب المعاصر التي يغلب عليها بشكل جد راجح الشهوانية والاستهلاك الجنسي.
- 3 – الحب عند الرومان:
لم يكن الرومان أصحاب فلسفة وثقافة غنية كاليونان، لكن تقاليدهم كانت قريبة منهم نوعًا ما، وإن كانوا أكثر تحفظًا في بعض القضايا المرتبطة بالعلاقة بين الجنسين، وهم بشكل عام استخدموا لفظة “أمور” (amor) الشهيرة للدلالة على أنواع مختلفة من الحب، كالحب الجنسي والحب الإنساني والحب القدسي وسواها، وإضافة إلى ذلك استخدموا لفظة ” “amicitia ” للدلالة على الصداقة، و”caritas” للدلالة على البر والإحسان.
- 4 – في الدين المسيحي:
طور اللاهوت المسيحي بناءً على نصوص العهد الجديد الكتابية، فلسفة دينية خاصة بالمحبة، وأطلق اللاهوتيون المسيحيون عليها نفس المصطلح اليوناني “أڠابي”، لكن وفق مفهومهم الخاص، واعتبروا هذه الأغابي محور الأخلاق المسيحية، وهي تعني محبة الله من كل القلب ومحبة القريب كمحبة النفس.
- 5 – في التراث الهندي:
عرفت الثقافة الهندية عبر تاريخها أشكالاً مختلفة من الحب، ومن أهمها:
كاما (kama): وهو يدل على الحب الجنسي الرغبوي، وهذا يشبه الأيروس اليوناني.
بهاكتي (bhakti): وقد تطور هذا المفهوم في تاريخ الفكر الديني الهندي، حتى أصبح يدل على الحب الذي يشعر به العابد تجاه الإله، وهو يشبه العشق الصوفي الإسلامي الذي سنتحدث عنه لاحقًا.
أنوراغا (anuraga): وهو يمكن أن يدل على الحب العاطفي الرومانسي، وعلى الحب الرفيع للأمور الراقية كالفن والموسيقى وما شابه.
بريما (prema): وهو يدل على الحب المتعالي اللامشروط أو الحب القدسي.
- 6 – في التراث الصيني:
عرفت الصين بالطبع أشكال الحب التقليدية الاجتماعية والجنسية كغيرها من شعوب العالم، واشتمل الحب الجنسي على كل من اللون العاطفي والرومانسي واللون الرغبوي؛ لكن أكثر ما يميز الفكر الصيني في علاقته مع الحب، هو ذلك الشكل الذي طرحه الحكيم “موتزي” (Mozi)، مؤسس الفلسفة الموهية في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي يسمى بـ”الحب السماوي”،
وقد اعتبر المعلم موتزي أن العلاقة بين الإنسان والسماء يجب أن تقوم على المحبة المتبادلة، وبما أن السماء تحب الإنسان فعلى الإنسان أن يبادلها الحب، وعلى الحاكم الصالح أن يقتدي بالسماء فيحب شعبه لكي يحظى ببركة السماء.
- 7 – في التراث العربي و الإسلامي:
تمتلك اللغة العربية العديد من الألفاظ الدالة على الحب والمحبة، فإضافة إلى هاتين المفردتين، ثمة “مودة، معزة، عشق، غرام، هيام، والعديد غيرها”، وقد ميّز العرب بين شكلين من الحب بين الجنسين هما “العذري” ذو الطابع العاطفي والرومانسي، و”العمري” ذو الطابع الرغبوي، وصنفوا عاطفة الحب من حيث قوتها إلى درجات منها: الهوى، العلاقة، الكلف، الوجد، العشق، الشغف، اللوعة، اللاعج، الغرام، الجوى، التتيّم، السبل، والهيام(1)، وسواها؛
وقد رأى فيه بعض الأطباء العرب كالرازي وابن سينا والبغدادي وغيرهم شكلاً من أشكال المرض كالمالينخوليا، وجاروا في ذلك سلفهم من أطباء الإغريق كأبقراط وجالينوس.
أما إسلاميًّا فلم تكن المحبة غائبة عن الفكر والفقه الإسلاميين، وقد دعا الإسلام إلى محبة الله والرسول، والمحبة بين الناس بشكل عام، أما بشكل خاص فقد طور المتصوفة مذهبًا خاصًا في “الحب الإلهي”، ويسمى أحيانًا بـ”العشق الصوفي”، وهم يعتبرون هذا المذهب إسلاميًّا أصيلاً وغير مقتبس من ثقافات أخرى، وقد دخلت لفظة “عشق” بهذا المعنى في العديد من اللغات الأجنبية كما هي دون تغيير(Ishq)، لتدل على أصالة وتميز هذه اللون من الحب القدسي.
- 8 – في العالم الحديث:
رغم أن العالم المعاصر بشرقه وغربه وشماله وجنوبه، تهيمن عليه الحضارة المادية الاستهلاكية التي فرضها عليه الغرب المتفوق علميًّا وصناعيًّا واقتصاديًّا، وما يرافق هذه الحضارة من تدن في القيم والمثل والعلاقات الإنسانية، فما يزال الحب بألوانه المتعددة يحظى بدرجة ما من الحضور الفكري والفعلي، سواء على مستويات عامة الناس، أو مثقفيهم أو كبار مثقفيهم.
حيث نجد الكثير من الأصوات الرافضة لهيمنة المادة والاستهلاك والعنف، والداعية لإعلاء المثل الإنسانية وفي طليعتها الحب بمضامينه الشاملة، ومن هؤلاء مثلاً نجد جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وسواهما من العرب، ومهاريشي وشري يوغاناندا وغيرهما من الهند، وإيريك فروم من ألمانيا، والكثيرين غيرهم من أنحاء مختلفة من العالم، فالحب جزء من الطبيعة الإنسانية، ولا يمكن للإنسان أن يتخلى عنه إذا أراد الحفاظ على إنسانيته.
هذا باختصار عن الحب وألوانه، وهو بالطبع موضوع لا يمكن إيفاءه حقه في مقال واحد، وهو موضوع يستحق أيما استحقاق البحث والكتابة والنشر فيه وفي أمثاله من قضايا المثل والقيم والرموز والمعاني الإنسانية، فهذا بعض ما يمكننا – بل ويجب علينا- فعله دفاعًا عن إنسانيتنا ضد الهجمة الشرسة التي تسعى لتحويل العالم كله إلى مجرد سوق وكل ما فيه إلى سلع للاستهلاك، لا تثمن إلا بأثمان مادية بما في ذلك الإنسان نفسه.
رسلان عامر – مهندس وكاتب ومترجم – سوريا