منبرُنا

من منكم يعيش عُمْرين؟

 

هل تسمحون لي بقول: أنا، أعوذ بالله من قول أنا، عشت هذا العام عمرين اثنين. لو سألت أيا منكم: كم عمرك؟ لما ذكر سوى عمر واحد. لقد ولدت في 8 مايو/أيار 1955م ـ 15 رمضان 1374 هـ. وفي يوم الجمعة الماضي (8 مايو 2020)، الموافق لـ14 رمضان 1441 حسب التقويم المغربي، كنت سأكون، (لو صام المغاربة في اليوم الذي حل فيه شهر رمضان في بعض الدول العربية، أي يوم الجمعة 15 رمضان، الذي كان سيلتقي مع 8 مايو)، أحتفل بعيدين للمـــــيلاد في يوم واحـــــد، أحدهما قمري، والآخر شمسي، وبذلك سيكون لي عمران: أحدهما هو 65 سنة شمسية، والثاني 67 سنة قمرية؟ ومع ذلك ففارق يوم واحد، يؤكد على أنني أعيش عمرين هذه السنة، وإن في يومين متصلين.

يلتقي اليوم والشهر القمري والشمسي كل اثنتين وثلاثين، أو ثلاث وثلاثين سنة. وهذه هي الدورة الثانية التي أعيش فيها العمرين في وقت واحد، بفارق يوم واحد هذه السنة، وخمسة أيام سنة 1407 هـ ـ و1987م. لا ألتفت عادة إلى عيد ميلادي، ولم أحتفل فيه قط بالشموع ولا بالحلوى. إن احتفالي يتخذ عادة موقفا أراجع فيها ما أنجزته، وما لم أقم به من أعمال، وهو ما أفعله عادة كل يوم تقريبا. لكن التقاء اليوم الثامن من مايو، مع الخامس عشر من رمضان تقريبا، جعلني أتوقف أمام هذه اللحظة، التي يُسجل لي فيها عمران، يقاس أحدهما بميلاد سيدنا عيسى (عليه السلام)، والثاني بهجرة نبينا محمد (ص)، وكل الناس يعيشون عمرين هما: الشمسي، والقمري.

أعمار الإنسان يومان فقط: اليوم الذي مضى، واليوم الذي أنت فيه. إنهما العمران اللذان يعيشانهما كل الناس. لا تقاس أعمارنا بالسنوات، ولا بالعقود، ولا بالهجري أو الميلادي. إنهما فقط يومان: وعلينا أن نتساءل عن اليوم الذي مضى؟ واليوم الذي نحن فيه؟

سألت أحد المعارف عن صهره المريض: كم عمره؟ قال لي: كبير جدا. خمنت أنه تجاوز التسعين، أو شارف المئة. فتعجبت حين أجابني: لقد فات الستين؟ فالتفت إلى نفسي مسائلا إياها: فقالت لي: أنت كبير جدا؟ وكنت أخالني صغيرا جدا، وأمامي طريق طويل لإنهاء مشاريعي الكثيرة؟ لما كنت في السابعة عشرة من عمري كنت أحس بأنني في الخامسة والثلاثين من عمري.

ولما تجاوزت الستين، وما أحسست بها، لولا أنهم يذكرونني بعيد ميلادي؟ كنت أراني في الأربعين، وهو يقول لي: إن صهره كبير جدا؟ هل نقيس أعمارنا بالساعات أم بالأعمال؟ أرى أن كبار الشعراء والمفكرين والعلماء في العالم، من طرفة إلى رامبو عاش كل منهم عمرَ زهير، وإن ماتوا دون الثلاثين. وحسب ابن سينا قد يعيش المرء تسعين سنة، وكأنه عاش سنة واحدة ما دامت حياته تقوم على نمط واحد يتكرر كل يوم.

نعيش عمرين يتعديان اليوم الذي مضى، واليوم الذي نعيش فيه. ولكننا نفكر جميعا في يوم ثالث: هل أقصد عمرا ثالثا؟ كلنا يحلم بهذا العمر الثالث. إنه في ظهر الغيب. أن تعيش لتحقيق حلم، معناه الرغبة في أن تعيش العمر الثالث.

قسم ابن الجوزي الأعمار في كتابه «تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر»: إلى خمسة مواسم. الأول: من الولادة إلى البلوغ (15 سنة). والثاني: من البلوغ إلى 35 سنة، (وهو زمن الشباب). والثالث: زمان الكهولة إلى تمام خمسين سنة. أما الرابع: فمن بعد الخمسين إلى تمام السبعين: زمان الشيخوخة. والخامس زمن الهرم: ما بعد السبعين. جُعل التقاعد في منتصف الشيخوخة في كثير من المجتمعات. وعومل المتقاعدون في الغرب معاملة خاصة في غياب التآزر العائلي، لكنه الآن مع فيروس كورونا يعمل على التخلص منهم، لأن الدورة الاقتصادية الجهنمية لا تتحملهم. وفي بلداننا يعملون على السير على منوال الغرب: تمديد سن التقاعد، وترك المتقاعدين نهبا للساحات العمومية يلعبون الورق؟ كما أن حكوماتنا تفكر في صياغة قوانين التقاعد المريح لبرلمانيين ووزراء لا يناقشون إلا ما يهم مصالحهم؟

كل الناس يعيشون، إذا تجاوزنا مواسم العمر المذكورة، عمرين في يومين: يوم لهم، ويوم عليهم. واليومان يختزلان في يوم واحد: الضحك على الآخرين، والعمل على نهب مجهوداتهم، من جهة، أو الضحك معهم، وممارسة البذل والعطاء، من جهة أخرى. وحسب اختيار المرء يومه وعمره، تتحقق إنسانيته أو وحشيته. يقول ابن الجوزي: «ومن عرف شرف العمر وقيمته لم يفرط في لحظة منه». أعيش عمرين، وكم فرطت في لحظات كثيرة. وحين أتوقف في هذه اللحظة، أجدني ما بين 1985 تاريخ صدور أول كتاب لي، و2020 أمام 35 سنة. حين أعدّ الكتب التي ألفتها بين هذين التاريخين، وما هو قيد الإعداد والإنجاز، أجد نفسي أمام إصدار ثلثي كتاب في كل سنة تقريبا. تتوزع هذه الكتب على الدراسات السردية والثقافية والرقمية والثقافة الشعبية. كنت في كل هذه الأعمال أستحضر حلما يتعلق بالمستقبل. ولذلك فأنا دائم الحلم.

نعيش عمرين يتعديان اليوم الذي مضى، واليوم الذي نعيش فيه. ولكننا نفكر جميعا في يوم ثالث: هل أقصد عمرا ثالثا؟ كلنا يحلم بهذا العمر الثالث. إنه في ظهر الغيب. أن تعيش لتحقيق حلم، معناه الرغبة في أن تعيش العمر الثالث.

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى