المقهى والثقافة
قهوتي شخصيا عبارة مشروب لم أدمنه إنما أحتسي بعض الجرعات بعد القيلولة في غير رمضان، وبعد الإفطار في رمضان، ولكن هذه الجرعات يستغرق مني تحضيرها ما يزيد عن نصف ساعة، ومرد ذلك أن البن المستعمل في تحضير هذه القهوة ليس البن المسحوق المعلب الذي يعتقد البعض أنه يحفز التركيز أو يخلق عجب العجاب، وليس هو الحب الذي يقتنى عند بعض العطارين الذين يوهمون زبناءهم بأنه البن المثالي، ويسحق مع بعض الأعشاب لحصول نكهة وأريج لطمس بهرجته.
إن البن الذي في الصورة أخضر طبيعي، يحمص على خزفية، وبعظم كما ورثنا عن السلف الصالح، وحين يحمص يترك حتى يبرد، ومن ثم يسحق، ويغربل، ويوضع على نار هادئة فوق إناء خاص بتحضير القهوة، وحينها يصفى، ويحتسى. وهكذا نحصل مشروبنا متى شئتنا، ومن ثم نقول إننا احتسينا القهوة. ولا نربطه بقوة التركيز أو الأرق قصد الاطلاع أو الإتيان بما لا طاقة لنا به كما يحجو كثيرون. إنما نحتسيه لتسهيل الهضم وتنشيط الجسم.
وفي هذا الصدد، نعتقد ولا نظن أن لا صلة للمقاهي بالثقافة، كما لا علاقة بين القبعات الأسطوانية والنظارات الزائدة بالعقول النيرة. إنما أوردنا هذا الطرح لتصحيح أفكار مرسخة لدى فئات مختلفة في وقتنا الراهن، مُفادها أن لا فضاء يحلو فيه الفكر سوى المقهى، وأن من ارتدى القبعة المشار إليها أعلاه مفكر، بز غيره من الأنام، وقس على هذا.
اعلم أخي القارئ – حفظك الله- أن الأقدمين ألفوا كتبا وصنفوا في علوم شتى في زمن سحيق جدا، ولا تزال هذه المؤلفات حيةً إلى يومنا هذا، ولم تؤلف بالمقاهي إبان تأليفها، إنما ألفت في مكاتب بسيطة، ومن لدن أعلام ألباء، ذاقوا مرارة البؤس والشقاء من غياب اللوازم، وسوء الأحوال، وغياب الاستقرار. ولكن اتسموا بغزارة الاطلاع، وبسداد الرأي، وبالاعتكاف، وحب العمل، والأناة.
وإذا نظرنا إلى المقاهي اليوم بعين متبصرة -إن كانت للقراء آذان مصغية طبعا- وجدناها فضاءات للتشويش لا التأليف، وفضاءات للإزعاج لا الإنتاج، وما يصاحب ذلك من دخان سجائر فئات أخرى، منهم “المثقفون” أنفسُهم، ومنهم دون ذلك. دون أن ننسى سموم المشروبات التي تقدم بهذه الفضاءات ويحجو شاربوها أنها بلسم يحيي العظام وهي رميم.