إلى من يُدافعون عنهم: لم تقرؤوا تلك الكتب أنتم أيضاً
على خلفية ما تعرض له سلمان رشدي من اعتداء عليه، بالطريقة ذاتها تقريبا التي تم فيها الاعتداء على نجيب محفوظ، طعنات متعددة منها في منطقة العنق، انهالت بكائيات الكتاب في تمجيد حرية التعبير، شرقا وغربا، واصفين العمل بأنه عمل إرهابي وحشيّ.
حادثة الاعتداء على رشدي أعادت إلى الواجهة ما حصل مع نجيب محفوظ، أو ما تعرض له الدكتور حامد نصر أبو زيد وحيدر حيدر، ونسي القوم- على ما يبدو- فرج فودة الذي ذهب ضحية الجماعات المسلحة. لكل واحد من هؤلاء قصة لا يمكن أن تجتمع كلها معا إلا عن طريق التلفيق وإجبار الجمل لأن يدخل في سم الخياط، وأما بخصوص سلمان رشدي تحديدا، فلا بد من بيان النقاط الآتية:
– لا يصح تحميل النظام الإيراني مسؤولية الاعتداء عليه، لأن الفتوى بمقتله تجاوزها النظام وحكامه ولم يعودوا يحفلوا بها، بل جاء الاعتداء على رشدي في قلب أمريكا، في نيويورك في مؤتمر، وعلى الهواء مباشرة. لقد تمكن الإرهابي من طعن رشدي 18 طعنة، قبل أن تتمكن الشرطة من السيطرة عليه، سلمان رشدي كان يعيش في بريطانيا باسم مستعار وتحت حراسة مشددة ما الذي جعل هذه الحراسة معدومة، بل ويتمكن المعتدي من الوصول إليه بهذه السهولة ويستمر في تسديد الطعنات.
غالب الظن أن الأمر لم يكن أكثر من ورقة ضد النظام الإيراني، ولعل مفتعلها ممن لا يريدون للاتفاق النووي أن يتم، فلم يكن محور الأخبار الموالية لأمريكا عربيا ودوليا إلا فتوى الإمام الخميني، وتسجيل قديم للسيد حسن نصر الله يحرض فيها على مقتله، فهل تستطيع أمريكا أن تذهب في تحقيق مستقل للكشف عن الفاعل الحقيقي؛ من يقف وراء المعتدي؟ على عائلة سلمان رشدي أن يطالبوا بمثل هذا التحقيق وأن يطلعوا على أدق التفاصيل فيه.
– كل ما قرأته من مقالات صحفية تتهم المعتدي أنه لم يقرأ رواية رشدي موضع الجدل، بل إنني على يقين أنهم أيضا هم هؤلاء المدافعون عن رشدي لم يقرؤوا تلك الرواية التي وصفها نقاد بالبائسة، ولم تكن رائجة في الأوساط الثقافية، وحسب علمي أنها غير مترجمة إلى العربية، وهي رواية- كما جاء في أحد التقارير الصحفية- مؤلفة من أكثر من (500) صفحة. ومن يستطيع قراءة رواية بائسة تمتد إلى مثل هذه المساحة؟ وأنه ثمة ما هو أكثر أهمية منها صدر قبلها، ولم يكتسب شهرته الأدبية منها بل من أعمال أخرى أكثر فنية، أيضا كما جاء في بعض التقارير.
– إن هذه المقالات الواقفة مع رشدي تكاد تكون نسخة واحدة مكررة، المعنى نفسه، والتهمة واحدة، وهي نفسها التي كنت قرأتها في حادثة الاعتداء على نجيب محفوظ، بل إن كثيرين ممن دافعوا عن نجيب محفوظ لم يقرؤوا روايته تلك موضع الجدل أيضاً كما لم يقرأها المعتدي. لقد باتت هذه المقالات تعاني من البؤس الشديد إلى درجة الملل، فما عليك إلا أن تغير أسماء الأعلام لتكون صالحة في حادثة قادمة مشابهة. إن تهمة عدم القراءة لاحقت المرشد العام للثورة الإيرانية الإمام الخميني رحمه الله، كما جاء في تقرير لفضائية عربية موالية لأمريكا.
لا أحد يستطيع أن يوجه لكاتب يقف ضد الاعتداء على رشدي سؤال: هل فعلا قرأت الرواية؟ وهل بإمكانك أن تعطينا- نحن الجهلة الكسالى- نبذة عن الرواية تؤكد أن الروائي لم يمس معتقداً؟ على كثرة تلك المقالات لم يتطوع أحد ليزيل جهلنا، بل ظل الجميع سادرين في غيهم، يمجدون الضحية ويشطنون الإرهابي المعتدي، ويتحسرون على العالم.
وهل يعتقد هؤلاء الأغبياء أن جمهورا واسعا يثور ضد كاتب أو قضية لا يعرف عنها شيئاً؟ يكفي هنا في هذه المسائل أن يقف الناس وقفة جادة بناء على رأي صحيح من شخص تثق فيه الجماهير، كما تفعل هذه الجماهير في السياسة؟ إنها تنصاع للحاكم لأنها تثق فيه أو لأنها تخاف منه، إنهم يتناسون “سيكولوجية تحريك الجماهير”، ليس مطلوبا من كل فرد أن يطلع على خيانات الحاكم ليثوروا ضده، إنما قام به أحدهم والجماهير تثق فيه، وعليه تقاد الجماهير وتتحرك.
عندما اشتعلت فتنة “حيدر حيدر” وروايته “وليمة لأعشاب البحر” في التسعينيات، قرأت من بعض من دافعوا عن حيدر حيدر عن روايته، وفسروا المواقف الإشكالية فيها فنيا، لقد كان الكتّاب في ذلك الوقت أكثر رصانة وحكمة ومقولية، على ما يبدو مما هم عليه الآن. في حالة حيدر حيدر لم تكن السيطرة على العقول بهذه السهولة التي نقع فرائس لها هذه الأيام.
– على أية حال، من يتحمل مسؤولية نفخ سلمان رشدي هو تلك الفتوى الشيعية التي جاءت بناء على مصدر معارضة سنية في باكستان، ولعل ظروف نشأتها كانت سياسية، فمعروف عن الخميني أنه كان ضد كل ما يفرق بين السنة والشيعة، وقام بإجراءات متعددة حتى لا يؤذي المشاعر الدينية للمسلمين السنة في إيران، وكان بحاجة والثورة في بدايتها تقريبا إلى تعزيز الثورة ومكانة إيران الإسلامية، هل معنى ذلك أن الإمام تسرع في إصدار الفتوى؟ وهل إلى هذه الدرجة يتم إهدار دماء الناس؟ هنا يجب ألا نصدق أن رجلا كالخميني اكتفى بكلام عابر ليصدر فتواه، بل إن عنده من الأدلة الكافية لفعل ذلك.
لقد سعى الإعلام الأمريكي المتصهين شيطنة الخميني وتجهيله، وهذا أيضا من دائرة الحرب على النظام الإيراني الذي يخوض معركة ليست سهلة مع العالم من أجل إثبات حقه في أن يكون له مشروعه النووي. إنه صراع سياسي محتدم، وكل الأسلحة فيه مشرعة وشرعيّة.
– أعتقد أنه لا أجمل ولا أنفع من ألا يدخل الأدب في معمعة الصراع السياسي، وقتل الأدباء، وأفضل طريقة للخلاص من رشدي وأمثاله هو السكوت عليهم وعدم منحهم فرصة أن يكونوا أيقونات حرية، فمثل هذه الأحداث تصنع منهم تماثيل حرية خاوية، تمرر من خلالها كثير من الأهداف. لذلك فإن ما حدث أيام طه حسين في الرد عليه وعلى أطروحاته في كتابه “في الشعر الجاهلي” هي أسلم طريقة، مواجهة الحجة بالحجة، بل إنه أنتجت الكثير من المؤلفات النافعة التي ما زالت مراجع ومصادر إلى اليوم.
لكنني أعود وأكرر بصريح العبارة: أنه من الممكن أن يكون وراء هذا الحادث والأحداث المشابهة أيدي مخابرات قذرة، لتحقيق مصالح سياسية. فلا تدري كيف يدار هذا العالم، وأي آلهة خفية تلعب به، حتى أنني أكاد أكون على يقين أنه لو انقطعت الكهرباء في قريتنا النائية التي تقف على طرف العالم الهش سيكون وراءها يد تعمل لصالح الإرهاب العالمي التي تقوده أمريكا، وينفذه عملاؤها، فهل كثير عليهم أن يهيئوا الأجواء ليطعن رشدي 18 طعنة قبل أن ينقل إلى المشفى؟
– أتمنى لرشدي السلامة فعلا، لكن عليه وعلى أمثاله ألا يقعوا فرائس النظام العالمي المجرم، فهل سيتعلم هؤلاء القوم الدرس؟ أم سنعيد الأسطوانة مع كل صنم حرية جديد لنظل ندور في الحلقة المفرغة ذاتها، ونعيد إنتاج ما لم يعد صالحاً للحياة من أصله.