منبرُنا

يومٌ جميلٌ للحياة

 

أبي الغالي،
تغمدك الله برحمته الواسعة و وسّع عليك قبرك،
كنت سأقول لك: لا تطرق رأسك في الأرض، ارفعه عالياً و افتخر بمن أنجبت، لكنني تذكرت ضيق مساحة الدفن، و أخشى أن تطرق رأسك في سقف اللحد.

ستبقى تفتخر بي يا والدي حتى في مماتك، و تقول كما كنتَ تردد في حياتك: (مازال فخري هو فخري في الحياة و الموت) ، و ستقول: هو ذا ابني الذي عرفت كيف ربيته، بالرغم من أني هربت مؤخراً من دعوة القتال.

. . أجل ربيتني يا أبي على حب الوطن و ضرورة الدفاع عن ترابه، لا أنكر ذلك و أتذكر قولك لي مراراً: عندما يناديك الواجب للدفاع عن وطنك لا تتردد في بذل دمائك في سبيله و لتكن روحك فداه، قلت لي حين ودّعتني يوم ذهابي لخدمة العلم و الدموع تأبى أن تخرج من مقلتيك: اذهب و دافع عن شرفك أي بني، و إذا ما اندلعت المعركة مع العدو عُدْ إلي بالكفن المغطى بعَلَم الوطن، حينها سأفتخر بك يا “فخري” و أنا أتقبل التهاني بابني الشهيد.

أعتذر منك لأنني لم أمُتْ في ذلك الوقت، خدمت عامين و نصف في صفوف الجيش، تنقلتُ خلالها من موقع إلى موقع، و تدربتُ على مختلف صنوف السلاح، من فك و تركيب البارودة الروسية إلى أحدث الرادارات في كتيبة الحرب الإلكترونية، مارست الرياضة الصباحية و المسائية كل يوم، و تحمّلت أقذع عبارات الشتم و التحقير من أصغر ضابط إلى طلاب الضباط و ضباط الصف، قبلتُ كافة العقوبات الظالمة و الحرمان من الإجازات برحابة صدر، قاومت تقلبات الطقس و أمزجة رؤسائي في كل كتيبة و موقع عسكري، تحمّلت كل هذا و أكثر على أمل أن تشتعل الحرب مع إسرائيل، لأفدي وطني بدمي و روحي كما تعلمتُ منك يا أبي، لكن الوطن تحمّل هو الآخر اعتداءات العدو بصمت، تحمّل اختراق الطيران الحربي الاسرائيلي حرمةَ سماء الوطن، رصدتهُ رادارات كتيبتي يعتدي على سيادة الوطن فوق القصر في سماء اللاذقية، لكن سيد القصر أعطى أوامره للدفاعات الجوية بأن تغمض عيونها و تغلق أفواهها و تسدّ آذانها بصمت، قبلت هذا الذل و قلت في نفسي: سيد الوطن أدرى مني في السياسة و الحرب.

.. قصفَ الطيران الحربي الاسرائيلي موقعاً “سرياً” في الشرق، كذّبتْ الإذاعة السورية الخبر، و قالت: هو موقع مدني لا عسكري لتربية الدجاج و تفقيس البيض، صدّقتُ الخبر الرسمي و لم أصنفه في خانة الكذب الأسود القبيح كما زعمت إذاعات العدو و صور الأقمار الصناعية المغرضة، قلت ربما كان موقعاً لتفقيس الكذب الأبيض المليح، أو البيض البني أو الأبيض لا فرق، لكننا سكتنا على قصفه بكل حال، و اعتبرناها قرصة ودّ من عدونا اللدود مع قبلات متناثرة هنا و هناك في السر.

عامان و نصف و بضعة أيام تحملتها في خدمة علم الوطن دون إطلاق رصاصة واحدة نحو جبهة العدو، تسرّحتُ بعدها من الجيش لألتحق بالخدمة المدنية، خدمت وظيفتي بشرف و أمانة رافضاً بريق الفساد بعناد و صبر، تزوجتُ من حبيبتي الكردية برفض قوبلتُ به منك، قلت لي يومها: يا بني لا تتزوج من غير عرقك فقد ينقلب عليك، لكنني عاندتك و تزوجتها رغم أنفك بكل أسف، تزوجتها دون مباركتك و صبرت على ما لحقني من غضبك حتى دخولك القبر.

أبي العزيز،

ها أنا ذا اليوم أعترف لك برسالتي هذه التي لن تصلك بأنني أخطأتُ خطأ العمر، لقد كنتَ محقاً يا أبتي في رؤيتك تلك عن صراع القوميات، و للأسف اكتشفتُ هذا متأخراً كثيراً و بعد موتك بشهور، اكتشفتُ أيضاً أن تخلفي عن طلب الالتحاق بالخدمة الاحتياطية كان قراراً صائباً في محله رغم تعارضه مع ما تعلمته منك، رأيتُ جنود الوطن يقتلون رفاق الخيمة و بالعكس، رأيت طائرات الوطن الحربية تقصف الوطن لا جبهة القتال على حدود إسرائيل، رأيت طائرات العدو الإسرائيلي تشارك في قصف الوطن و لا نُطلقُ عليها صواريخ “الفيل أو السكود” المحلية الصنع و المستوردة، ذات الأثمان الغالية التي دفعناها من عرق جباهنا، و بتسديدنا نحن و آبائنا من قبلنا ضريبة “المجهود الحربي” لنستخدمها ضد العدو، لا الشعب.

تواريتُ عن الأنظار مع زوجتي و ابنتي في أقصى الشمال الشرقي، اعتبرتني السلطات مطلوباً و عممت اسمي على حواجز الأمن و الجيش، تنقلتُ من قرية إلى قرية في الخفاء بعيداً عن أعين الدولة، فوجئتُ ذات صباح بهروب زوجتي من بيتنا السري بعدما تركتْ لي ابنتي ذات الخمسة أعوام، فهربتُ بصغيرتي و دخلنا إلى الأراضي التركية تهريباً علنياً بعد علمي بالتحاق زوجتي بالقوات الكردية التي تحاول بناء وطن قومي على أنقاص الأرض السورية في الشمال الشرقي خلف النهر، هربتُ يا والدي من قتال الأخوة في معركة الكل فيها خاسر، خسرتُ شرف القتال ضد العدو خلال خدمتي الإلزامية في صفوف الجيش العربي السوري بسبب سكوت سيد القصر، لكنني لم أخسر حياتي و حياة ابنتي في حرب بدأها صاحب القرار ضد الشعب لإسكات الأصوات المطالبة بالكرامة و الحرية، حرب خسرتْ فيها البلاد سيادتها و حريتها و كرامتها، أدخلتْ الغرباء إلى ساحات السلم و الحرب لقتلنا و التحكم في رقابنا و تدمير بيوتنا، حرب بدأتْ لأننا طلبنا الحرية و الكرامة، فأهدرتْ كرامتنا و اغتصبتْ حريتنا و مرّغت جباهنا بالذل، يا ترى لو كنتَ حياً يا أبي اليوم، هل كنتَ ستدفعني للإلتحاق بالجيش أم ستسكت و تطلب مني الهروب كما فعلتُ حقاً ؟
أبي الحبيب،

كنت تصحبني معك في صغري إلى السينما في بعض الأحيان، شاهدتُ معك فيلماً ملوناً عن الغرب الأمريكي، يهاجم فيه الرجل الأبيض أصحاب الأرض الهنود الحمر، كنت معجباً و مازلتُ بأزيائهم و طقوسهم و عاداتهم و أسمائهم، أحببت كل ذلك في حياتهم السلمية و في الحرب، أكثر ما أعجبني طقوس تحضير أنفسهم لقتال الرجل الأبيض المحتل، يرقصون و يتزينون و يصرخون بفرح قبل مغادرة القرية إلى ساحة الحرب: إنه يوم جميل للموت.

اليوم و أنا الذي لم يمت بعد، أقول لك يا أبي و أنت في القبر: كنت أرجو أن يأتي ذلك اليوم الذي أجهز فيه نفسي للقتال ضد العدو المحتل، أرقص رقصة الحرب كالهنود الحمر، أشرب نخب أرضي المقدسة، و أرفع رأسي نحو شمس بلادي قائلاً: يا مرحبا بالحرب، إنه يوم جميل للموت.

لكن يا أبي على ما يبدو أن ذلك اليوم لن يأتي في حياتي و لا بعد مماتي، هنيئاً لك يا أبي لأنك متّ قبل أن تشهد هذه الحرب القذرة، و سامحني لأنني هربت و قلت: إنه يوم جميل للحياة.
أبي المرحوم،

سامحني لأنني هربت من الموت، “إنني عدتُ من الموت لأحيا، لأغني ” * لأعيش بسلام بلا خوف، عدت من الموت المتربص بنا في كل شبر بأرض سوريا الممزقة، و في كل لحظة و أي وقت، عدتُ من الموت مرةً ثانية عندما هربت من تركيا و ركبت البحر، عملت هذه المرة بما قلته لي في شبابي يوم نويتُ الهجرة إلى تركيا، قلت لي ذلك اليوم: (عدو جَدّك لا يودّك)، تذكرت هذا القول المأثور و لم أصدق مقولة المهاجرين و الأنصار، رأيت “غصن الزيتون” التركي يستبيح أعراض قريبي – من زوجتي – الكردي و يسطو على زيتونه و زيته و بيته، رأيتُ نظرات الحقد في بعض النفوس الأعجمية، و سمعت دعوات التحريض ضد اللاجئين السوريين تنطلق بين الحين و الحين، خفتُ على حياة طفلتي و حياتي، فغامرت بهما ضد احتمال الغرق تحت موج البحر، نفدتُ بروحي و حياة ابنتي و إلى برّ الأمان في أوروبا وصلنا بسلام، قرأنا الفاتحة على روحك فور وصولنا البر، و طلبنا لروحك الرحمة و المغفرة و السلام، أرسل لك سلامي عبر موج البحر طالباً منك المغفرة و السماح، و لترقد روحك الطاهرة بسلام .
ابنك فخري


جهاد الدين رمضان
في فيينا ١ شباط/فبراير ٢٠٢٠
*الكلمات بين القوسين مقتبسة من قصيدة “مغني الدم” للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش حول مجزرة كفر قاسم.
و نص الرسالة وجده أحدهم في قنينة لفظها البحر على شط إحدى الجزر اليونانية، نشرته المحطات الفضائية عقب غرق الطفل السوري “أيلان الكردي” المرفقة صورته الرمزية أدناه.

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى