وهل جزاءُ الإحسانِ وجعٌ ؟
لا تستغربوا هذا العنوان، فقد تعلمنا أن جزاء الإحسان يكون مثله أو أحسن ، و جرت عادة اللسان أن نردّ على المرحبا بمرحبتين و أهلين و سهلين، و سمعت أبي – رحمه الله – يقول مراراً : (ما حدا يقول لك “وجع” إذا قلت له مرحبا) .
و للهُ العزيز الحكيم يقول في محكم تنزيله ( و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان). فكيف يكون جزاء الإحسان وجع يصيبك؟.
نعم يا سادة يا كرام، قلت مرحبا للجميع في مسيرة حياتي بحلب، و خصوصاً في مسيرتي العملية في المحاماة، فقد كنت أحرص على التبسم مع قول مرحبا للموظف المعتّر، و قد أزيد عليها بكلمة صباح الخير يا وجه الخير، و عينك ما تشوف شر، يحدجني بنظرة مرعبة كأنني قتلت أمه، فأتلطف بأبيه و أبي الفقر و التعتير الذي عكّر مزاجه على بكّير، و كنوع من المساعدة له على نسيان تعتيره و شروره ، أُرفق المرحبا بورقة أم العشرة أو الخمس و العشرين أو الخمسين و ما بعد بعد المئة، كل ورقة حسب حجم التعتير و التعسير و عبوس الموظف اللطيف بالأساس ، و للأسف أغلب الأحيان لا تنفع كل المرحبا و الابتسامات و المغريات و المصريات (الفلوس) في انتزاع المرحبا من الموظف المعتّ.. فيكاد يقول لي “وجع” عندما يرفع رأسه في وجهي، و يمد يده ليأخذ طلبي مع ورقة الشفاعة اللماعة، و يستغفر ربه و يحوقل ، و يقول :
• ما بدنا نخلص من طلباتكم أنتم المحامين؟ الله يلطف بنا و يعين .
يضع أوراق “المعاملة” في الدُرج ، و النقود في الجيب، و يحسن معاملتي بالقول :
• فوت علينا بعد صلاة الظهر يا استاذ، و خذ معاملتك جاهزة بإذن الله.
حتى خارج دوائر الدولة و القطاع العام ، صادفت الكثير من ” الوجع ” بدل المرحبا، و الكثير من الجحود بدل الشكر، فعلى سبيل المثال :
طلبت فنجان قهوة و ربما كأس عصير لجليسي الأمير، و طلبت الحساب و دفعت قيمة الفاتورة، و نقدت الكرسون بخشيشاً يتجاوز نسبة العشرين في المئة (و هي الحد الأعلى للبخشيش المتعارف عليه عالمياً) و عادةً لا أُبخشش أحد بأقل من ربع قيمة الفاتورة، فإذ بالكرسون الملعون ينظر في وجهي شذراً مذراً (لا أعرف كيف، ربما مثل النظرة في الصورة أدناه) و يرمقني بنظرة عتاب كالحريق اللهاب ، و يكاد يضربني بصينية رفع أدوات الطلبات (البوش) الفارغة ، و يقرعني بالقارعة (ربما في منفضة السجائر) و يرميني في قارعة الطريق بلا رفيق .
و آخر يعمل في مغسلة سيارات، غسل سيارتي و انتهى، فأعطيته مئة ليرة سورية كاملة ، نصفها أجرة المغسلة الرسمية، و نصفها الثاني بخشيش حلال زلال لحضرة البروليتاريا المنتوف، نظر الرفيق في ورقة أم الميِّة بعدما نشّف يديه من المَيَّة على قولة أهل مصر، ثم نظر في وجهي و قال بعتب و غضب و لؤم :
• ما هذا يا استاذ؟ مية ليرة بس!
قلت له محاولاً كبت حنقي :
• و ايش بدك لكان؟ أجرة غسيل السيارة حسب تعرفة المغسلة خمسون ليرة، و أنا أعطيتك مثلها (مية في المية) بخشيش، فهل يكون البخشيس أكثر من قيمة الخدمة؟
سكت العامل عن جوابي و عن شكري، بل كاد يضربني بالنبريش على هذا البخشيش..
و في قصة لي بعنوان (أنا هون) تحدثت عن أحد الزعران الذين ظهروا فجأة في أول أحداث عام ٢٠١١ من جحورهم للعلن، كان يتسلبط على أحد الشوارع المجاورة لقصر العدل ، و يأخذ إتاوة من أصحاب السيارات الذين يركنوها في ذاك الزقاق، كانت الدولة آنذاك قد عهّدتْ معظم الشوارع في مركز المدينة لشركة مواقف مأجورة خاصة، و جعلت أجر الوقوف لمدة ساعة بخمسين ليرة سورية، يومها لم أتأخر في القصر لأكثر من ساعة، و عدت لآخذ مفاتيح السيارة من المتطوع البسّام حارس السيارات الأمين، و قد جهزتُ له قطعة نقد معدنية أم الخمس و عشرين مع طلب المفاتيح و قول الله يعطيك العافية و شكراً لك .
نظر الرجل المجهول في قطعة النقد بامتعاض قاتل، و سألني :
• اشو هي استاذ؟
• خمس و عشرين ليرة إكرامية لك.
• بعرف استاذ ، شفتها خمس و عشرين ليرة، بس هيك قليل.
• إفّ ! ليش قليل خيو؟ الشركة تأخذ خمسين ليرة على وقفة السيارة لمدة ساعة في الشارع المأجور، و هذا الشارع حرّ و غير مأجور بعد ، و أنا لم أركن سيارتي فيه لأكثر من ساعة، و ناولتك نصّ أجرة الشركة مع إنك غير موظف فيها، و تعمل متطوعاً لحسابك الخاص بدون أجر ، فتكون نصف الخمسين كويسة و مليحة في هذه الحال ، و لازم تشكرني عليها!
و للأمانة شكرني الرجل بعد أن أفحمته بالجواب، لكنني لم آمن على سيارتي أن يصيبها حجر طائش كعلامة تأكيد على جزيل الشكر و الامتنان …
الأمثلة كثيرة على جزاء الإحسان بالجحود و النكران، و الحمد لله تلك “المرحبا” الممزوجة بالعنف متوفرة بكثرة في حلب الشهباء، و ربما امتزجت هذه الأيام بطلقة مسدس و بعض الرفس و الضرب ، و أحمدُ الله أن جنبني تلك المشاهد “الأكشن” الواقعي، و أعيش في غير واقع الآن، حيث أعطي الكرسون عشرين سنت، فيرد لي عشرة منها بتهذيب و ابتسام و لطف، و يشكرني جداً بقوله من القلب :
• شكراً جزيلاً vielen Dank
Rو في بلد آخر حيث يعيش أولادي لا يقبلون البخشيش مطلقاً، و لا يحتاجون إحسان اي إنسان طالما يقومون بواجبهم و يأخذون أجرهم عن رضا و طيب وجدان، و حدث في زيارتي الأولى لبلاد الألمان، أن تركت لعامل الخزينة في السوبر ماركت قطع السنتات الحمر الصغيرة (من فئة ١ و ٢ و ٥ سنت لونها أحمر) كعادتي في النمسا، و أدرت ظهري للعامل و مشيت ، فإذ به يترك الصندوق و يلحق بي قبل وصولي لباب الخروج، و يرد لي السنتات الحمر مع الإعتذار و كثير الشكر :danke sehr
*استثناء مهم :
حدث ذات مرة في حياتي بحلب أن قلت لإحداهن “وجع” رداً على ترحيبها بي، كانت مطربة صاعدة تتسلق سلم الشهرة في تلك الأيام، و اغنياتها غزت ساحة باب الجنان و محلات كراج “الهوب هوب” الشعبي و حتى الكراج السياحي، و أيضاً حتى في مسجلات التاكسي و السرافيس و البسطات ، و ذلك بعد أن لمع نجمها في فضاء مقاصف “الهشّك بشّك” و نوادي “الوحدة و نصّ” ، كلما اصعد تكسي يطلع لي صوتها من المسجلة قائلاً: مرحبا يا حبيب القلب ، فأقول لها : وجع.
أذهب لسوق الخضرة في “باب جنين” فأسمعها تغني كل حين : أهلا وسهلا بالحلو جميل العينين، فأقول لها : وجعين ان شاء الله .
لا تستغربوا إذ اخبرتكم بأن صوتها يصيبني بالصداع و الغثيان حتى الآن، فاعذروني و سامحوني، هذه هي المرة الوحيدة في حياتي التي خالفت بها القاعدة العامة التي تأمرنا بالإحسان لمن يحسن لنا، و للأمانة و من باب العدل و الإحسان كما يأمر الله، أقول : عرفت أيضاً في حلب كثيراً من الناس يردون المرحبا بمرحبتين و أهلين وسهلين بالعينتين و مية السلامة يا حمامة.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه،، لا يذهبُ العُرفُ بين الله و الناسِ *
جهاد الدين رمضان
فيينا في ١٥ حزيران ٢٠١٩
*النص مقتطف من مذكراتي، و بيت الشعر من قصيدة الحطيئة المشهورة التي يقول فيها (دع المكارم لا ترحل لبغيتها.. ) .