منبرُنا

“إنهم هنا”

في مثل ذلك اليوم من عشر سنوات اختطف الموت ابنتي، صغيرتي، وأميرتي، البالغ من العمر عشر سنوات.. اختطفها من بين أحضاني اختطافا، و أبقاني على قيد الحياة وحيدا ، أكابد آلام الفراق. يومها، في آخر صباح لنا معا، بينما كنا نتناول طعام الفطور.. بدأت ابنتي (بسمة) تسعل وتسعل… وتكمم بيدها فمها.. ولكنها وجدت على كفها دمًا.. فشهقت.. ثم صرخت باكية صرخة هائلة زلزلت كياني، ومزقت قلبي، ثم ارتمت على كتفي وتشبثت به.

فلما رأيتها على هذا الحال هلعت، وبدأ وجهها يصفرُ وكأنها تختنق فجزعتُ، ولما لم أكن أعرف أن مقادير السماء شاءت بأن يكون هذا اخر يوم لها، أسرعت بنقلها إلى المستشفى، وفي الطريق بينما كنت اقود بسرعة جنونية سمعت صرخت زوجتي، فنظرتُ خلفي فإذا ابنتي (بسمة) في يدي أمها جثة باردة لا حراك بها. نفضت يديَّ من تراب القبر وعدت إلى منزلي بائس يائس عاجز قانط إلا من رحمة الله.

رحلت صغيرتي ورحل معها كل شيء جميل، طيفها لا يفارق مخيلتي، ألم شديد يغزو أعماقي كلما تذكرت ضحكاتها وكل شيء فيها.. لقد رحلت عن الدنيا ولم يتبقى لي سوى حزناً يزداد بمرور الأيام مرارةً وألماً. 

 

وها أنا ذا اليوم بعد مرور عشر سنوات أقفُ متجمدا أمام قبرها، وأتأمل السماء بعيون ذابلة من قلة النوم، الليل حالكة ظلمته والنجوم المتلألئة تطوف في بحره. كنت أظن أنني لن احتمل الوقوف أمام قبرها، ولكني فعلتها وأحسست براحة نفسية هادئة تغمرني، أشعر برغبة ملحة في النزول إلى القبر، والتوسل لها كي تعود للحياة.. 

آآآة يا روحي التي بين جنبي ما أقبح الحياة من بعدكِ! لقد كنتِ النعمة التي منحني إيّاها ربي قبل أن اساله، أتذكر صرخاتكِ الأولى عند قدومكِ لهذا العالم الجديد، أتذكر ابتساماتكِ المشرقة التي لا تفارق شفتيكِ حتى وأنتِ غافية، أتذكر المرة الأولى التي وقفتِ فيها على ساقيكِ ومشيتِ أولى خطواتك، وأتذكر أيضا تلك الضحكة الفاخورة التي ارتسمت على وجهي في ذلك اليوم. ابنتي الراحلة إلى السماء لقد أصبح ولدكِ المسكين ممتلئ بالندوب النفسية.

لقد أصبح يتألم بلا ألم، ويبكي بلا صوت، ‏ملامحِيِ بدأت تَتحدث عن التعب الذي أحمله بداخلي، فلا مداد العالم يكفي كي اعبر لكِ عن اشتياقي لرؤيتكِ.. اتعلمين يا (بسمة)، لقد صرت أتمني كل يوم الخلاص من الدنيا التي افتح عيني عليها كل يوم، لأن الدنيا لم تعد جنة مليئة بالازهار والطيور المغردة، بل صارت غابة قاسية موحشة باردة بعد مغادرتك إياها. هكذا تغيرت يا عزيزتي فأنا لم أعد أتأثر بشيء.

كل مرة كنت اتذكركِ فيها كان ينكسر بداخلي شيء ما حتى فقدت القدرة عن التعبير عن مشاعرى، لم أعد أبكي، لم أعد أتكلم، لم أعد أغضب، لقد تحولت كل مشاعري إلى الداخل حتى أشرفت على الهلاك الداخلي، مما أدى إلى توجية غضبي على ذاتي، فحاولت الانتحار كثيرا، ولكن ظل هناك شيئا خفية لا ادري کنهه يدفعني بقوة للاستمرار في الحياة، والتي لم تعد في نظري تساوي شيئا. تناولت ما يقارب الثلاثين قرصا من أقراص النوم ولكن فشلت المحاولة. ولما فشلت تلك المحاولة، قررت تجربة محاولة أخرى، فكتبت على الحائط رسالة لزوجتي أقول فيها: «أعلم يا عزيزتى أن هذه ليست الطريقة الصحيحة، ولكن لم يبق باليد حيلة فهذِه الحَياة الكئيبة القاتمة المُرهقة قهرتِني.. وداعًا».


ولما انتهيت من كتابة الرسالة ذهبت إلى المطبخ ثم فتحتُ الدرج في لهوجة وأخذتُ سكينا كبيرًا وقربته من معصمي وشعرتُ بالمعدن البارد يضغط على شرياني، وفي تلك اللحظة تحديدًا شعرتُ بالخوف أمام رهبة الموت، خوف لم أعرفه من قبل، خوف بمذاق غريب، أنه الخوف من المجهول.. الخوف من المصير الذي ينتظرني بعد الانتحار، ظلت يدي ترتعش، وبدأت اتخلى عن تلك الفكرة الصبيانية،

فهمس لي الشيطان في أذني فبدت همساته كأنها حديث النفس: « لم كل هذه الرهبة أمام الموت ؟! لم هذا الخوف والجبن! لا شك في أن كل إنسان يملأ صدره رغبة بالحياة والخلود، ولكن ما جدوى أن يحيا الإنسان بكل هذا الحزن.. بكل هذا القهر.. بكل هذا العذاب…. ما الجدوى!! ما الجدوى أن تحيا يوما أخرى.. يوما هو أقسى على نفسك من الموت نفسه..

الحياة ليست  كما تظن أو يظن سواك، فهى ليست جنة مليئة بالازهار والطيور المغردة، بل هى غابة قاسية موحشة باردة لا يسكنها إلا الوحوش الضارية، وأنت لست سوى غزال جميل لا يستحق العيش في تلك الغابة التي لا تخشى ولا تفزع إلا للجبار والأقوى؛ لذا الأفضل أن تنتحر، فأنت لا تملك سبباً للمضي قدماً، لا أحد يحبك، لا أحد يريدك، العالم لا يهتم أن كنت حيا أو ميتا، بمعنى آخر لا قيمة لك في هذا العالم.. اراك تضم قدميك المتشنجة في خوف لتتكور على نفسك وتهز رأسك متسائلا: وكيف لي أن أعرف أنى ساكون أسعد في العالم الآخر؟! أليس المنتحر في عرف الدين مصيرة الجحيم! لا تخف يا صديقي لن يكون مصيرك الجحيم، لأن  ما رأيته من هول يضمن لك النعيم».


قطرات صغيرة من العرق تنضح من وجهي وتنحدر إلى شفتي المفتوحتين، ودقات قلبي تتسارع، وتعلو كأنها دقات طبول حرب.. القلب ذاته يكاد يقفز من بين الضلوع، وضعتُ السكين على شرايين يدي وحاولتُ السحب، ولكن يدي أبت ذلك وتمسكت بالحياة، وفجأة اندفعت مئات الذكريات السعيدة إلى رأسي دون هوادة، ذكريات أيام طفولتي وأيام صباي، أيام المدرسة الابتدائية، أيام البراءة والسذاجة والطهارة، كانت كل مشكلتي في ذلك الوقت أن أبى لم يبتع لي تلك اللعبة التي كنت أتوق لها..

ترغرغت عيني بالدموع وخارت قوى فسقط السكين من يدي، وأخذ جسدي في التهاوي، إلى أن ارتطمت ركبتاي بالأرض، فاستندتُ على يدي محاولا الوقوف على قدمي، إلا أني لم أستطع وسقطت على وجهي، لابد أني فقد الوعي للحظات.. وعندما أفاقت اعتدلت جالسا وسندت ظهري إلى الحائط، وراحت أتأمل عنكبوت ينصب شباكه ليصطاد فرائسه من الحشرات، و حدثتني النفس قائلة: « يالك من حقير فاشل في كل شيء، فاشل حتى في أن تنتحر مثلما فشلت في أن تعيش».


ابتسمت في أسى وقلت لنفسي: 

« ربما يكون الغد أفضل.. ربما».

هنا عاد الشيطان يوسوس في صدري مرة أخرى: «آه، يا صديقي العزيز، ألا زلت متفائل بالغد!  ألا زلت تثق في أنه سوف يأتي بالأمل الباسم! قل لي يا إنسان، قل لي كم من مرةٍ فاتك مأرب واستعصى عليك مطلب؟! قل لي يا ابن آدم ما الذي أنجزته في سنوات عمرك الماضية؟ لا شئ سوى الأسى واليأس والفشل الذي تتمنى أن تمحوه الأيام محوًا، ولكن لتعلم يا صديقي أن الأيام لا تنسيك ما مضى ولكنها تؤجلة للوقت الذي تعود فيه مؤلمة أكثر من ذي قبل. أُنظر يا إنسان كيف أن الحياة أصبحت صعبة ومتطلباتها كثيرة، انظر يا إنسان ماذا صنعت بك الحياة! لقد جعلت منك هذا الكائن البائس الممتلئ بالندوب النفسية».


مسحت دمعه انسلت من عيني، ونظرتُ إلى السكين ثم رحتُ مجددًا أتأمل ذلك العنكبوت المشغول بإلتهام الذبابة التي وقعت في شباكه؛ فابتسم الشيطان ابتسامة عريضة، وسأل : «حسنا، أليس هذا كافيا لكى تنتحر؟».

في تلك اللحظة إستنتجت أن محدثي هو الشيطان، فأجبت بعصبية والزبد يتطاير من فمي: « لا، لا ! لا أستطيع الانتحار ليس حبًا في الحياة، فأنا أكره الحياة أشد الكره، وأريد الموت حقًا، ولكنى للأسف جبان.. أنا أضعف من ذبابة؛ لذا أتوسل إليك، دعني وشأني!».


« اتعلم يا ابن آدم ما هو اقسى من حياتك؟! انتظارك الموت، لذا لما لا ترح نفسك وتنتحر؛ فحياتك ليست ذات قيمةٍ كما تظن. لقد تحطمت سفن آمالك على صخرة الحياة، وقبرت أحلامك، وانتحرت طموحاتك قهرا، وغطت الثلوج أحاسيسك، أيها التَائِه في بحر الحياة، أنت تعلم علم اليقين أنك لن تستطيع مقاومة الأمواج لمدة طويلة، سوف تخور قواك وتستسلم في النهاية لتلقي بك الأمواج على شواطئ الأيام محطما، مجروحا مفتت القوی، ولن يبق لك سوى فتات حياة مبعثرة قلقة ملونة بلون الليل. هكذا رسم القدر لوحتك يا إنسان.. الموت هو الحل.. ماذا تنتظر! هيا افعلها.. هناك سكين أمامك على الأرض، هيا تحرك ، نعم هذه، أمسك بها، أمسك بها ولا تخف، هيا ارفعها عاليا، جيد جدًا.. ضعه على يدك، هيا اسحب أيها الشجاع لتنتهي من ذلك الألم».


غرزت السكين  في شراييني ونزفت ببطء فلا النزيف يتوقف ولا الموت يأتي.. الآن انتهى كل شيء، ضاعت الأيام وضاعت الآحلام و.. وابتسم لي الموت فابتسم له، وبعد قليل بدأت أشعر بالنعاس، ثم فجأة أظلمت الدنيا، وسمعت صوتا يتردد في عقلي:« احسنت يا صديقي! مرحبا بك ضيفًا جديدا في الجحيم».


ولما أفقت وجدت نفسي راقدا في المُتستشفى، فأدركت أن محاولة الانتحار فشلت، هكذا رفعت رأسي عاليا نحو السماء وصرخت: ” لماذا لم أمت! لماذا ماتت ابنتي؟ لماذا هي وليس أنا؟! لماذا يموت الطيبون دائما سريعا في حين لا يبقى في هذه الدنيا إلا الأوغاد”


ولم يكن كلامي هذا تشكيكا في حكمة الله، بل تشكيكا في مدى قدرتي على فهم حكمة الله. 

أيقظني من شرودي صوت رنين  هاتفي الجوال، لأجد أني مازلت واقفاً أمام قبر ابنتي، فنظرت في شاشة الهاتف لأجد المتصل زوجتى، أجبت قائلا:

– أنا أزور قبر (بسمة) وسوف أعود إلى المنزل حالا يا عزيزتي. 

–  يجب أن تأتي بأقصى سرعة هناك شئ غريب يحدث في المنزل أنه… 

– الو .. ماذا حدث يا عزيزتى؟ .. الو..

أغلقت الخط فجأة، شعرت بالفزع و بيد متوجسة قمت بمعاودة الاتصال بها أكثر من مرة، لكنها لم ترد على الهاتف، فأسرعت بالقفز في سيارتي وانطلقت بأقصى سرعة، وما هي إلا خمسة عشر دقيقة حتى وصلت إلى المنزل، أخرجت المفتاح من جيبي، لكنه سقط رغمًا عنى، انحنيت والتقطه بيد مرتعشة.. ودخلت.. وأغلقت الباب.. شعرت باحساس مقبض.. كئيب، تحسست الجدار حتى وجدت زر المصباح وضغطته، ولكنّ المصباح لم يضئ، قلت لنفسي يبدو ان النور منقطع، إضاءة كشاف الهاتف وبدأت اتجول في ارجاء الغرفة باحثاً عن زوجتي، أشعر أن شيء ما يتحرك خارج مجال بصري.. التفت.. لا شيء.. الخوف يتزايد بداخلي،

ولكن ذلك لن يمنعني من الإستمرار في البحث عن زوجتي، أشعر أن آلاف الأصوات الغامضة تتزاحم في رأسي، لكني كنت أدرك أن هذا مجرد وهم، دلفت إلى إحدى الغرف، ولا أعلم لماذا تلك الغرفة تحديداً، كل ما اعرف ان فضولاً غامضاً دفعنى لذلك، ولكني على كل حال لم أجدها في تلك الغرفة، تُرى أين هي ؟ كانت الستائر تتأرجح وتصفع الجدران بشدة، مما جعل أعصابي كلها تهتز، هممت بالخروج من تلك الغرفة، ولكني توقفت فجأة واتسعت حدقتا عيني فزعا عندما لمحت انعكاس صورة شئ ما على المرآة، شيئا ما لم أستطع تحديده، نظر إلي ثم مر من خلفي، التفت وقالت بصوت مذعور:

– (أسماء) .. هل هذه أنتِ يا (أسماء).

في تلك اللحظة تحديداً عادت الاضاءة و رأيت كائناً أثيرياً، خفق قلبي بقوة، وتجمدت في مكاني مصدوماً مما أراه أمامي، وقد زادت البرودة من حولي أكثر وأكثر، ليس لن ذلك الكائن مخيف، بل لن ذلك الكائن الأثيري كان زوجتي (أسماء)، ومن خلفها خرجت فتاة صغيرة من الجدار.. فتاة ترتدى ثوبًا أبيض، لكنة ملوثًا بالدماء.. نعم يا صديقي -كما خمنت- أنها ابنتي (بسمة).. آآآة يا إلهي.. أنا أتذكر الآن كل شئ.. في ذات ليلة منذ عشر سنوات مرضت ابنتي، فأسرعت بنقلها إلى المستشفى، وفي الطريق بينما كنت اقود بسرعة جنونية سمعت صرخت زوجتي، فنظرتُ خلفي فإذا ابنتي في يدي أمها جثة باردة لا حراك بها، فجأة تصرخ زوجتي مرة أخرى: 

– إحذر !

  أنظر أمامي لأجد سيارة نقل كبيرة تخرج من طريق جانبي مخالفة قوانين المرور، فأسرع لأتفاداها واضغط بقدمي على الفرامل بقوة.. إصطدام عنيف.. صوت تحطم زجاج السيارة.. فتحت عيني بصعوبة بالغة ولكنني لم أستطع فالدماء تغطي كل وجهي وتغمر ثيابي، أحاول مرة أخرى، وهذه المرة انجح في فتح عيني، ألاحظ أني في غرفة مستشفى، صوت الممرّضة تقول:

– يالها من مأساة فظيعة لقد ماتت الطفلة الصغير والمرأة ولم ينجوا سواء الرجل.

نعم.. نعم.. أنا أتذكر الآن جيدا كل شيء بدقة كأنه حدث البارحة.

 وها أنا ذا الآن أجلس على سرير العلاج في عيادة دكتور (حاتم صبرى)، يقول الدكتور وهو يشعل لفافة تبغ:

–  أنها مجرد هلوسات يا أستاذ تدعى بى هلوسات الحزن.. تلك الهلوسات يمكن أن تكون مرئية أو على هيئة أصوات. 

سحب نفساً عميقاً من لفافة التبغ، ثم أردف: 

 – تلك الهلوسات تلعب دور المؤنس الذي يخفف صدمة الفقدان المفاجئ.

حاولت التكلم  لكنه قاطعني قائلا: 

– لا تقلق مع العلاج سوف تختفى تلك الهلوسات تدريجيا.

فى تلك اللحظة امتلأت عيني بالدموع عندما تخيلت حياتي من دونهم، وجدتها غريبة خاوية من السعادة مليئة بالألم والعذاب، نظرت خلف (دكتور حاتم) فرأيتُ (أسماء) و( بسمة)، ابتسمت وأصبحت أكثر اطمئنانًا، وقلت في قرار نفسي:

 – الحمد لله إنهم هنا!

مؤمن أحمد فاروق‎‎

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى