منبرُنا

هديل الغربان

 

   حطّ “غراب” أسود ضئيل الحجم بعيداً قليلاً عن مجموعة الحمام، كنا نطعمها أنا و زوجتي بجانب نهر “الدانوب” بعيد لجوئنا إلى النمسا بر الأمان، حسبتهُ في البداية طير حمام “أسود الذَنَب” لتماثل شكله و حجمه مع هذا الصنف من الحمام، خصوصاً مع ضعف بصري و قلة معارفي عن عالم الحيوان، لكنه عندما اقترب من فتات الخبز هربت بعض الحمامات ثم كلها، قلتُ في نفسي قد يكون هذا الطير “ذكر حمام” حطّ قرب حمامات السلام ليستعرض فحولته و يستولي على طعامهن، ألقيتُ له فتاتة خبز كبيرة نسبياً لأنه “ذكر” مسكين بحاجة لبناء قواه، قأقأ الطير و هو يحرك رأسه و يمدّ رقبته ليلتقط الفتات، قلتُ لزوجتي مستنكراً هذا الصوت: عجباً هذا الفحل يصدر صوتاً مثل نعيب الغراب، هل نسي الهديل لشدة جوعه و انهيار قواه؟

   نظرتْ زوجتي في وجهي لتتحقق مني هل أنا جادٌ في كلامي أم هو مجرد مزاح؟ حدّقتْ في عيني و جاوبتني بسؤال: ألا تميز بين الغراب و الحمام، إذا كنتَ لا تميز بينهما لضعف نظرك، أفلا تميز أذنك بين نعيق الغراب و هديل الحمام؟

   فركتُ عيني و وضعت نظارتي و تمعنت في مجموعة الطيور السوداء التي حطت بعد هروب الحمام، كانت غربان بلا شك، معظمها أضخم حجماً من الحمام و مناقيرها أكبر بشكل ملحوظ، و هي أقبح شكلاً و صوتاً من طيور الحمام، لكن الطير الأول على صغره ما يزال يشبه ذكر الحمام. 

قلت لزوجتي: صحيح أن صوته يشبه نعيق الغراب، لكنني أراه طير حمام استنزف قواه فتغير صوته مع تضوره من الجوع. ألا تتغير أصوات الكائنات الحية عند الجوع؟ حتى الإنسان يتغير صوته و يشبه الفحيح.

تبسمت زوجتي و قد اختلط عليها الجدّ و الهزال، قالت: بلى، تتأثر أصوات الكائنات الحية عند الجوع و التزاوج، لكن لا يمكن أن يتحول نعيق الغربان إلى “هديل” مهما تضورت جوعاً، الغراب يبقى غراب و إن اختلط مع الحمام و حاول تقليدها في الصوت و الهيئة.

نزعتُ نظارتي عن عيني و أصخت سمعي، فإذ بي أسمع صوت هديل الغربان! هذا الصوت الذي أسمعه في بلدي منذ تسعة أعوام. 


   في تلك الليلة المتأخرة من شهر آب عام ألفين و اثنا عشر، اتصل بي أبي رحمه الله، كان صوته شجياً يغالبه البكاء، قال لي:

  • الوداع يا جهاد، مع طلوع الضوء سنهجر الوطن جميعنا، أنا و أمك و اخوتك و أولادهم، خلص الوقت و بقي لنا سويعات لا تكفي لأن تزورنا و نتودع، لذلك أودعك على الهاتف يا ابني الحبيب، ادعُ لنا بالوصول بسلامة و أمان.
  • م.. ممما.. ماذا تقول يا أبي؟ البارحة كنا نتحدث عن الوضع، قلتَ لي بأنكم باقون رغم قرب القصف من بيتكم، ماذا حدث الآن؟ هل أصيب أحدكم لا سمح الله؟ هل تعرضتم للأذى أو تناثرت حول البناية الشظايا؟

هدأ صوت أبي و صار أكثر وضوحاً و ثقةً عندما أجابني:

  • لا، و الحمد لله، كلنا بخير يا ولدي العزيز، لقد اتخذنا قرارنا منذ بضعة أيام و لم نخبرك كيلا تجازف بزيارتنا.
  • طيب، ابقوا ليوم واحد، دعوني أزوركم في الصباح، لا لا.. سأركب سيارتي الآن، بعد ثلاث ساعات أكون عندكم، اقضي ليلة معكم ثم نفترق و نتودع..

قبل أن أكمل توسلي، قاطعني أبي بصوت صارم هادئ يغلفه الأسى و الحنين:

  • لا تفعل، لن تستطع أن تلحق بنا، رتبنا أمورنا مع السيارة و المُهرّب . خلال ساعات نعبر الحدود من “ميدان اكبس” إلى تركيا إذا سارت الأمور بسلام.
  • طيب، أعطني أمي لأودعها و أقبلها على الهاتف؟
  • أمك نائمة الآن، الكل نائم أيضاً، لم أكن أنوي أن اتصل بك إلا بعد وصولنا لتركيا، لكنني لم أستطع النوم و شقّ عليَّ ألا أودعك، الوداع يا ابني، الوداع يا جهاد ..

راحت العرب و العربان *** و ما بقي غير البوم و الغربان…

بخاطركم يا ابني، الله معكم، الله يحفظكم…

 قالها أبي و هو ينوح، ثم أقفل الهاتف و فتح في قلبي جروح…


   هاجر أهلي و هجرتُ الوطن بعدهم بشهور، طار الحمام و حطت الغربان، طغى أزيز الرصاص و هدير المدافع على هديل الحمام، حمّام الدم يكبر في بلدي و تغرق فيه الأرواح، لا أحد يسمع أصواتنا الآن، غردنا عن الحرية و الكرامة فسلبونا كرامتنا و قيدونا في زنازين المهانة و أقفاص الاتهام، سلبوا منا صوت الفرح و الطرب و الحياة و أعطونا صوت البوم في الخراب، سلبونا من الغناء و منحونا آهات العذاب، تحط طيور مشبوهة من كل صوب و حدب على أرض بلدي عليه السلام، تنعق بلغة الغربان عن محادثات السلام، كل الطيور التي حطت على أرض بلدي زعمت أنها حمامات سلام، لكنها ما تزال تجرحنا بأصوات هديل الغربان .. 

   أفتح نافذتي المطلة على حديقة البناء بينما أدخن سيجارتي، أرى مجموعة طيور مختلفة الأشكال و الأنواع، تحطّ على العشب و غصون الأشجار و شرفات الجيران، ينعق غراب أسود قبيح و هو يطير، يهدل الحمام و يغرد طائر “أبي الحنّاء” بعيداً عن مجموعات الغربان، ما إن يحط الغراب في مكان ما تهرب بقية الطيور و تطير بعيداً عنه، يعلو صوت الغربان على أصوات تغريد الطيور و هديل الحمام، يتباهى الغراب بصوته المنكر الشاذ و يصيح “قاق… قاق” ، لكن سرعان ما يختفي صوت النعيب في أول المساء، و من أعلى شجرة في الفناء، أسمع نغمات طائر أبي الحناء تصدح في السماء، ربما أسمع صوت ضُباح بومة ينعق في الليل، لكنني استيقظ على صوت هديل الحمام في كل صباح .


جهاد الدين رمضان

في فيينا ٢٠ حزيران/يونيو ٢٠٢٠

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى