حول محاولة اغتيال الكاتب سلمان رشدي.. قبر الخيال!
مها حسن.
حين التقيت الكاتب سلمان رشدي في معرض الكتاب في باريس قبل أكثر من عشر سنوات، تحديدًا في شهر مارس/ آذار 2010، بدا كأنه وضع الفتوى الصادرة ضده، خلفه.
لم يتطرق رشدي، حسب ذاكرتي، في لقائه المشترك بالجمهور، بصحبة الروائي بول أوستر، إلى قصة الفتوى والتهديد بالقتل، بل ظهر الرجلان يتحدثان بمرح، كأنهما جالسان في صالون في بيت أحدهما، أو في بيت صديق آخر.
تحدث رشدي وأوستر عن طقوسهما بالكتابة، وتحدثا كثيرًا عن علاقتهما، ككاتبين صديقين يقيمان في المدينة فسها، يتقاسمان هوايات أخرى غير الكتابة.
طغى المرح على اللقاء. وبدا على رشدي المزاج اللطيف الميال صوب الدعابة والضحك، ولم أشعر للحظة، أن ثمة توترًا أو تخوفًا من حدوث مكروه، ولم تكن هنالك إجراءات أمنية خارج المألوف.
حين سمعت نبأ طعنه في ندوة أقامها في نيويورك، توقعت، من دون لحظة شك، أن تتم إدانة ذلك الفعل، من دون مناقشة بشاعة ما حدث.
لكنني صدمت وأنا أقرأ تعليقات بعضهم على الخبر، وأغلبهم ظهر باسمه الحقيقي، يدعون للقاتل بالتوفيق والجنة، ويشكرونه لأنه طعن ذلك الكاتب الملعون.
بدا لي وأنا أقرأ تلك التعليقات بأنني، وكثيرون مثلي، أعيش في كوكب منفصل عن الواقع، إذ أن بديهياتنا في نبذ العنف تبدو خاصة بنا، وليست واقعية.
تخيلت لو أن هذا حصل في معرض الكتاب في باريس، وأنا موجودة مع جمهور متلهّف لسماع الحديث عن الأدب.. لن يكون هناك أي ذرة شك في إدانة ذلك الفعل.
لكن أن يكون هناك فعلًا أشخاص يعيشون بيننا يشمتون بما حدث، ويدعون للشخص الذي طعن رشدي بالخير والتوفيق، بل وأن أسمع بعض الشخصيات على المشهد الثقافي العربي تقول بأن هذا يحدث لتشجيع بيع كتب رشدي مجددًا، فهي أمور لم تكن في حساباتي فعلًا.
من هنا خطر في بالي ذلك العالم الموازي لنا، الذي يتحرك بقوة، وقد ندعوه بعالم الشر، بينما هو نفسه، يرانا كبذور للشر.
هكذا تسقط البديهيات، إذًا. ليس العالم متفقًا على قيم بديهية: الخير، السلام، المحبة… بل قد يوظف بعضهم هذه المفردات، في عمل مخالف تمامًا لها، وهذا خطر تفرضه وتكبّره، وسائل التواصل، التي ينتشر بها بقوة، أولئك الأشرار، ولا توجد منابر مضادة، أو معارضة، تكفي لإظهار أصوات الطرف الآخر.
ردود الفعل لأولئك الذين يعيشون في الكوكب الموازي، أبناء الشر من وجهة نظرنا، نحن سكان كوكب الكتابة والمحبة والسلام، تجعلنا جميعًا نشعر بالخوف لازدياد عددهم، ولتحول القتل عندهم إلى أمر بديهي، لا تهتزّ منه شعرة، ليقول البعض بأن طعن رشدي هو نصرة للإسلام، وأن من قام بذلك هو بطل.
بعد أن كشفت السلطات عن طاعن رشدي، تبين أن عمره 24 عامًا فقط، لم يكن قد ولد حين صدرت رواية “آيات شيطانية”، ولا حين صدرت فتوى الخميني بهدر دم الكاتب عام 1989، وهذا يُظهر أن هؤلاء الخصوم يجهلون تمامًا العوالم الحقيقية لخصومهم، وأن كراهيتهم قائمة على النقل الببغاوي.
ومع عدم تحديد دوافع فعلته بدقة بعد، إذ لم تصرّح السلطات المعنية بهذا، ولم تعرف بعد، فإن فعل الشاب لا ينزاح عن كونه استجابة لبروباغندا وأفكار شائعة خاطئة عن الآخر، تقوم على الشعارات العنصرية والكارهة للآخر المختلف، التي تروجها جهات سياسية لأهداف تخدم مصالحها غير المرتبطة بالدين والحافظ عليه، فتقوم بشيطنة الآخر/ الخصم، وتهدر دمه.
- ثمن الكتابة.. الخطر الذي تشكّله على حياة الكاتب
شاب أمام لوحة إعلانية لحزب الله في قرية يارون (جنوب لبنان) التي ينتمي إليها هادي مطر الذي طعن سلمان رشدي في نيويورك (13/ 8/ 2022/فرانس برس) |
تحدث سلمان رشدي في فيلم مصور عن حياته حين كان متخفيًا لمدة عشر سنوات، وشرح كيف غيّر سكنه، ستًا وخمسين مرة، خشية على حياته.
كان سلمان رشدي آنذاك يتنقل بهوية مستعارة وباسم غير اسمه الحقيقي، وقال في أحد مقتطفات من الفيلم، بأنه لم يكن يمتلك متعة التقاط الصور في تجواله وندواته، وإرسالها إلى الأصدقاء.. كان يحرص على أن يبقى وجهه مجهولًا.
كلّفه كتاب واحد، عشر سنوات من العيش في الخفاء، وها هو يكلفه اليوم خمس عشرة طعنة قد تفقده إحدى عينيه، أو ذراعيه.
الثمن ذاته الذي يدفعه الكاتب الإيطالي روبرتو سافيانو، صاحب كتاب “كامورا”، الذي يفضح فيه أسرار المافيا الإيطالية، ليتلقى التهديد بالموت، ويضطر إلى التنقل بسرية تحت حماية الشرطة.
المافيا الإيطالية سبق واغتالت شخصيات عدة، من صحافيين وكتّاب، وهذا يبدو ثمن الكلمة والتعبير عن الرأي.
باستعراض حياة الكتاب الذين تعرضوا للاعتداء، أو التهديد بالقتل، نعثر على عشرات الأسماء: ديستويفسكي، الكاتب الروسي الشهير، حكم عليه بالإعدام، ثم تم تخفيف الحكم ليعيش في منفاه في سيبيريا. نجيب محفوظ، الذي تعرض لمحاولة اغتيال عام 1995 بطعنة في سكين في عنقه، بسبب روايته “أولاد حارتنا”، تسليمة نسرين التي تركت بيتها في بنغلاديش بسبب حكم قضائي يتهم روايتها بالإساءة إلى الإسلام.
أما في فرنسا، فإن أحداث مقتل صحافيي جريدة “شارلي إيبدو” لا تزال طازجة، ولا نزال نتذكر ذلك اليوم المروع من صباح السابع من كانون الثاني/ يناير 2015.
- الكتاب الخائفون بصمت في العالم العربي/ درس سلمان رشدي
لا يبدو وضع الكتاب العرب أقل خطورة، إذا اقترب أحدهم من الخطوط الحمراء، كما حصل لنجيب محفوظ.
في إحدى زياراتي لبلد عربي، تحدث معي روائي متخوفًا من طبعة عمله الجديد، وقال لي بأنه سوف يعتقلونه في بلده، أو يهدرون دمه. وكنت مثله، قلقة على سلامته، إلى أن قرر العدول عن فكرة نشر الكتاب، آملًا أن يذهب إلى بلد أوروبي يحظى فيه بالحماية، وينشر كتابه وهو في أمان.
هذا الروائي ليس الحالة الوحيدة لضحايا الخوف، وعدم القدرة على التعبير: الخوف من الاعتقال، من الاغتيال، من التكفير.
حتى أوروبا لم تعد بيئة آمنة، فما حدث لـ”شارلي إيبدو”، حدث في باريس، وما وقع لسلمان رشدي، كان في أميركا.. لأن أعداء الحرية مستعدون للذهاب إلى أقصى العالم للتخلص من خصومهم الفكريين.
ربما هذا الواقع المخيف للكتابة الخارجة عن الأطر المسموح بها دينيًا وسياسيًا، بل ومافيويًا، يعزز الكتابة التقليدية الآمنة البعيدة عن الصدام مع الآخر، ومن دون شك، يوقف احتمالات طرح وجهات نظر متعددة في الفكر والفن والأدب، وينقل السموم الموجودة في العالم السياسي وأجوائه المخيفة من حروب وتصفيات بين المتخاصمين، إلى عالم الكتابة، الذي لا يقوم من دون حرية، ومن دون استقلال عن السياسة.
أعتقد أن هنالك كثيرًا من الكتاب العرب شعروا بالخوف من مصير مماثل وهم يتفرجون على الأخبار، ويرون الفيديو الذي انتشر بسرعة في مواقع التواصل والصحف ومحطات التلفزة، العربية والأجنبية، حيث الكاتب سلمان رشدي، ممددًا على الأرض، وغائبًا خلف مجموعة أشخاص كانوا قبل لحظات يجلسون بانتظار سماع كاتبهم، ليهبّوا لمساعدته قبل وصول الشرطة والإسعاف.
من جهة أخرى، وهذا ما أثق فيه، لا يزال هنالك بعض الفرسان من الكتاب العرب الذين يتحلون بالشجاعة، رغم الخوف، ورغم الخطر الحقيقي على حياتهم، للكتابة بحرية، مؤمنين أن الصراع بين أنصار الحرية وخصومها يحتاج إلى شجاعة استثنائية.
ربما ما وقع لسلمان رشدي اليوم يضعنا جميعًا، نحن الكتاب خاصة، في موقع المساءلة، وفي موضع التفكير بهذه الشجاعة، لأن الكتابة مهنة عظيمة ونبيلة، تتطلب الحرية والشجاعة معًا، وهذا هو الدرس الذي قد نستخلصه، نحن الكتاب خاصة، من حادثة طعن الكاتب سلمان رشدي.
***
قبرٌ للخيال
محمود عبد الغني
“بين الإنسان والإنسان، بين مجموعة بشرية ومجموعة بشرية يسود الصمت، هو صمت القتل…”.
هرمان باروخ (1934)
سلمان رشدي يقف لالتقاط صورة خلال اليوم الصحافي “أطفال منتصف الليل” في لوس أنجلوس (19/ 4/ 2013/ فرانس برس) |
منذ أن أفتى الإمام الخميني فتواه الشهيرة التي طالب فيها كل المسلمين في العالم “باغتيال سلمان رشدي، وناشريه، وبسرعة، حيثما وُجد”، يوم 14 فبراير/ شباط 1989، بعد تظاهرات عنيفة في باكستان ضدّ ظهور رواية رشدي “آيات شيطانية”، منذ ذلك الحين أدركنا فجأة أن الاغتيال لم يعد له حدود، وأن العالم أصبح مفتوحًا من دون إمكانية للتراجع، وأنه، وهذا هو الأسوأ، لم يعد يمنح مخبأ للمهدَّدين بأرواحهم.
والجميع يتذكر أن على الصفحات الأولى من الجرائد، وشاشات التلفزيون (واليوم على صفحات التواصل الاجتماعي)، ظهر وجه كاتب من لندن، نصف مازح، نصف مذهول، نصف إنكليزي ونصف هندي، والذي يتميّز بطريقة جديدة في الدفاع عن الحرية الأدبية، والحق في الخيال. وها هو اليوم يعود هذا الوجه، بعد أن كَبُر وشاخ بأكثر من ثلاثين سنة، إلى المشهد العالمي بعد محاولة اغتيال نفذها شاب إيراني متشدّد، حاول تنفيذ صدى الفتوى القديمة التي ما زالت تطارد سلمان رشدي كما يطارده ظله.
وينتظر الإيرانيون نتيجة هذه الطعنة، فإذا أودت بحياته فسيكون عبرة لغيره، وإن نجا عليه “أن يجد فرصة لكتابة رواية لا يهين فيها محمد وإبراهيم ومريم”، كما عبر عن ذلك في تغريدة عطاء الله مهاجراني، وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي في الحكومة الأولى لمحمد خاتمي، والذي يعيش اليوم في بريطانيا. ولذلك دلالة واضحة هي أن أعداء رشدي يعيشون معه في كل مكان، في لندن، في نيويورك، في ألمانيا… في كل مكان. وكل مكان لم يعد ملجأ آمنًا له.
وكل من هو مثل عطاء الله مهاجراني، يرى أن فتوى الإمام ما زالت حية، وتتحرّك في كل مكان، ويمكن تنفيذها في كل فرصة، وحيث وجد سلمان رشدي، من طرف جنود الخميني، وكل منفذ سيفوز بمبلغ قدره ثلاثة ملايين و300 ألف دولار.
هنالك أمر آخر يمكن تسجيله، وهو أن زمن إطلاق الفتوى، وما بعده، شهد عمليات اغتيال عدة للكتاب والأدباء في إيران، الجزائر، أفغانستان ومصر، حيث نفذ أحد المتشددين تنفيذ فتوى عمر عبد الرحمن ضد الأديب نجيب محفوظ يوم 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1995، بدعوى أنه أساء إلى الإسلام في رواياته: “أولاد حارتنا”، “المرايا”، “حديث الصباح والمساء”، “يوم قتل الزعيم”.
ولحسن الحظ، باءت المحاولة الشيطانية بالفشل. فهل الخيال في الفن والأدب يهدّد العالم إلى هذا الحدّ؟ سيكون من نتائج ذلك، من دون شك، نشوء صراع غير متساوٍ لن يتوقف. لكن، رغم ذلك، لن يتوقف الخيال عن المشاركة في خلق الوعي بالتاريخ والجمال، وبتأويل مغامرة الإنسان على الأرض.
ماذا كانت تنتظر الفتوى النائمة طيلة ما يفوق ثلاثين سنة؟ الجواب بسيط: كانت تنتظر ارتخاء المصالح الأمنية الدولية التي استنفرت بعدها مباشرة. كانت تنتظر العطل التي يسترخي فيها الدبلوماسيون والسياسيون وأجهزة المخابرات.
كانت تنتظر أن تنكسر المرآة الإعلامية التي تنعكس عليها قضية سلمان رشدي، تلك المرآة العملاقة التي تتحول فيها التراجيديات الكبرى إلى خبر أحمر ينتشر بسرعة تفوق سرعة البرق. بل، وهذا مهم، كانت تنتظر أن يطمئن سلمان رشدي وحراسه، ويتوهموا أن الفتوى نامت، أو ماتت. لكنه هو نفسه كان يعي أنه لا يواجه إرهاب جماعة، أو إرهاب عدد محدود من الأشخاص، بل إرهاب دولة.
الصفحة الأولى لصحيفة “وطن إمروز” الإيرانية، مع عنوان “سكين في عنق سلمان رشدي” في العاصمة طهران (13/ 8/ 2022/فرانس برس) |
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ. فقد تلت الفتوى الأولى، فتوى الخميني، فتوى ثانية لم تكن من توقيع مَلالي طهران، بل وقعها رجال سياسة (أحيانًا ينتمون إلى تيارات تقدمية)، ورجال دين (غالبًا من المتنوّرين)، بل ومن طرف الكُتاب، وقد مثلهم الكاتب البريطاني جون لو كاري (1931 ـ 2020).
وقد جرى بينهما جدال حاد على صفحات جريدة “الغارديان” (نوفمبر/ تشرين الثاني 1997)، إذ اتهمه رشدي بوقوفه في صفّ الديكتاتوريات وقت هاجمه المتشدّدون بسبب روايته “آيات شيطانية”. وقد عرف لوكاري موقفه القائل بغياب أي قانون يمكن بموجبه “إهانة الديانات الكبرى من دون الإفلات من العقاب”.
بعد الفتوى الأولى، خرجت إلى الوجود، وفي كل العالم موجات تضامن ليس مع سلمان رشدي باعتباره كاتبًا مهدّدًا بالموت من طرف الفتوى الخمينية، بل ومع كل المسلمين المهددين بسبب اختياراتهم الدينية.
يذكر كريستيان سالمون، الكاتب العام للبرلمان العالمي للكُتّاب، في كتابه “قبر الخيال” (الذي نستعير منه عنوانه في هذه المقالة)، أن الأسقف ديكورتراي، رئيس بلاد الغال، أقام صلة بين قضية سلمان رشدي والحملة التي أُطلقت ضد فيلم “المحاولة الأخيرة للمسيح” لمارتن سكورسيزي، حين صرخ: “مرة أخرى يتم إهانة إيمان المؤمنين. بالأمس في فيلم قام بتشويه وجه المسيح. واليوم المسلمون يهاجمون كتابًا عن النبي”.
لم يقف الأمر عند المسلمين فقط، بل يذكر ك. سالمون في كتابه أن رئيس أساقفة نيويورك، الأسقف جون أوكنور، رأى أن رواية سلمان رشدي تسيء للإسلام، وطلب من أتباعه والمخلصين له عدم قراءة الرواية. الحاخام الأكبر في إسرائيل، الفاتيكان، ومارغريت تاتشر، عبروا كلهم عن الاستنكار نفسه.
الرئيس الفرنسي جاك شيراك صرّح بكل جرأة: “أنا لا أحب سلمان رشدي. لقد قرأت ما نشرته الصحافة (يتعلق الأمر بالفصول الأولى من “آيات شيطانية”). أمر بائس”.
لكن الأسقف لوستيغر، عضو الأكاديمية الفرنسية، هو من دون منازع من ذهب أبعد من ذلك، إذ لم يتردّد في القول: “صورة المسيح ومحمد لا تنتمي لخيال الفنانين…”، وبذلك شطّبَ على قرون من تاريخ الفن التشكيلي.
بعد أربع سنوات، أي في عام 1993، وبمناسبة تأسيس هيئة البرلمان العالمي للكُتَّاب، شرح سلمان رشدي كيف أنه بعد أخذ الرهائن واختطاف الطائرات، يمكن أن يصبح اغتيال الأدباء والمفكرين والفنانين نموذجًا جديدًا للإرهاب. وأضاف بلغة تحذيرية: “وإذا لم تتم محاربة هذا النموذج، سيتم تطبيقه وسيتوسع”. وهذا فعلًا ما حدث.
فقد اتسع عدد الفتاوى في إيران، مصر، بنغلادش والجزائر، حيث أصبح الكتاب والمثقفون الهدف المفضّل للاغتيالات العمياء، والذي له مردودية وعائدات بالنسبة للإعلام. لقد انتقلوا من الرقابة على الأعمال الأدبية إلى اضطهاد الكُتّاب، من معاقبة النصوص إلى قطع الرؤوس.
اليوم، أصبح الأدب يتعرض لعنف غير مسبوق في تاريخه. لقد تغيرت المراقبة والعقاب في الشكل، والأدوات. أصبحت خاصة، وانفصلت عن الدولة، ومرّت نحو المجتمع، وبذلك أصبحت حالة عقلية. لم تعد أبدًا تضرب النصوص والكتب، بل أصبحت تتجه مباشرة إلى المؤلفين.
وخصوصًا لم تعد تضرب الآراء السياسية، الدينية، أو الأيديولوجية، لقد بدأت تهجم على الخيال بصفته خيالًا، وتنوي تحويل كل إبداع فني حر إلى جريمة. ففي إيران منعت الموسيقى في شموليتها، منع بثها وتدريسها. في أفغانستان، كان أول ما قامت به طالبان في أثناء دخولها إلى كابول هو حرق أشرطة الأفلام حتى من دون مشاهدتها.
وفي الجزائر، في العشرية السوداء، يكفي أن تحمل صفة كاتب لوضعك في اللوائح السوداء التي تضعها الجماعات الإسلامية الجهادية.
إن الفعل الشنيع الذي تعرض له سلمان رشدي سيعيد كل هذ القضايا إلى النقاش. وستتحمل فيه الدول والجمعيات والمؤسسات والنقابات والأحزاب كامل المسؤولية لمحاصرة فعل التكفير والاغتيال قبل أن يمتد ويتخذ أشكالًا أخرى غير واردة.
ضفة ثالثة