منبرُنا

اهتمام أم امتهان ؟

 

   خاض معظم الناس على اختلاف علومهم و فضولهم في جائحة العصر من قبلي بزمان: “الكورونا” يا سادة يا كرام…  هذه النائبة لم تمسني بأي أذى و لله الحمد، لكن إجراءات الوقاية منها هي التي أذتني في الروح و الجسد، كنت أتحامل على نفسي و أغض طرفي عن أذاها و آثارها الجارحة حتى صدمني مشهد اليوم. 

   صدمني مشهد آخر قبل هذا في بداية تفشي الفيروس في أوروبا و دخوله أراضي النمسا، كنت أسير على الرصيف بصحبة زوجتي، شاهدنا امرأة قادمة باتجاهنا تسير على طرف الرصيف الضيق، فأفسحنا لها مجالاً لتمرّ بيسر و راحة، لكنها حين صارت بمحاذاتنا خرجت عن حافة الرصيف و وقفت في الجزيرة العشبية الملاصقة للرصيف، فعلت ذلك بسرعة و حذر كأنها تمرّ بجانب قذارة أو جرذ حقير أو حيوان سائب خطير… أإلى هذا الحدّ صار مخيفاً الاقتراب من الإنسان؟

   بقيت عدة أيام أعاني من هول هذا الحدث الذي حفر في روحي شرخاً أليما، فقد حسبت تصرف المرأة يعنيني أنا بالذات و يهين كرامتي، و لم أنظر إليه كتصرف طبيعي من إنسان يخشى التقاط العدوى بالاقتراب من إنسان آخر، و لولا أنني كنت مضطراً للخروج من المنزل لبقيت معتزلاً الدنيا بإرادتي قبل فرض العزل و الحجر و الحظر و قواعد التنافر الاجتماعي، لكن ظروف استلامي لمنزلي الجديد في بداية إطلاق إجراءات الوقاية من الوباء، و ضرورة فرشه و تجهيزه للسكن قبل انتهاء عقد سكني القديم، فرضت علينا – أنا و زوجتي – أن نخرج كل يوم لنسعى في مناكبه، نخرج في ظروف قهر و تعتير و تحدي للوباء الخطير، كلفنا ذلك الكثير من الجهد و المال و الأذى، مع ذلك سايرنا الظروف و سرنا مع تلافيف التيار حتى استطعنا الانتقال للسكن الجديد مع نصف عفش و الباقي سيأتي في الطريق، حاولت نسيان آثار الكورونا و جرحي النفسي و مشاهد التنافر و التناحر و التنمر الاجتماعي، و تحديت وضع الكمامة كلما استطعت لذلك سبيلاً بسبب أذاها لجسدي من تهيج البشرة و ظهور البثور و استنشاق النفس الحار و تسببه في التهاب ملتحمة العين و إثارة مشاكل أنفي الصحية، كنت أيضاً أتأذى منها نفسياً أكثر من ضررها الجسدي، لطالما اعتبرتها وسيلة لكمّ الأفواه و خنق الأفكار قبل أن تكون وسيلة وقاية و حماية من شرور هذا الفيروس اللعين، و ما تسميتها بالكمامة إلا لأنها تكمُّ الأفواه، و حين صار وضعها إلزامياً في الأماكن العامة و مراكز التسوق و دوائر الدولة و المواصلات العامة، لم يعد أمامي مهربٌ من وضعها فرضخت للأمر رغم معاناتي و تحملت أذاها الجسدي على بشرتي و عيوني و أنفي رغم أنفي، أحياناً أنسى وضعها في الباص أو الترام أو قطار الأنفاق فتذكرني زوجتي و تطلب مني وضعها، أو تفعل ذلك امرأة مسنة تركب الباص و تراقب كل الركاب كما حصل معي بالأمس، فقد رأتني فور صعودي الباص بدون الكمامة، و حالما جلستُ في مقعدي البعيد عنها بأكثر من متر و نصف إلتفتتْ ناحيتي و أشارت إلى كمامتها و قالت لي لا يجوز ركوب الباص بدون وضع الكمامة، أعرف أن هذه القاعدة تطبق على الكلاب من زمان، إذ لا يجوز اصطحابهم في وسائل النقل العام بدون الرسن و الكمامة، هل نربط رقابنا برسن خفي للمحافظة على مسافة الأمان بين إنسان و إنسان؟… 

   و لولا مسايرتي لمخاوف الناس و حرصي على الحد من إثارة الهلع و الذعر لخلعتها و سعلتُ و عطستُ بحرية و عفوية كما كان يفعل الجميع في الأمس القريب، لا كما يفعل جاري فلان الذي يتحسس من وضع الكمامة فتنتابه موجة سعال لا إرادية جعلته يشك في نفسه، فذهبَ بنفسه إلى المشفى و خضع لاختبار الفيروس عدة مرات، كانت النتيجة تشير دوماً إلى خلوّه منه، في الآخر زهق منه كادر المشفى فطردوه قبل أن يضطروا لحقنه بالفيروس إرضاءً لمخاوفه. 

  لاحظت أن معظم الناس تأنف من وضع الكمامة مثلي، مما خفف من مخاوفي و واساني كثيرا، أرى بعضهم يضعها تحت الفم على ذقنه، و منهم من يضعها على رقبته فحسب، و منهم من يضعها تحت أنفه و على الفم فقط، و منهم من يتحدى القوانين و الأخلاق و يرفض وضعها في مطلق الأحوال، أبتسمُ و أفرح لأنني وجدتُ من يشاركني مأساتي و يقاسمني معاناتي . 


   اليوم كنت مع زوجتي في السوق، صعدنا الترام مع متاعنا و كماماتنا و جلسنا قرب الباب، لم أضع الكمامة في الحال حال جلوسي على المقعد، نهرتني زوجتي و طالبتني بوضعها إسوة بباقي الركاب، ثم جلست بقربي امرأة مسنة تحتاط من الوباء بوضع الكمامة، خفتُ أن تنهرني هي الأخرى و تطلب مني وضع الكمامة كما فعلت سابقتها من قبل، كما خفتُ أيضاً من صعود المفتش للترام و تعرضي لمخالفة مالية بغنى عنها أنا بكل حرص، فاستسلمت للأمر و رضخت لمطالب الحكومة و الشعب، وضعتها تحت أنفي لتهيج و التهاب بشرتي فوق الشفة و حول الأنف، و بينما أذعنُ صاغراً للأمر، صعدتْ الترام بعد قليل شابة صغيرة العمر مع سيدة كبيرة تبدو أمها لوضوح الشبه بينهما، الصبية سحبتْ كلبها الصغير من رسنه بقوة و عنف إلى داخل الترام، كان يرفض الصعود بعناد ظاهر و تمرد عظيم لا نعلم سببه، فمعظم الكلاب تسبق أصحابها في صعود وسائل النقل العام و نزولها، إلا هذا الكلب الصغير العنيد، لكن حين صار في أرض الترام شاهدْنا الكمامة الضيقة مثبتة بإحكام حول خطمه الصغير، كان يحاول التخلص منها (الكمامة أو اللجام) بكل ما أوتي من قوة و حيلة لكن عبثاً و مضيعة للجهد، حينها عرفنا سبب تشبثه بمحطة وقوف الترام و رفضه القاطع للصعود، كل الركاب المحيطين بمكان وقوف الكلب تعاطفوا معه و أشفقوا عليه، حتى المرأة الكهلة التي جلست بقربي تعاطفت معه و طلبت من صاحبته النزول من الترام لتحرير الكلب و نزع لجامه، تراءى لي وقتئذٍ أننا أصبحنا مثل هذا الكلب المسكين، فرضتْ علينا السلطات وضع الكمامات بذريعة الاهتمام بصحتنا و لحمايتنا من مخاطر العدوى، لكن ما أراهُ يا سادة هو امتهان صارخ لقيمة الإنسان أنزلَهُ لمرتبة الحيوان، و سنصبح نحن محل السخرية و الدهشة و التندر في نظر عالم الحيوان. 

   فيا أولي الأمر إنْ لم نضع حداً سريعاً لهدر كرامتنا بزعم حمايتنا من مرض لا يعدو عن كونه انفلونزا شديدة فحسب، سنصبح نحن قريباً في الأقفاص، و تتسلى بالفرجة علينا الحيوانات .


جهاد الدين رمضان

                         فيينا في ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٠

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى