منبرُنا

حديد مَديد ..

 

هل كنتُ أبكي مجدداً ؟ هل كنت أبكيك يا أبي؟.. نعم، مرة أخرى أذرف دمعي على وسادتي، استيقظ و دموعي تبلل خدي، في المرة السابقة صبيحة ذكرى وفاة أبي الرابعة أيقظتني زوجتي على صوت نشيجي المرتفع، شاهدتْ الدموع على خديَ و بقعة مبللة على وسادتي، مسحتُ دموعي و نهضتُ، بينما هرعتْ زوجتي لتغيير وسادتي بعدما سألتني: اللهم اجعله خيراً، لماذا تبكي؟ قلت: اليوم ذكرى وفاة أبي، كنت أبكيه في المنام، رحمة الله عليه.

هذه المرة استيقظتُ من قيلولتي لوحدي على رطوبة دموعي تبلل خدي و مخدتي، استيقظت مذعوراً و فيلم المنام حول وفاة أبي و خصامي مع أخي ما يزال يمر أمام عيني، جرحني أخي قبل بضعة أسابيع بكلامه و تخاصمنا على أثر تلك المكالمة المشؤومة، لكن حبال الود و وشائج المحبة رفضت ذاك الخصام، مع ذلك صرخ جرحي النازف من أعماق قلبي: لا تصالح. تُرى هل كنتُ أذرف دمعي أم ينزف جرحي لا أعلم!
حلَّتْ ذكرى وفاة أبي و لم أكلم أخي، قالت لي عزة نفسي لا تصالح، قل له: حديد مَديد لا أصالح إلا يوم العيد!.

و ها قد حلَّ العيد فإذ بأخي يسبقني في الصلح و يعايدني على الواتس اب، صالحته و عايدته برسالة نصية على الواتس اب، لكن قلبي لم يرضَ هذه المصالحة الرسمية الدبلوماسية، كان يصرخ في أعماقي هيا كلمه على الهاتف، أسمعْهُ صوتك و أرِهِ وجهك، قل له سامحني و اقبل اعتذاري، عقدْتُ العزم على مبادرته بالحديث صوت و صورة / مكالمة فيديو لايف، لكن الوقت تأخر، و إرهاصات المنام منعتني من فعل ذلك فوراً، انتظرت صباح اليوم التالي، فتحتُ تلفوني الذكي – الغبي نسقته من زمن قريب – و أدرتُ الكاميرا و قلت لأخي: صباح الخير و كل عام و أنت بخير، سامحني يا أخي.

كم تمنيتُ أن أطرقَ بابه و أحتضنه و أعانقه و أقول له سامحني يا أخي كما رأيت في منام الأمس، صحيح أن هذا العصر الإلكتروني قد قرب المسافات و فتح الحدود و سهّل الاتصالات، لكن بهجة و فرحة اللقاء مع الأحبة وجهاً لوجه و يداً بيد تبقى أجمل من ألف صورة و كلمة على وسائل التواصل الاجتماعي، لقد حرمتنا الحرب من متعة لقاء الأحبة في الأعياد، ثم باعد بيننا وباء الكورونا الخبيث في هذا العيد، فمتى يقرع أحدهم بابي، يصافحني و يقول لي كل عام و أنتم بخير؟.


مشتاق لأهلي لأحبابي، مشتاق لغريب يقرع بابي في بلدي الغريب، مشتاق لبلدي الحبيب و خصومات الطفولة و الوعيد بقولنا : حديد مَديد ما بصالح ليوم العيد*… مشتاق لأطفال أقربائي يقرعون بابي صباح يوم العيد، يعايدوننا و أعايدهم ببضعة ليرات ترسم الفرحة على وجوههم و تدخل البهجة إلى قلوبهم و يقولون لي: كل عام و أنت بخير.

كنت أختلق خصاماً وهمياً مع أخي الآخر الذي دعوته “دشماني” كما كنا ننعت من نتخاصم معه أيام الطفولة البريئة، و ذلك لأدعوه لمصالحتي أو يدعوني هو للمصالحة على فنجان قهوة إكسبريس، ثم أهداني ماكينة قهوة إكسبريس عندما غادرت حلب لأظل أتصالح معه في غيابه، و بعد هجرنا الوطن رغم أنفنا، اكتشفنا معنى كلمة “دشمان” في اللغة التركية خلال لجوئنا القسري إلى تركيا، و رغم ذلك مازلنا نستعمل هذه الكلمة (دشماني)، لكن ليس بمعنى “العدو” كما في اللغة التركية، بل بمعنى الخصم الحبيب الذي يدعو الآخر لمصالحته بقبلة ودّ و كلمة مرحبا يا حبيب.

كنت أحياناً أتكاسل و أعتذر عن قبول دعوة أخي لتناول فنجان قهوة معه على قرب تجاورنا في حلب، فأقول له مازحاً : حديد مَديد ما بصالح ليوم العيد، يتصنّع أخي الجدّ و يقول لي: لكن اليوم عيد، إنه حقاً عيد! أتطلع في الروزمانة (التقويم) الورقية المعلقة على الجدار فلا أجد أي عيد بتاريخ اليوم، كل الأعياد انقضت حتى عيد الكذب في أول أبريل، أعود للحديث معه على الهاتف فأقول له جاداً: عن أي عيد تتحدث يا أخي؟ لقد تأكدت للتو من خلو اليوم من الأعياد. يضحك أخي و يجيب: لا، اليوم عيد لأنك ستزورني و تصالحني، فأضحك بدوري و أنفضُ الكسل عني و أحقق له أمنيته على السريع .

اليوم في ظل هذا التباعد و الحرمان الكئيب، و نحن في قفص الحجر و العزل الكبير بسبب وباء “كورونا” الخطير، أدركت كيف تتحول زيارتك لأحدهم إلى عيد حقيقي سعيد، أدركت معنى زيارة الجار لجاره القريب في يوم العيد، فهمتُ معنى جملة (كل عام و أنتم بخير) التي كنا نقولها في الأعياد كتقليد متوارث، أدركت معنى أن تكون بخير رغم الحرمان و الفقد و القهر، أن تكون بخير رغم الحرب و القصف و القتل، أن تكون بخير تعني أن تبتسم في وجه أخيك و روحك تتمزق، تصافحه و تصفح عما مضى، تعانقه و تطفي نيران القلب بقولك: كل عام و أنت بخير يا أخي.

ها أنذا أنتظر أحدهم يقرع بابي، أنتظر أن يُفتح باب قفص سجن كورونا الكبير لأطير إلى أهلي و خلاني و دشماني و أقول لهم: كل عام و أنتم بخير..
“الليل طال أحبابي
ولا قمر دق بابي..
هلال أصير.. ما تجون!
عيد أصير.. ما تجون!
تا شيصيرن حتى يا عيني تجون؟” **

آمل أن نستقبل العيد القادم بلا أحزان و خصام و جراح، نزور بعضنا البعض على أرضنا الخضراء بيسر و سهولة و حرية – بلا كمامات و بدون تباعد أو تنافر اجتماعي – و بسلام، نقرع الأبواب الموصدة، و نفتح القلوب المقفلة بابتسامة صادقة، قائلين من أعماق القلب: كل عام و أنتم بخير و حرية و كرامة في وطن سليم عزيز…


جهاد الدين رمضان
في فيينا ٢٥ أيار / مايو ٢٠٢٠

*جملة يرددها الصغار في بلدي عندما يتخاصمون، شطرها الأول لا معنى له سوى لضرورة السجع، و ربما للإيحاء بقوة الخصومة و طولها أيضاً .

**مقطع من أغنية المطرب العراقي الكبير سعدون الجابر بعنوان: ناطر عيوني بدربكم.

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى