بين يديْ انتصار فلسطين
إن المُتتبعُ لِـرُدود الأفعال الدولية؛ خصوصا الأمريكية؛ تُجاه العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وعلى القدس الشريف؛ وما حولَه من مقدسات إسلامية ومسيحية؛ سيلاحظ أن “إسرائيل” لم تعد بتلك الأهمية الكبيرة التي كانت عليها من قبْل بالنسبة للغرب.
وأن كثيراً من الشروط والعوامل والظروف التي دعت إلى دعم إقامة هذه الدولة (المزعومة) وتبنيها؛ والدفاع عنها؛ قد تبدَّدت ولم تعد موجودة. وبالتالي؛ وجب لجمُ هذا الكيان وإرغامِه على القبول بأي تسوية مع الفلسطينيين؛ ومع من يُحيط به من العرب.
خصوصا؛ وأن صورة (إسرائيل لا تُهزم) و(الجيش الإسرائيلي أقوى جيش في المنطقة)؛ وغيرِها من الصور النمطية والهالة الزائفة التي رسمَها الغرب لإسرائيل وسوَّقها للعرب ولكل المنطقة؛ لإخافتِهم وإخضاعِهم قد تلاشت وسقطت، وأصبحت دولة الاحتلال عارية؛ ليس فقط أمام الشعوب العربية؛ وإنما أمام رعاياها في الأراضي المحتلة وأمام العالَم كلِّه؛ ولعل الأنظمة العربية؛ هي وحدَها من مازال يهابُ إسرائيل ويطلب وُدَّها ورِضاها.
أضف إلى ذلك؛ السقوط الأخلاقي الكبير وغير المسبوق لإسرائيل وجيشها (الذي لا يُقهر)؛ الذي يستهدف المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ؛ ومبانيَ مدنية وحكومية، ومقارَّ إعلامية ومستشفيات؛ بعد عجزِه التام عن الرّد على المقاومة ندا للند.
فالغرب لم يعد يرى جدوى من ثني إيران عن المضي في برنامجِها النووي؛ لأن الهدف من محاصرة إيران؛ وقبلَها تدمير العراق؛ كان لأجل ضمان التفوق والهيمنة العسكرية لإسرائيل في المنطقة؛ أمَّا وقد عجزت إسرائيل عن مُجرد إخضاع مجموعة من المقاومين المحاصرين براً وجواً وبحراً منذ عقود؛ بل وانهزامِها أمامَهم شرَّ هزيمة رُغم التفاوت المبين في الإمكانيات العسكرية. فإن الغرب بات يشعر الآن أن كلبَه الذي وضعَهُ في الشرق الأوسط لحمايتِه؛ وإخافة العرب وابتزازِهم؛ صارَ هو نفسُه اليوم يحتاج إلى حماية؛ وقد بدأت كثير من الدول الداعمة لهذا الكيان تُفكر بشكل جدي في فك الارتباط به. وتركِه لمصيرِه المحتوم وهو الزوال؛ إن آجلا أم عاجلا.
كما أن حجم التندُّر والسخرية والانتقادات التي كالها الإعلام الأوروبي والأمريكي لنتنياهو ووزير دفاعِه ولآلة الحرب الإسرائلية الجبارة؛ كان لافتا وغير مسبوق أبدا. خصوصا بعد عجز (الجيش الذي لا يُقهر) عن خوض غمار اجتياح بريّ للقطاع وتدمير القدرات الصاروخية للمقاومة؛ واستهداف قادتِها السياسيين والميدانيين.
أشياءُ كثيرة أسقطتها المقاومة الفلسطينية الباسلة عن الكيان الإسرائيلي؛ فقد أسقطت أسطورة الجيش الذي لا يقهر؛ وأسقطت صفقة القرن؛ وأسقطت خيار التطبيع، وحتى خيار التفاوض العبثي قد سقط، لكن الأهم من هذا كله؛ هو تلميح أمريكا إلى إمكانية فتح حوار مع “المقاومة الفلسطينية”.
وهذا أمر غير مسبوق؛ بل وغير متوقَّع من دولة تعتبر إسرائيل ولايتها الـ51؛ وتستميت في الدفاع عنها في مجلس الأمن، ويقودُ مجلِسُ شيوخِها لوبٍ قوي من عُتاة الصهاينة في العالم. فخطوة كهذه انتكاسة؛ كبيرة لإسرائيل ولكل حلفائها والداعمين لها؛ الذين دأبوا على إدراج المقاومة الفلسطينية في قوائم الإرهاب؛ ولم يُفوِّتوا فرصة وإلا وأعلنوا أن لا تفاوض أو حوار مع المقاومة؛ (المجموعات الإرهابية المسلحة) كما يصفونها.
وها هم الآن يضطرون لذلك مُرغمين؛ بعد أن تبين لهم أن دولة الاحتلال دولة قائمة على الميز العنصري؛ وأن استبدادَها وعربدتَها وتغوُّلها في المنطقة؛ ورفضَها لكل التسويات التي طُرحت من الشرق والغرب ومن العرب والمسيحيين؛ واستمرارَها في التوسع والاستيطان؛ وضربَها عرض الحائط بكل القرارات الملزمة التي صدرت عن الأمم المتحدة، وهاهي اليوم تضع حلفاءَها في موقف مُخزٍ بقبولِهم لما كانوا يعتبرونها بالأمس القريب ضرباً من الوهم والأحلام.
لقد تم تشكيل وهندسة وإنشاء إسرائيل؛ لتكون خنجرا في خاصرة دول المنطقة الطامحة للصعود والتفوق؛ وتم بناء قدراتِها العسكرية الجبارة لتكون ندا للجيوش النظامية وليس للحركات والفصائل المسلحة. وأُنفِق في سبيل ذلك المليارات؛ وأُزهِقت الكثير من الأرواح؛ واستُهلِكت عقودٌ من الزمن؛ وهاهي إسرائيل اليوم عارية أمام العالم وأمام من أنشؤوها وراهنوا عليها.
تخرج علينا الصحافة الغربية والعبرية على وجه الخصوص بين الفينة والأخرى؛ بتفاصيل ما وقع قبل إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد؛ وهو أن الحكومة الإسرائيلية سعت جاهدة إلى حث أمريكا والاتحاد الأوروبي ومصر وقطر إلى ترتيب طريقة مُشرفة لإعلان وقف إطلاق النار؛ لا تبتدو فيه إسرائيل مُنهزمة، والأهم؛ ألا تبدوا فيه المقاومة منتصرة. وهذه الحقيقة (انتصار المقاومة) لم يكن ممكنا إخفاؤها بسبب التوقف الشبه الكامل لكل مظاهر الحياة الاقتصادية (المطارات – الموانئ – السكك الحديدية) في الأراضي المحتلة؛ واستمرار دَوِيِّ صفارات الإنذار؛ وهروب ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ ومكوتهم فيها لأيام متواصلة.
إن الدرس الذي يجب علينا جميعا نحن العرب أن نعيَه جيداً؛ هو أن القوة والأخذ بأسبابِها؛ هو ما يجعل العدو أولا؛ ومن ورائهم كل الدول الأخرى تحترمُنا وتُقيم لنا وزنا، وليس الركض وراء التطبيع والمحاباة والانبطاح وتوسُّل الود.
إن العالم (في الماضي والحاضر والمستقبل) لا يعترف إلا بالأقوياء؛ أو من يسعون للقوة؛ أو من يمتلكون أسباب القوة، أو من يمتلكون إرادَتهم ومصيرَهم، ومن يتشبثون بقضيتهم، والشعب الفلسطيني اليوم؛ بات يمتلك القوة وأسبابَها؛ وله كلُّ الحق في أن يفخر بذلك ويحتفل بـانـتـصــــاراتِـــــــــه.