منبرُنا

أبي الذي يَفحصُ أوراقَ السِّمسم

 

فتحت عيني على حب منقطع النظير بين الأرض وأهلها الطيبين من الفلاحين،  وشهدت منذ نعومة أظافري الصداقة الحميمية التي تجمع بين الفلاح و معشوقته الأرض التي لا تخجل في أن تتقاسم معه فرحها ساعة اليسر و تلقي عليه بأحزانها ساعة العسر، يحكي لها بكل ما أوتي من حب آماله وتطلعاته، لأنه المؤمن بأنها ستمنحه  بالقدر الذي أعطاها بل و أكثر … في هذا المشتل الخصب من الحب و الإيثار في علاقة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها علاقة وفاء و بذل و عطاء بين الطرفين، نشأت و ترعرعت…

 وأنا اقرأ رواية المغاربة للروائي المغربي عبد الكريم الجويطي، تذكرت هذه العلاقة القوية، أثارني حديثه عن جده الذي كان يشكل له فكرة عن الحياة والارض والكرامة والصبر كما يقول. 

يقول الجويطي إن جده لم يمت لأنه سقط من فوق حماره كما تقول الرواية المشهورة، ولكنه مات حسرة على أرضه المسلوبة بالغصب، مات حسرة على حقول الخس والطماطم والباذنجان  وأحواض النعناع التي تحولت إلى تجزئة سكنية. مات جد الجويطي لأنه لا يعرف لذة العيش إلا في أرضه متنقلا بين حقوله، مات لأنه عجز عن صنع حياة جديدة لنفسه. 

ذكرني هذا الفصل من الرواية بأحد أصدقاء والدي، الذي مات بعد مدة قصيرة جدا من بيعه لأرضه ارضاء لزوجته. حينها سألت والدي أكان مريضا؟. أجابني قائلا: مات ألما على أرضه. 

وأنا تلميذة في السنة الثانية من سلك الباكلوريا اكتشفنا مرض والدي بداء القلب اللعين، بعد أن سقط مغشيا عليه داخل الحمام المنزلي جعله يدخل المستشفى لمدة شهر وزيادة. بعد هذه الحادثة رأى إخوتي أن يرتاح أبي ما تبقى من حياته وأن توكل مهمة الأرض إلى أخي، كان أخي عاشقا للأرض منذ نعومة أظافره والذراع الأيمن لأبي وهو ما جعله يدير الأعمال بكل سهولة ويسر وكانت مردودية الأرض دائما جيدة بل يمكن أن نقول بأنه فاق أبي في تدبير الأمور.

رغم أن أبي توقف عن زراعة الأرض، إلا أنه لم يتوقف عن زيارتها بشكل يومي، كنت  أرافقه أولا خوفا عليه، وثانيا لأنني كنت عاشقة للدراجة الهوائية، فكان ذهابي معه فرصة لا تعوض من أجل ممارسة إحدى هواياتي المفضلة. 

كان منظر أبي وهو يقبل الأرض ويحمل حفنة من ترابها يقشعر له بدني، كنت أتساءل دوما عن سبب هذا الحب، كان يفحص أوراق السمسم بدقة عالية جدا، وسنبلات القمح وأحواض النعناع بعناية فائقة… كنت أستغرب لنباهته، فبمجرد أن يرى الثقب يتعرف على نوع الديدان وبالتالي الدواء. كان أبي يتحدث مع جيرانه الفلاحين حول المحاصيل، وعن مردودية الأراضي، فهذا يتدمر والآخر سعيد وهكذا، قبل أن نعود أدراجنا يتجه إلى أحد مجاري المياه يغسل يديه ووجهه ويشرب منها.   

نعود إلى بيتنا وقد انتعش أبي فرحا، ودبت الحياة داخله، ونسي مرضه، كنت دائما أتساءل:  أي حب هذا الذي يجمع أبي بأرضه؟.

الفلاح هو رجل روحه معلقة بأرضه، وهي عشقه الأبدي، هو ذلك الرجل الذي يمكن أن يشتري الدواء لمحصوله ولا يشتريه لابنه، ذلك الرجل الذي يأخذ ثوره إلى الطبيب البيطري ويداوي ابنه بالأعشاب إذا ارتفعت حرارته، إذا أردت أن تعذب فلاحا، أبعده عن أرضه.

 

سناء الهلالي

سناء الهلالي؛ أستاذة اللغة العربية للناطقين بغيرها، أستاذة باحثة بسلك الدكتوراه في اللسانيات التطبيقية وتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال، أستاذة باحثة ومشاركة في عدة مؤتمرات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى