متى سنزيل النقطة عن الــ (غ)؟
لا أظن أن مونديال قطر 2022 كان حدثا عاديا، بل إنه كل مختلفا جدا في كثير من المسائل، ليست رياضية بالدرجة الأولى، إنما كسرت قواعد وقوانين كان متعارفا عليها دوليا، فجاء هذا الحدث وغيّرها، أو على الأقل هزّ أركانها قبل أن تهزّ الكرة شباك الخصوم، وهزت الوعي العام العالمي في مسائل سياسية واجتماعية ودينية، بلغة أخرى كان مونديالا ثقافيا قبل أن يكون حدثا للرياضة الأكثر شعبية في العالم.
بطبعي، لا أحب كرة القدم، ونادرا ما تابعت مباراة بين فريقين، لكن هذا المونديال غير قناعاتي الرياضية، فصرت محبا للرياضة وشغوفا بها، لست وحدي في هذا، كثيرون مثلي، دفعتهم الظروف المحيطة بالمونديال لمتابعة الأخبار، ومشاهدة “الماتشات”، ليس من أجل المغرب وحدها، بل من أجل أن نتعرف على مجموعة الفرق المتأهلة في كل دور من الأدوار، لنكتشف أن خريطة العالم بدأت تتغير في كرة القدم، ولعلّ ذلك إيذانا بالتغيّر في حقول أخرى.
لقد خرجت فرق لم يكن لها أن تخرج بسهولة من التنافس، بكى لاعبون مشهورون ندما وحسرة؛ لأنهم قد خسروا، جماهير غفيرة انتابها الذهول فانكسرت شكيمتها وعنجهيتها التي بنتها لها الأنظمة الاستعمارية التي حاولت أن تضع قواعد لكل شيء، في الرياضة، وفي الأدب، وفي النقد الأدبي، وفي البحث العلمي، وفي الفلسفة، وفي الصناعة واللباس والإتيكيت، وفي قواعد الحكم الرشيد، فغدا كل شيء ذا بصمة غربية.
هذا المونديال ارتفع فيه منسوب الإحساس بأننا أمة واحدة، اجتمعت على هدف، ولو بدا بسيطا، وصار المنتخب المغربي منتخبا قوميا عربيا يحمل همّا قوميا بضرورة تجاوز الغرب وقواعده التي أطّر العالم فيها، ليلتفّ المشجعون حول فريقهم القومي، متجاوزين رغباتهم الشخصية في متابعة الأندية الغربية وتشجيعها، وبدا الكل عربيا، مغربياً.
لقد انعتقت الجماهير- ولو مؤقتاً- من قيود سايكس بيكو، وتفلتت من قيود الشرق الأوسط الجديد، ومن قيود خارطة الطريق، ومن قيود التطبيع، لقد خيبت تلك الجماهير تطلعات حكام الأنظمة العربية ومَن وراءهم من الأسياد في ترسيخ الشرذمة والتفكك والطائفية، ليندمج الكل العربي في مشاعر وحدوية واحدة، لقد جمعهم حلم كروي، ولم يحدث أن مرّ العرب بهذه الحالة من الاجتياح القومي العارم منذ فترة بعيدة.
وقد دفعهم المونديال لتتناسى الشعوب تلك المآزق التي وضعها فيها حكامها، فعلى سبيل المثال، لم يلتفت الفلسطينيون لتطبيع النظام المغربي، ولم يلتفت الجزائريون لما بين النظام المغربي والجزائري من سوء فهم، فانحازوا نحو المغرب وفريق المغرب ولاعبيه.
هذا المونديال حاصر السياسيين وقوقعهم وجعلهم يخنسون، أولئك الذين كانوا يراهنون على ضياع العمق العربي القومي للقضية الفلسطينية بفعل اتفاقيات أبراهام المشؤومة، لنراها وقد حضرت فلسطين عالميا، وليس عربيا فقط. لقد كسرت كل الأطواق المفروضة عليها لتكون حدثا موازيا للأحداث الكروية، ونجحت الظروف في محاصرة الإعلام المعادي وتقزيمه إلى أقصى حد ممكن.
ولذا فقد كان المونديال مفخخا بالسياسة كما كان مفخخا بالثقافية العربية الخاصة، فأعاد هذا المونديال التفكير بالخصوصية الثقافية، فتجرّع أصحاب العولمة كأس اليأس بعد أن وجدوا ما وجدوه من بُعد ثقافي يحكم الضيوف والمشجعين، ودفع كثيرين من المشجعين الغربيين إلى الاقتراب من الثقافة الإسلامية والمسلمين ومفردات الثقافة الإسلامية في دولة قطر، فلبسوا لباسهم، وأكلوا أكلهم، وشربوا من مشروباتهم، وأطالوا النظر فيما وراء هذه الحياة العربية في هذا الجزء “المحلوب” المستعمر من تلك الدول.
لقد نجح هذا المونديال في زعزعة النقطة عن الغين، ولو قليلا، ليبدو كل شيء أنه عربي لا غربي، فهل سننجح بإزالة النقطة عن ال (غ) في كل مناحي حياتنا نهائيا وإلى الأبد؟ أتمنى أن ينجح العرب في إعادة الاعتبار لذاتهم القومية ليستمر الإحساس بالنشوة إلى آفاق أبعد من الرياضة لنستطيع تغيير قواعد اللعب الدولية الغربية لتكون قواعد عربية، فقد أثبت المونديال أننا قادرون على صنع ما كان يبدو مستحيلاً، لقد كان المونديال خطوة نحو ذلك، فلا تجعلوا هذه الخطوة تذوب في الفراغ.