حاجتُنا إلى التأسيس التربويّ من جديد
أي مسابقة هي رهان على شيء مادّيّ أكثر ممّا هو فعليّ، والرهان نوع من أنواع الميسر، إذْ هناك ميسر إيجابيّ وميسر سلبيّ، ورغم أنّ المسابقات تأخذ صفة الإيجابية، إلّا أنها تبقى نوعا من أنواع الميسر.
أقول هذا، وأنا أتابع أخبار بعض المسابقات، التي تأخذ تسميات مختلفة، وتظهر عليها حالة الإيجابية في طرحها، لأنّ المؤسسة أو الهيئة التي طرحتها تبتغي منها غاية سليمة على سبيل التشجيع.
ولكن أمّتنا بحاجة إلى حوار جماعيّ، يؤدّي إلى فعل جماعيّ، وهذا الفعل ليس متكرّرًا وعلى نمط واحد، إذْ إنّ الحوار الصادق المخلص لا يمكن أن يكون ذا طابع واحد موحّد يلتصق على كلّ الأدمغة ولا يبرحها، بل هو ينتج رؤى متعدّدة تتقاطع في نقاط عامّة يكاد يجمع عليها مجتمع من المجتمعات، وهذه الرؤى تصبح يومًا بعد يوم التوجّه الاجتماعيّ الراقي للمجتمع الذي أنتجها. وهنا أؤكّد على أنّ المجتمع أنتجها ولم يتبنّاها تبنّيًا، إذْ إنّ الانحياز إلى الإيديولوجيات الجاهزة أمر أضرّ أضرارًا بالغة بالمجتمعات الإنسانية، وصار لا بدّ أن ينتج المجتمع رؤاه إنتاجا من ذاته ومن حوارات أبنائه، لينتقل من درجة إلى درجة أعلى منها.
أقول هذا، وأنا أرثي لحال القراءة والقرّاء في وطننا العربيّ الواسع، والمتعدّد المجتمعات والقوميّات والانتماءات الدينيّة.
لماذا نحن لا نقرأ؟
السبب في ذلك يعود إلى التأسيس التربويّ، فنحن مؤسّسون على الفعل الفرديّ، من استطاع بمفرده أن يكون قارئا يَفُزْ بهذه الصفة الحميدة، ومن لم يستطع، يلقَ الذمّ والقدح يصيبه من كلّ ناحية، والأمر ليس بسبب ذنب أذنبه، بل بسبب نوعيّة التربية التي تربّى عليها، وهذه هي حال أغلب أفراد مجتمعاتنا العربيّة.
علّمونا في المدارس والمعاهد والجامعات كيف نسطو على الدرجات التي تؤهّلنا للحصول على الشهادة، وتدوين أسمائنا على ورقتها، لنحصل على عمل ومرتبة في العمل لا غير، أو لنظهر أننا قد حصلنا على شهادة تعليمية علمية تبعد عنّا الانتقادات بالجهل أو بالتخلّف. رغم أنّ هذه الشهادة لا تلغي شيئا من جهلنا إلّا اليسير.
نحن بحاجة إلى مواطن عربي يبحث عن المعرفة، ويبذل الجهد الشاقّ في سبيل الحصول عليها، بما يقدّمه من وقته وماله وتفكيره. وهذا لا يأتي إلّا بالتربية المنهجية السليمة، والتربية لا يمكن التأسيس لها إلّا من خلال وجود تربويين كُثُر، ويكون هؤلاء التربويّون مخلصين لمهمّتهم ولمهنتهم الراقية.
والتربية منهاج عمل، وليست أفكارًا نظرية وحسب، التربية سلوك يقدّمه التربويّ لأكبر عدد يمكن أن يصل إليهم، ويكون وصوله إليهم ليس عشوائيًّا، بل وفق أسس ومعايير تثبّت الثقة المتبادلة بين طرفَي التربية.
ولكن، كيف يمكننا أن ننشّط القراءة عند مواطنين يبحثون عن رغيف الخبز، ولا يجدون ثمنه في جيوبهم، أو هم مشغولون بالبحث عن الدفء في الشتاء وعن الراحة من الحرّ في الصيف؟
هذه الهموم اليوميّة لا مهربَ منها، ولا مناص. ولكن بالتدريب على تحويل أذهاننا إلى أذهان علميّة معرفيّة واقعيّة، نستطيع أن نتخلّص تدريجيًّا من هذه الظواهر أو المظاهر، وهذا يتطلّب وقتًا طويلًا، لا يصبر عليه جاهل، بل يصبر عليه الشخص الواعي الذي يعي التحوّل الإيجابيّ التدريجيّ الذي يلاحظه في مجتمعه.
ومن هنا ننطلق، ومن هنا تكون الركائز السليمة، التي ترتقي بنا وترفعنا في سلّم المكانة الاجتماعيّة بين مجتمعات العالم، وفي الراحة النفسيّة التي تعيننا على التطوّر أكثر.
هذا الإنسان التربويّ علينا أن نصنعه صناعة، مهما كلّفنا الأمر، وأن نغدق بالعطاء المادّيّ على من يهبون أنفسهم لأدوار تربويّة، وأن نمنحهم الثقة التي تليق بهم، ليمضوا في مهمّاتهم العظيمة.
هذا الرأي ليس موجّهًا للحكومات العربيّة، التي يئسنا من خططها الشكليّة في أحسن الأحوال، والتي لا تصل إلى مستوى إرادة التغيير الحقيقي والإيجابي للمجتمع الذي تحكمه. ولذلك صار لزامًا علينا – نحن المجتمعات – أن نبني سياساتنا بما لا يتعارض من السياسات الحكومية من جهة، وبما يحقّق النهوض الذي بات ضروريًّا لبناء مجتمعاتنا من جديد، بعد أن فقدنا كثيرًا من مقوّمات المجتمع المتوازن وصفاته.