القيم الأدبية في القصيدة الرملية للأديب محمد بن حنبل الحسني الشنقيطي المتوفى سنة 1302هـ
هذه سطور موجزة تروم لفت النظر إلى قصيدة خالدة الذكر من عيون الأشعار السائرة في صحراء البلاد الشنقيطية، نالت حظوتها عند أهل الأدب في تلك الديار، بما تضمنته من حكمة ودعوة مؤثرة للزوم سبيل العلم والتعلم، مهما تجشم السائر في طريقه من عناء الصبر على شظف العيش، وخمول الذكر في دنيا المناصب والمكاسب.
هذه القصيدة هي المسماة بمطلعها “أضرم الهم”، أو ببحرها “القصيدة الرملية”؛ للأديب اللغوي محمد بن حنبل الحسني الشنقيطي المتوفى 1302هـ، وهو الرجل الذي اشتهر بين معاصريه بحب اللغة العربية، والتبتل في محراب درسها وتدريسها، والانقطاع إليها عن دنيا الناس وشؤون الحياة.
قال عنه صاحب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط: “كان محمد هذا من العلماء الأعلام، واشتهر في اللغة في ذلك القطر حتى قيل بتقدمه على معاصريه فيها، وكان نحويا، وله اليد الطولى في البيان”[1]
والقارئ العارف بفنون القول العربي، المميز لضروب أساليبه البلاغية، سيجد نفسه في وفاق مع هذه الترجمة إذا قرأ تلك القصيدة ولمح في تقاسيمها ميسم الفصاحة، ورونق البلاغة، ولأجل ذلك كان لقصيدته عند العاكفين على درس اللغة والأدب في القطر الشنقيطي مكانا ومكانة في الذاكرة والوجدان، تتجلى في عدد الرسائل المخطوطة والمطبوعة التي كتبها علماء تلك الديار في شرح هذه القصيدة، ونثر ما انتظم في عقدها الفريد؛ من لغة وبيان[2].
يبلغ عدد أبيات هذه القصيدة 74 بيتا من بحر الرمل، ولأجل ما نحن بصدده من عرض وتحليل القيم الأدبية فيها، سنقوم بتشريحها وتوزيعها إلى ثلاثة أجزاء أساسية، وبمستوى من التجوز نسمي كل جزء باسم مستوحى من محتواه، فيكون الأول منها: حنين للديار، والثاني: حداء للغرباء، والثالث: الزفرة الأخيرة.
أولا حنين للديار:
هذا هو مطلع القصيدة وما يليه إلى البيت الثالث والثلاثين، وفيه يرتفع إيقاع الشوق للأرض، ونداء الحنين إلى الديار، وذكر معالم ومواضع، ووصف الماء المنهمر عليها من السماء، ثم تشبيب وغزل، وفخر ممهد للغرض الأساسي، كما هي عادة الشعراء الأقدمين.
وأول ما يتلقى السامع من هذا المقطع مطلعه الجزل:
أضرم الهمَّ سحيرا فالتهبْ .. لمعُ برْقٍ برُبيّات الذهب
ففيه الفعل(الحدث):أضرم، وفاعله: لمعُ برق، والمفعول الذي وقع عليه الفعل: الهمّ، وزمان ومكان الفعل بالترتيب: سحيرا، وربيات الذهب (تعريب لاسم موضع) …
وفي هذا من إيجاز القول البليغ، وفخامة الاستهلال ما فيه.
ثم يتبع ذلك وصف بديع لانهمار المطر، يستغرق في تسجيل تفاصيل الجمال والروعة، وانفعال نفس الشاعر بها، لعل من أحسن ما فيه قوله:
فكأنّ المزنَ تَبكي مُلحَداً .. في رُبا “العُقل” بدمعٍ منسكب
تذر السّرحَ صريعا للقَفا .. خاشعَ الأروَاق مرفوعَ الطُّنُب
وتهدُّ التلّ من أعـرافه.. بأخاديد تُمَلِّـيـكَ رُعُـب
إلى أن يقول:
والحمام الوُرق تشدو بالضحى .. فتذوب النفس شوقا وطرب
ثم يثني بمقطع قصير من النسيب، إليك منه هذه الصورة الحسنة التي تقطر سلاسة ورقة:
ربّ بيضاء خلوب لحظُها .. ما لها في العُجم شبه والعرب
يُقبل الشوق إذا ما أقبلت .. يُدبر الصبر إذا ما تنقلب
زرت والظلماء مُرخىً سترُها .. غيبةَ الواشي وفقدَ المرتقِب
وبألفاظ من معجم لغة العرب الجزل، لم تؤثر غرابتها اللغوية على سلاستها الشعرية، يفتخر الشاعر بفصاحته، وتمكنه من ناصية اللغة، في مقطع جاء تمهيدا للغرض الأساسي:
وقريض بتُّ أبني فغدا .. مثل نظم الغيد تِقصارَ الذهب
آخذاً من لحن أقحاح اللُّغَا .. مضَّغ القيصوم والشِّيحِ النُّخَب
ما تعاطى اللُّسن في أندائهم .. وتعاطوه بأفواه القلُب
وأداروه عصورا بينهم .. لابتناء الفخر أيام الغلَب
وهنا ينتهي هذا الجزء، لتأخذ القصيدة منحى آخر مغايرا؛ ينتقل فيه الخطاب من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب، وتستبدل اللغة المعجمية الغريبة بأخرى سهلة واضحة، لا تكاد تستدعي الرجوع للمعاجم إلا قليلا، وهو الجزء الثاني من أجزاء القصيدة الثلاثة، بحسب الترتيبت الآنف الذكر.
ثانيا: حداء للغرباء
هذا الجزء من القصيدة هو بيت القصيد فيها وواسطة العقد منها، وبعض الناس يكتفي به، كما فعلت بعض كتب المحفوظات المدرسية الموريتانية، وتدور القصيدة فيه حول قضية واحدة مركزية: الحض على طلب العلم والصبرِ على متاعب تحصيله، والدعوة إلى الضرب صفحا عن الدنيا ومغانمها العاجلة الزائلة؛ طمعا في نيل شرف العلم الآجل الدائم الذي لا يزول.
ثم بيان متانة الارتباط بين العلم وقيم العلم؛ تواضعا وتقوى واستحضارا للمصير الأخروي، وزهدا في الدنيا وتهكما باختلال ميزانها الذي يقدم الجاهل الغني على العالم الفقير.
يحشد الشاعر هنا كل طاقته الأسلوبية وقدراته الحجاجية، في تفنيد اعتقاد من يرى المال والجاه الدنيوي أكبر قيمة من زاد العلم وفضيلة التقوى، ويحس قارئ القصيدة العارف هنا بحرقة الصدق الذي كتبت به حروف هذا المقطع؛ إذ ترددت فيه كثيرا مفردات وأساليب النداء، والندب والإغراء؛ وتوالت أفعال الأمر مقترنة بضمير المفرد أو الجمع مرات وكرات:
ويمكن – بمستوى من الاختزال – حصر القيم التي يدور حولها هذا الجزء الأهم من القصيدة في ثلاث؛ أولها: العلم وقيم العلم لا ينفصلان، وثانيها: فقر العالم شرف وغنى الجاهل ترف، وثالثها: الدعوة للصبر على المتاعب في سبيل اكتساب العلم
- العلم وقيم العلم لا ينفصلان
تستغرق هذه القيمة الأولى 11 بيتا؛ من البيت 34 إلى البيت 45 من القصيدة، ويستهلها الشاعر بالدعوة إلى استصحاب فضيلة التقوى في مسيرة طلب العلم:
إن خير الزاد يا صاح التقى .. فبه المجدَ التمس لا بالنسب
هو دون العلم عنقا مُغرِبٍ .. فاطلبه فلنعم المُطّـلبْ
جرع النفس على تحصيله .. مضضَ المُرّيْنِ: ذلٍّ وسَغَب
إلى أن يقول، نافيا أي صلة للجاهل المتكبر بسمت العلم وأهله:
صاح لا تلف بجهل راضيا .. فذوو الجهل كأمثال الخشب
ودع الكِبر فما نال الأرب .. طالب العلم إليه ينتسب
وأخيرا يقرر بصيغة الحصر، أن خير ما يقتنى علم نافع لا مال ومتاع، وأن الوصل وصل مسائل العلم الأبكار؛ لا وصل الغيد:
إنما الـقُنيَـةُ علمٌ نـافـعٌ .. لا العتاق الجُرد والخُورُ الصُّهُب
واصرف الشوق إليه والهوى .. إن سوَاك اشتاقَ تَبسامَ العُرُبْ
- فقر العالم شرف وغنى الجاهل ترف
هنا يأتي الشاعر على واحدة من أشهر القضايا التي تناولها الحكماء والأدباء من قبل، ألا وهي: العلم والمال، والتدافع القائم بين قوة الجاهل وسلطانه على رقاب الناس، ومكانة العالم وسلطانه على قلوبهم وأرواحهم، ويصوغ ذلك في نداء وجداني، يرثي لواقع الأمرالذي يسود فيه الجهال ويهمش العلماء:
لا يزهدك أخي في العلم أن .. غمرَ الجهالُ أربابَ الأدب
زبدُ البحر تراه رابيــاً .. واللّآلي الغرُّ في القعرِ رسُبْ
ثم يزيد الأمر تأكيدا باستحضار مثال رمزي مستعار من عالم الغاب، يعرفه الناس جميعا:
إن تر العالم نِضوا مرملا .. صِفرَ كَفٍّ لم يُساعده سبب
وترى الجاهل قد حازَ الغنى .. مُحرِزَ المأمولِ من كلِّ أرَب
قد تجوعُ الأُسْدُ في آجَـامِها .. والذئابُ الغُـبْـسُ تَعْتامُ الْقتَب
ثم يسلّي من أدرك العلم وفاتته الدنيا، بتهوين شأن ما فاته منها، وتعظيم ما فاز به من علم ومعرفة:
رأت الدنيا خبيثاً مثلَـها .. لم تمالك أن أتته تنسلِب
ورأتْ ذا العلم فوّاحَ الشَّذا .. آبيَ الذَّام، فآلتْ تصطحِب
فغنى ذي الجهل فاعلم فتنةٌ .. وافتقارُ الحَبرِ تأسيسُ الرُّتَب
وقد استغرقت هذه القيمة عشر أبيات من القصيدة، من البيت 46 إلى البيت 56، جاءت كلها للتأكيد على تقديم شأن العلم والعلماء على شأن ذوي المال والمناصب، ثم عزز ذلك بدعوة المشتغلين بالعلم إلى مزيد من الصبر والانقطاع لما هم فيه، وهو ما تناوله المقطع التالي.
- الدعوة للصبر على المتاعب في سبيل اكتساب العلم
يستهل الشاعر هذا المقطع بنداء لطالب العلم وهو يكابد أهوال غربته، يقول فيه:
يا غريباً يَطلب العلم اصطبر .. إن مبدا العلمِ من قبلُ غُرُب
ثم يلفت النظر إلى أن السعي في طلب العلم لا يضاهيه سعي، مما يسعى فيه الناس ويجهدون له من ربح ومتاع؛ مرغبا بالأجر ونعيم الآخرة، المبشر بزوال كل عناء ومشقة:
ما سعى في الربح ساع سعيَكم .. بل سواكم سعيُه جِدُّ نصَب
فكأني بــذوي العلم غـــــداً .. في نعيم وحبور وطـرب
يحمدون الله أن عنهم جــلَا .. كلَّ حُزن وعناء وتعـب
ويضيف على ذلك نداء للمبادرة والمسارعة في طلب العلم، قبل فوات الأوان، وضياع الفرصة أيام الإمكان، مفندا دعوى من يعتذر عن تحمل مشقة تحصيل العلم بعوائق الظروف المتقلبة والأيام الدوارة بالشدة والرخاء، والعسر واليسر:
بادروا العلم بداراً قبل أن .. يبغتَ الحَيْن بهول وشغب
فهو حليُ المرئ في أقرانه .. وهو عند الموت زحزاح الكرب
وهو نور المرء في اللحد وإذ .. ينسل الأقوام من كل حدَب
إن تقولوا منعتنا درسه .. أُزُم الدهر والاعوام الشُّهُب
قلت هل يحتال في دفع العصا .. من أظلّتهُ الحساماتُ القضُب؟!
وهنا تلتقط القصيدة أنفاسها، لتصدر زفرتها الأخيرة، التي حملت فيها للقارئ خلاصة الهم الذي اضطرم في مطلعها، وجاشت به الصدور وناءت به الأعجاز منها، هذه “الزفرة الأخيرة” جاءت في سبعة أبيات، تعرض لها السطور التالية.
ثالثا: الزفرة الأخيرة
هذه خاتمة القصيدة، وتكاد تكون أحسن ما فيها سلاسة وقوة، وفيها يحمل الشاعر على الزمان الذي يضيع فيه صوت العقل والحكمة، في زحام الأهواء والفتن.
يبدأ هذا الجزء الأخير من القصيدة من البيت 68 إلى ختام أبياتها البالغة الأربعة والسبعين.
ويبدأه الشاعر بلفت النظر إلى ما تقتضيه الحكمة من التعامل مع النصيحة بموضوعية، فالحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها، ولا يبالي بعد ذلك – ما دامت حكمة – من أي إناء خرجت له:
فخذ النصح ولا تعبأ بمن .. بذَل النصح وطاوعه تصب
على أن الشعور المر يغلب الشاعر على نفسه حين يرى ويشهد ضياع الحكمة حين تجلب لسوق من لا يقيمها مقامها اللائق:
أضيع الأشياء حكم بالغ .. بين صم ونداء لم يجب
فلا يملك – والحال هذه – إلا أن ينطق ويصرح بأن هذا كله لم يكن سوى قليل من كثير، وغيض من فيض، وما منعه أن يزيد إلا ما يرى من تبدل الحال، وكساد سوق الشعر، وذهاب الناس الذين يحسنون القول والفهم:
ولو اَرسلت عِـناني في مدى .. ما بدا لي من أساليبِ العرب
ومن الحثِّ لأرباب النهى .. لقريْتُ الأذن منها بالعجب
لكن الشعر انقضت أيامه .. لا ترى اليوم إليه منتدب
غيرَ راو خافضٍ مرفوعَه .. رافعٍ مخفوضَهُ أو ما انتصَب
ونَزوحِ الفهمِ عن ميزانِه .. ليس يدري كاملاً من مُقتضَب
[1] أحمد الأمين العلوي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ص311
[2] نذكر منهم: أحمد سالم بن مقام الحسني الذي نشر له مكتب الشنقيطي للخدمات العلمية والبحثية بمكة المكرمة عام 1435هـ، تحقيقا جيدا لنص القصيدة، وهو منشور على الشبكة.