الأدب المصري .. ما حدث في العقد الأخير
رغم انتقال “معرض القاهرة الدولي للكتاب” في يوبيله الذهبي إلى “مركز مصر للمَعَارض الدولية” بدايةَ العام، واكتسابه مِن ثَمّ فعّالية لوجستية مع ترتيب ونظامٍ طالما كان يَفتقر إليهما في السابق، لم تختلف 2019 عن 2018 في شيء.
أزمة الطباعة المترتّبة على تعويم الجنيه قبل عامين لا تزال، وكذلك العائق الرئيسي في وجه تدشين النمط الاستهلاكي لتداوُل المواد المقروءة: انعدام موارد شراء الكتب لدى القطاع الأوسع من المتعلّمين، الرازحين ليس تحت الضغوط السياسية وحدها ولكن كذلك تحت ضغوط ثقافية واجتماعية من شأنها أن تُضيّق مجال القراءة على كلّ حال،
وتَحدّ من تأثيرها على فِكر “الناس العاديين” أو دخولها في لُحمة الحياة المعاشة. في المقابل، استمر رواج الروايات الشبيهة بمسلسلات التلفزيون الأردأ، والتباس الحضور الإعلامي لمشاهير بمُنجَزهم الأدبي، واقتصار الحراك الجاد على ”فيسبوك“ وما يُفرزه من تحزّبات ومعارك صغيرة ولغط مُشَخْصَن.
فرغم النجاح البادي لبَعض العناوين الجادّة، ظلّ للأسماءِ التلفزيونيّة نَصيبُ الأسد من المَبيعات والضوْضاء.. ليس ثمة جديدٌ يُقال ما لم تُراجَع كُتُب بعينها، لكنْ لعلّ حلول 2020 مناسبة مواتية لإلقاء نظرة على صورة الأدب سنة 2010.
لم يعد واضحاً إلى أي قارب نجاة على القراءة أن تتجه
ذات لحظة ما في منتصف العقد المنصرم – بين 2000 و2010 – بدا أن ثمّة نجاحاً حقيقياً تُسفر عنه جهود تسليع الأدب بافتتاح المكتبات الأقرب إلى المقاهي والمحافل الثقافية المستقلة وانتشار حفلات التوقيع حيث يتداخل بل ويتصادم أساطين أتُلييه القاهرة من غير ذوي الموارد مع رواد الكافيهات برجوازيّي الأداء.
دَعَم هذا الحراك تبني “دار الشروق” أكبر دار نشر خاصّة لأوّل مرّة في تاريخها الأدبَ المعاصر – وهو ما ستتبعها فيه دور أخرى – ثم التفاف ناشرين وكتاب صاعدين حول فرص لعلّها غير مسبوقة فعلاً في الترجمة إلى الإنكليزية والفوز بجوائز أدبية كان أكثرها جاذبية ”البوكر العربية“ إثر تأسّسها سنة 2008.
فهي وإن كانت أموالها خليجية تظلّ ممهورة بخَتم إحدى أعرق مؤسسات إنكلترا، وهي تُقدّم فضلاً عن مبالغَ مغريةٍ وعداً بالحِياد والانضباط والانحياز للجودة بلا مُحاصصات جغرافية أو شللية أو سواهما من تجلّيات فشل المؤسسات الثقافية العربية المعهود (ما سوف ينقضه أداؤها في نظر الكثيرين..)
كل هذا بالتزامن وربما في انسجام مع مُضيّ الدولة قُدُماً في تطبيق النيوليبرالية بما يطرحه ذلك من هوامش (ضيقة) للحريات سرعان ما اصطدمتْ بتطلّعات جيل جديد من خريجي “فيسبوك” لا يُنادي بالديمقراطية الغربية فقط، ولكن يُبدي استعداداً للتعاون مع الإسلام السياسي المُسيطر اقتصادياً إن لم يكن فِكرياً على قطاعات واسعة.
هكذا، ومع البريق الخُلَّب لربيع ما كاد يُزهِر حتى أجهضه – من قِبْلِ حتى المذابح والمظالم – الخواء السياسي والفكري المُفزِع لطلائعه، سقط النظام بينما تُلقى القصائد غير العَروضية على مسرح “ساقية الصاوي”!
لقد تَمَثّل النجاح ما قبل 2011 في الظهور التدريجي لقنوات سائلة تحفِرها الكتابة الجديدة المثيرة أدبياً وسط الكُتل الصمّاء، هكذا بدا الأمر وإن كان هو الآخر إيهاماً. فالمكتبات “الشيك” – كانت أولاها “ديوان” الزمالك – تبيع “البست سيلرز” والكتب الإنكليزية جنباً إلى جنبِ دفاترِ القِرطاسية ذات الأغلفة المنمّقة،
هذا صحيح. لكنها أيضاً تقيم لقاءات لروائيي الألفية الثانية المتمرّدين على لغة نجيب محفوظ وواقعية جيل الستينيات. وهي بذلك، أو هكذا بدا، تهيّئ المجال لاختراقات أدبية ذات جدوى وتشجّع أصحاب المشاريع الواعدة على خوض السباق التجاري سواء من خلال المبيعات أو – وهو الأرجح في مثل تلك المرحلة المبكرة – عبر الفوز بجائزة أو الالتحاق بـ”تريند”..
إلا أنّ التسليع كان يفعل ما يفعله دائماً، وهو أنْ يَقصِر المجال من الناحيتين على اسم أو اثنين لا يُسمع عن سواهما أبداً مع أنهما – دعنا نقول – ليسا الأفضل، وأعمالهما تساهم في تكريس الجُرف الفاصل بين حياة الناس وروعة الأدب لا العكس. الأنكى أن يكونا أيضاً من أدعياء النضال الجاهزين لاستلام الحصاد الثوري والساخطين ليس على فشل الثورة في ذاته ولكن على قلة الاحتفال بهم!
في أعقاب سقوط مبارك، سينصرف أرباب القراءة عن الإبداع الأدبي إلى حدّ قول أحدهم إنّ لا معنى لأي كتابة لا تخرج من المظاهرة وتتكلّم عن مسارها. ستحصل أكثر من رِدّة إلى أذواق وطرائق ما قبل التسعينيات من الكتابات الدعائية والتسييس الفجّ للكلام.
لكنْ – وهذا الأخطر – سيتحوّل “فيسبوك” إلى المقرّ المركزي لمحاكم التفتيش “الثورية” في النوايا الأيديولوجية للكتاب ومن ثَم الحُكم المسبق على ما يُنتِجونه من أعمال بصرف النظر ليس فقط عن تماسكها في ذاتها ولكن حتى عن موضوعها. فيتم تصعيد من يردّد شعاراتنا إن لم يُذمّ مَن لا يفعل،
ويعاد تشكيل الشلل مع وضع التصريحات السياسية دعماً أو إدانةً في الاعتبار، بل وتُفرض حزمة جديدة من المحاذير تنضم إلى المحاذير التجارية المنبطحة تلقائياً لتابوهات مجتمع مغلق والمحاذير السياسية المفروضة على ما يَصلح للنشر أو ما يمكن أن يُدرّ ربحاً.
لم يَعدمِ العقد الماضي أدباً عميقاً ذا جدوى بالعربية. وقد صدرتْ أعمال تعالج تجربة الربيع العربي بنُضج فعلاً خلال عشر سنوات، وأخرى ليست ذات صلة ولكنها تسبر أغوار الواقع بما يكشف السرَّ الإنساني وراء العثرة السياسية، أو تُواصِل ما بُدئ قبل اندلاع الاحتجاجات حين لم يكن يُنظَر إلى النِضال في الأدب باعتباره أمراً إيجابياً.
ظلّتِ الرواية في صدارة الأنواع الأدبية اسماً إن لم يكن واقِعا، وهي الشكل الأدبي الوحيد القابل للتسليع سواء من خلال المبيعات أو الجوائز. لكن، وإن بقي الشعر حبيس الإنترنت وابتعد أكثر فأكثر عن عامة القراء لعزوف الناشرين عنه، عادت القصة القصيرة والمقالة الأدبية نوعاً ما إلى الظهور.
ومع ذلك لا شك أن العقد الماضي أدباً عميقاً ذا جدوى بالعربية، وقد صدرتْ أعمال تعالج تجربة الربيع العربي بنُضج وحرفية بالفعل. إلا أن مساحات القراءة لا تزال آخذة في الانحسار. وبعد فشل ثقافة الدولة ومشاريع التسليع كليهما في التصدي للكارثة الحضارية المتمثلة في ذلك، لم يعد واضحاً إلى أي قارب نجاة على القراءة أن تتجه.