الدراسات الثقافيةترجمة

الترجمة إلى العربية: حين أدرك العرب أن العِلم وحدَهُ المدخل إلى حياة الحضارة

بسقوط الخلافة الأموية وقيام تلك العباسية، راحت الدولة الإسلامية تدخل طورا جديدا في تاريخها، يختلف في ملامحه السياسية والاجتماعية والثقافية عن المألوف من قبل… ومن بين ذلك، اهتمامها بالعلم ونقل العلوم إلى اللغة العربية.


لم يخترع العربُ العلومَ كما لم يختموها، بيد أن للتاريخ حديث مطول بشأن بصمتهم عليها.

صحيح أن الحضارات التي كانت تحيط بهم في البدء، كانت تعيّرهم بـ”البداوة” التي كانت تسم حياتهم، لكن إذ توافرت لهم ونضجت شروط لحاقهم بركب العلم، كانوا حلقة مهمة تاريخيا في الحفاظ على التراث العلمي وتطويره ونقله إلى حضارات أخرى على مدى قرون عديدة…

أول ذلك بدأ بالترجمة والنقل إلى اللغة العربية، على نحو مثير شكّل حركة بارزة في العصر العباسي… وذاك هو موضوع ملفنا هذا.

البحث عن نقطة بدء في تاريخ الترجمة عربيا يقودنا إلى العصر الأموي، حيث سيطالعنا رجل اسمه خالد بن يزيد (توفي 704م).

يقول عنه الجاحظ في “البيان والتبيين”: “كان خطيبا شاعرا وفصيحا جامعا، جيد الرؤى، كثير الأدب وكان أول من ترجم الطب والنجوم والكيمياء…”.

في البداية، تتلمذ خالد في مجالي الكيمياء والطب على يد راهب رومي يدعى “مريانس الراهب”، ثم صرف بقية حياته نحو ترجمة الكتب.

اعتمد في ذلك على علماء يونانيين كانوا يقطنون مصر، خاصة منهم أولئك الذين أتقنوا اللغة العربية بعدما احتكوا بالعرب هناك.

كان خالد حفيدَ معاوية بن أبي سفيان. لكن، بلغ به حب العلم حد ترفعه عن الخلافة. حين سئل عن ذلك، قال إنه لا حاجة له بالخلافة ليرى من يريد التقرب منه استئثارا بمنفعة شخصية، أو من هو مجبر على طاعته والخضوع له.

حاصل ذلك أنه لقب بـ”حكيم آل مروان”.

لو قدر للدولة الأموية أن تستمر في الحكم الذي حكمته الدولة العباسية، لظهرت على يديها حركة الترجمة تلك… وذاك ما فعله الأمويون على عهدهم في الأندلس المعاصر للعباسيين في المشرق.

لكن نشاط خالد بن يزيد في الترجمة لم يكن، في آخر المطاف، سوى محاولة فردية، في ظل دولة لم تكن تعير اهتماما سوى لفن العمارة والتوسع في “الفتوحات”.

يجدر الذكر هنا أيضا أن ابن القفطي يورد رواية يقول فيها إن طبيبا يهوديا يدعى “ماسرجيس”، تولى ترجمة كتاب أهرن القس (طبيب اسكندراني) في الطب، للخليفة عمر بن عبد العزيز.

المفكر المصري أحمد أمين في كتابه “ضحى الإسلام”، يؤكد عناية الدولة الأموية بالطب لأنهم كانوا في حاجة مادية إليه، ولأنه أبعد العلوم الأجنبية تأثيرا في الدين. لذلك لم يتحرج عمر من إجازة الترجمة فيه.

مع ذلك، يرى أستاذ التاريخ الإسلامي في كلية العلوم بالقاهرة، عبد الرحمن أحمد سالم1، أنه لا توجد إشارات في المصادر إلى أن الأمويين بذلوا جهدا ملموسا منظما في مجال الترجمة إلى اللغة العربية.

تتفق فكرة أحمد أمين مع ذلك، لكنه يصر على أن نواة التأليف والترجمة، بدأت في العصر الأموي.

الدولة الأموية، بحسبه دائما، لو قدر لها أن تستمر في الحكم الذي حكمته الدولة العباسية، لظهرت على يديها حركة الترجمة تلك… وذاك ما فعله الأمويون على عهدهم في الأندلس المعاصر للعباسيين في المشرق.

كان الفن المعماري السمة المميزة للحضارة العربية الإسلامية في العصر الأموي، وهو ما دفع العباسيين إلى شد انتباه العالم عن ذلك، وجعله بالمقابل يلتفت إلى إنجاز علمي حقيقي.

أيا يكن، فأحمد سالم يجد للأمويين عذرا حين يقول إن الظروف التاريخية آنذاك، جعلتهم ينشغلون بتوطيد قواعد الدولة الناشئة وصد المتربصين بها، في محاولة لوضع أسس تسير عليها الدولة الإسلامية.

لكن، بسقوط الخلافة الأموية وقيام تلك العباسية، راحت الدولة الإسلامية تدخل طورا جديدا في تاريخها، يختلف في ملامحه السياسية والاجتماعية والثقافية عن المألوف قبل ذلك.

يرى أستاذ التاريخ بجامعة القدس، جلال حسني سلامة، في كتابه “الترجمة في العصر العباسي”، أن الفن المعماري، إذ كان السمة المميزة للحضارة العربية الإسلامية في العصر الأموي، دفع العباسيين إلى شد انتباه العالم عن ذلك، وجعله بالمقابل يلتفت إلى إنجاز علمي حقيقي.

ذاك ما ذهب بهم، بحسبه دائما، إلى تأسيس دار للترجمة وتبني نشر العلم والثقافة، من خلال استقطاب واحتضان خيرة العلماء والمفكرين والمترجمين آنذاك.

الحقيقة أن العصر الأموي، يقول أحمد أمين، كان في الجملة عصرا بدويا؛ ساد فيه العرب على غيرهم، هم الذين لم يتأصل فيهم ميل إلى الفلسفة والعلوم، في حين كان يعجبهم الأدب العربي. كانت لذة خلفائهم في الإصغاء إلى قصيدة، والاستفسار عن لفظ غامض وما إلى ذلك.

عوامل عديدة دفعت حركة الترجمة إلى البروز في العصر العباسي، منها مثلا أن الخلفاء شعروا، مع توفر الرخاء المادي، بضرورة تقدم العمران وتوسيعه. من ثم، صار بناء الجسور والسدود وغيره، بحاجة إلى علوم الهندسة.

لكن، إذ حل العصر العباسي، كان المسلمون قد اختلطوا بأمم عدة جعلتهم يمعنون في الحضارة. نقول هنا المسلمون، لا العرب، لأن الدولة الإسلامية بعد “الفتوحات” سادت فيها العناصر غير العربية، بخاصة منها الفارسية.

باختصار، رأى المسلمون، حينها، أن حياة الحضارة… لا بد أن تستند إلى العلم.

في الواقع، ثمة عوامل عديدة دفعت حركة الترجمة إلى البروز في العصر العباسي، منها:

أن الخلفاء شعروا، مع توفر الرخاء المادي، بضرورة تقدم العمران وتوسيعه. من ثم، صار بناء الجسور والسدود وغيره، بحاجة إلى علوم الهندسة؛

في نفس الوقت، كان المسلمون بحاجة إلى علوم تسهل عليهم القيام بواجباتهم الدينية، التي تحتاج إلى حساب وتقويم وتوقيت، هذا دون الحديث عن تسهيلها تنظيم شؤونهم المالية؛

كانوا بحاجة أيضا إلى أساس نظري يدافع عن الإسلام كدين، ومن ثم فالنظريات اليونانية بالنسبة للمتكلمين، دعامة ستسهل عليهم كثيرا الدفاع عن دينهم؛

ترجمة كتب الطب مثلا، جاءت لحاجة الناس إلى الطب، وترجمة كتب التنجيم جاءت لاعتقاد الخليفة المنصور بعلاقة النجوم بحياة الإنسان ومصيره.

البحث عن نقطة بدء في تاريخ الترجمة عربيا يقودنا إلى العصر الأموي، حيث سيطالعنا رجل اسمه خالد بن يزيد (توفي 704م).

خلاصة القول… إن ظهور الخلافة العباسية، واكبه تطور ثقافي هائل، تمثل في ترجمة التراث الإنساني عامة، واليوناني خاصة، إلى اللغة العربية.


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى