رهانات الثقافة
الثقافة بما هي معارف و خبرات، تشكل صلب الحضارة الإنسانية، و لأن الناس لا يتشابهون حد التطابق وقد وجدت ثقافات متنوعة و مختلفة باختلاف تاريخ الحضارات، فكانت منها الإنتاجات الفكرية و الأدبية والفنية، ليظهر النقد كفكر مواكب للإبداع،
فتم اكتشاف معيار الفنية و العمق الفكري، فيما يعبر به الإنسان عن وجوده، ما يحفظ به وحدته، و يضمن استمراريته و توازنه النفسي والروحي.
ومع ظهور الصراعات البشرية، وجدت الثقافة نفسها في خضم المواجهات، بين الحضارات أولا، ثم بين الفئات الاجتماعية للحضارة الواحدة، حيث اختلط السياسي و الإيديولوجي بالفني و الثقافي العام، و كانت هذه حالة مرت منها كل المجتمعات، لكن بمراحل متفاوتة، تاريخيا، لكنها أفرزت، توجهين، واحد حاول البحث عن حيادية معرفية، و فنية محايدة و آخر، اعتبر أن للثقافة فعلا في التاريخ.
و ليست مجرد إبهاج، أو نسيان للتعاسة العامة أو الخاصة، و لا مجرد مهرب مما تتطلبه السياسة من جرأة و قدرة على بذل الجهد و حتى الحرية دفاعا عن الحق و العدالة المنشودين، لكن من الملاحظ أن هناك مجتمعات، قطعت مراحل جد متقدمة، جوابا عن هذا الإشكال، وأخرى مازالت، تعيد تكرار المشكل بدون جرأة على حسمه، فكيف يحدث ذلك؟
و هل تأخر العالم العربي عن خوض غمار الإجابة عن الأسئلة الحارقة، أم أن تعددها لم يسمح بالحسم فيها؟
- ما هي ملابسات هذا التخلف و التأخر في الحسم؟؟
-1الحسم الأوروبي
عاشت أروبا مرحلة الانحياز لقضايا المجتمع، إذ انخرط في ذلك المثقفون و العلماء و الفنانون، و دفعوا أثمنة باهظة، دفاعا عن الحرية، و الفردانية، و الحق الشخصي في التدين، فاحتدت المعارك السياسية، و نتجت عنها ثورات، عصفت بالإرث التقليدي لأوروبا في مراحل متتالية و متباعدة، حسب درجة التطور الاقتصادي وحتى الإيديولوجي للدول المشكلة للقارة الأوروبية.
و مفاد ذلك، أن فكرة الالتزام نفسها، تبلورت بأوروبا، ودافع عنها الفكر الغربي، لحظة مواجهته للتخلف، و سيطرة المطلق، الديني و السياسي و العرقي أيضا، وعندما تحققت غايات التمدن، كان على الثقافة الأوروبية، أن تنتقل لفكر مغاير، متميز عن الانحياز الإيديولوجي و السياسي.
2- الثقافة الثقافية
هي فكرة، نزع الإيديولوجي عن المعرفة، و عدم استخدامه خصوصا فنيا في المواجهات السياسية، حفظا له و ضمانا لاتساعه، و إقبال الكل عليه، استهلاكا واطلاعا، لكن هذه الحيادية، ما كانت لتتحقق بدون الإنجازات التي وصلت إليها المجتمعات الغربية الأوروبية بالخصوص، حيث حققت العقلانية توازنات مهمة، في العدالة، و الحرية و الديمقراطية.
بحيث تقلصت التعاسات و تراجعت الاختلالات الاقتصادية و الاجتماعية، طبعا بدون نهاية للمشاكل التي يعانيها الإنساني الأوروبي، لكن حكوماته تملكت القدرة، على مواجهة البؤس بدل إخفائه، أو الدعوة للقبول به، بل فرض التسليم به، كحقيقة مطلقة تنضاف للإطلاقات العقدية و الإيديولوجية و العرقية و أحيانا حتى الوطنية كما تفهمها النظم الحاكمة في العالم العربي و الإسلامي.
3- الثقافة الحضارية
و معناها الوصول لفرض ثقافة خاصة باعتبارها عصارة للفكر الإنساني، أي الممثلة له إنسانيا، و بصيغة أخرى، العولمة، بما هي قبول بالآخر، و الذوبان فيه، إنسانيا، أو القبول بدرجة الاختلاف التي يريدها هو، ووفق فلسفته القائمة على تقديس الفردانية، لضرب كل نزوعات التضامن التي لازالت تحتاجها الكثير من المجتمعات غير الأوروبية، بحيث تمتد هذه الاختيارات للثقافة نفسها و الفنون، التي عليها أن تتمثل القيم الفنية الأوروبية أو تعبر عن اختلافيتها الفلكلورية.
كتعبير عن بدائية مبهرة للغرب أو معبرة عن المراحل التاريخية التي عاشها و يريد تذكير العالم بها، كماض له، تخلص منه، و تعيشه مجتمعات أخرى معاصرة له، لكنها متخلفة عنه، و عليها أن تقبل برياديته الثقافية و الفنية، و لن يتسنى لها ذلك بدون الدفاع عن حيادية الثقافة و الفنون في العالم العربي، الذي يحتاج لمثقفين فاعلين، و ليس محايدين، بادعاء عدم حاجة الثقافات و الفنون لغايات مسبقة،
لأن ذلك يمس بفعالية الفن و المعرفة، التي عليها أن تستقل عن السياسة خوفا من السياسيين، بدون أن تدرك هذه الجماعات، أن الارتباط بالغايات، ليس معناه الخضوع للساسة، فالسياسة ليست حكرا عليهم.
- خلاصات
عالمنا العربي في حاجة لمثقفين يصارعون لنشر ما به يعتبرون أنفسهم نخبة، و إلا فإن عالمهم سوف يزداد ضيقا، بنفور الناس منهم، و تقلص القراء، مما يشجع السلطة السياسة على المزيد من التنكر لهم، و التجاهل لمشاريعهم الثقافية، التي لا يمكن عزلها بشكل نهائي عما هو سياسي، و إن أمكن تمييزها عن مجمل الأنشطة الحزبية، و ما تمارسه الدولة من اختيارات، زاعمة أنها تصب في خدمة الثقافة.